أفكار وآراء

الحركات الانفصالية تهدد أمن واستقرار العالم !

11 أكتوبر 2017
11 أكتوبر 2017

عبدالعزيز محمود -

لم يكن الاستفتاء على استقلال كردستان الأول، ولن يكون الاستفتاء على انفصال كاتالونيا الأخير، فالحركات الانفصالية تنشط في مختلف أنحاء العالم، ولا تقتصر على الدول متعددة القوميات، بل تمتد إلى الدول القومية، ولا تتركز في الدول الشمولية، بل تشمل أيضًا البلدان الديمقراطية، وهي تطالب بالانفصال استنادًا لمبدأ تقرير المصير.

وبموجب هذا المبدأ المستقر في القانون الدولي منذ عقود طويلة، يطالب إقليم القرم بالانفصال عن أوكرانيا، والشيشان عن روسيا، والأبخاز عن جورجيا، والأرمن في ناجورنو كاراباخ عن أذربيجان، والأكراد عن العراق وسوريا وتركيا وإيران، والباسك وكاتالونيا عن إسبانيا، وجاليكيا عن إيطاليا، وبافاريا عن ألمانيا، والفلاندرز عن بلجيكا، واسكتلندا عن المملكة المتحدة، وهذه أمثلة فقط .

كما تطالب جامو وكشمير بالانفصال عن الهند، وبلوشستان عن باكستان، والتاميل عن سيريلانكا، والملايو عن تايلاند، والتبت والاويجور عن الصين، وروهينجيا وكاشين عن ميانمار، وفي إفريقيا تدعو ٥٣ مجموعة إثنية للانفصال عن دولها من بينها الطوارق عن النيجر ومالي، وبيافرا عن نيجيريا، وسيليكا عن إفريقيا الوسطى.

وتستند دعاوي الانفصال لأسباب سياسية، كما حدث في عام 1945 حين تفككت شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين شيوعية وأخرى رأسمالية، وأيضًا لأسباب دينية كما انفصل الكاثوليك عن البروتستانت في إيرلندا، وعرقية كما انفصلت بنجلاديش عن باكستان، وتلعب العوامل السياسية دورًا أكبر من الهوية في المطالبة بالانفصال.

وتناضل الحركات الانفصالية، وهي حركات سياسية وشعبية أحيانا، من أجل الحصول علي الحكم الذاتي أو الاستقلال، باستخدام وسائل العمل الدستوري (غير المسلح) كما حدث مؤخرا في كتالونيا التي تطالب بالانفصال عن إسبانيا، وأيضا باستخدام العنف المسلح (الأسلحة والمتفجرات) أو التهديد بها، ضد الدولة والجماعات العرقية أو الثقافية المناوئة، كما حدث في اكثر من دولة منها جنوب السودان قبل الانفصال عن السودان، وفي المقابل تعاملت الدول مع عنف الحركات الانفصالية بالقمع، كما حدث في بورما التي استخدمت القوة المسلحة ضد الروهينجا، أو بتحسين ظروف الأقليات، كما حدث في جنوب إفريقيا عام 1994 مع إجراء أول انتخابات متكافئة أسفرت عن انتهاء حكم الأقلية البيضاء، أو باعتماد نظام الفيدرالية غير المتماثلة، كما حدث في إسبانيا مع صدور دستور 1978، أو تسوية العلاقات في إطار الكونفدرالية أو الكومنولث.

وفي مرحلة ما تلجأ الحركات الانفصالية لإجراء استفتاءات حول الاستقلال، تمهيدا للإعلان عنه في وقت لاحق، كما حدث مؤخرا في كردستان العراق، وقد تتفاوض مع الدولة المركزية قبل إجراء الاستفتاءات، كما حدث في السودان، أو تجري استفتاءاتها دون اكتراث لمعارضة الدولة المركزية كما حدث مؤخرًا في كتالونيا في إسبانيا.

ورغم الدلالة الرمزية لتلك الاستفتاءات، لكنها في حد ذاتها لا تكفل الاستقلال، ما لم تعترف بنتيجتها الدولة المركزية والمجتمع الدولي، مما يجعلها خطوة يمكن البناء عليها لاحقا، وقد تنتهي الاستفتاءات بالرفض كما حدث في استفتاء اسكتلندا للاستقلال عن المملكة المتحدة عام 2014، وربما تتواصل المفاوضات بين الإقليم والدولة المركزية، كما حدث في مقاطعة كيبيك بكندا، بعد فشل استفتاءين على الاستقلال.

وقد يتم الإعلان عن الدولة الجديدة رغم عدم الاعتراف بها دوليًا، كما حدث في مالي حين أعلن الطوارق عن استقلال جمهورية أزواد عام 2012، دون اعتراف دولي، وهو وضع يظل قائما حتى تعترف بالدولة قوة عظمى أو أكثر.

وتتركز الحركات الانفصالية بشكل خاص في الدول متعددة القوميات والأعراق، التي تتكون من أمتين أو أكثر، خاصة مع تعرض الأقليات الإثنية للقمع أو التمييز، أو التطهير العرقي والإبادة الجماعية، كما حدث في بورما ورواندا، أو محاولة محو الهوية والثقافة واللغة والدين.

كما تنتشر في الدول التي تهيمن فيها مجموعة على الاقتصاد والسياسة، رافضة تقاسم السلطة والامتيازات مع المجموعات الأخرى، وفي البلدان الديمقراطية عندما تتنصل الحكومات من وعودها الانتخابية، وفي حالة حدوث فراغ سياسي أو تفكك الدول الكبرى، كما حدث عند تفكك الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1991، حيث تشعر أمة أو أكثر بأنها قد ألحقت بتلك الدول بطرق غير مشروعة. ومع تركز المعارضين لدولة في منطقة جغرافية واحدة ترتفع أصواتهم بالانفصال أو الحكم الذاتي، وقد تساندهم دول أخرى، تحاول استخدامهم لزعزعة الاستقرار وتحقيق مكاسب سياسية، عبر تأجيج الصراع المسلح بين الجماعات المتنافسة، في الدولة المستهدفة، وهو ما تمارسه روسيا في جورجيا وأوكرانيا، وقد يترتب علي ظهور حركات انفصالية، ظهور حركات انفصالية مناوئة أو مضادة.

وفي كل مجتمع إنساني كبير يمكن أن تتحول أي مجموعة عرقية أو ثقافية يختلف نمط حياتها عن الأغلبية إلى هدف للتمييز الجماعي، سواء كانت مستقرة وذات أغلبية عددية، كالسود في جنوب إفريقيا، أو كانت غير مستقرة وأقلية كالبدو الرحل وجماعات الغجر في أوروبا.

كما تتعرض للتمييز أيضا الجماعات المنتمية لأقليات دينية، خاصة عندما تكون الاختلافات الدينية مرتبطة باختلافات عرقية، وهنا تندلع حروب أهلية، كما حدث بين الهوتو والتوتسي في رواندا، مما دفع بعض البلدان لإصدار تشريعات لحماية الأقليات الدينية وتعزيز اندماجها مع الأغلبية. ورغم أن القانون الجنائي الدولي يمنح حقوقًا للأقليات العرقية أو الثقافية، في مقدمتها الحق في تقرير المصير، لكن الاعتراف بهذه الحقوق يتفاوت من دولة إلي أخرى، فالدول الجديدة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية لا تمنح حقوقا خاصة للأقليات، بينما توفر البلدان الأوروبية لها المستوى الأعلى من الحماية.

ونتيجة لتبني المجتمع الدولي لحق تقرير المصير، اتسع نطاق النزاعات والصراعات المسلحة في الدول متعددة القوميات والأعراق، وخضع رد فعل المجتمع الدولي تجاهها لاعتبارات السياسة وليس المبدأ، حيث تم منح الاستقلال بموجب حق تقرير المصير لأقاليم كأقاليم يوغسلافيا السابقة، بينما حرمت أقاليم أخرى من هذا الحق كتايوان وشمال قبرص وأوسيتيا الجنوبية وكردستان.

واستخدمت القوي الكبرى مبدأ تقرير المصير لتهديد سيادة الدول المركزية الأصغر، عبر دعم الحركات الانفصالية وتسليحها، مما ساهم في ظهور دول واختفاء أخرى وإعادة رسم الحدود في مناطق مختلفة من العالم.

وفي المقابل لجأت معظم الدول ذات السيادة إلى عدم الاعتراف بحق تقرير المصير كمبرر للانفصال، بالنص على ذلك صراحة في دساتيرها، بينما قررت دول أخرى استيعاب مطالب الأقليات وتحسين ظروفهم لتجنب انفصالهم.

وهكذا تبنت تلك الدول نظام اللامركزية بهدف إنشاء مناطق حكم ذاتي غير إقليمية، تتشكل فيها برلمانات محلية تتولى صلاحيات في حدود الإقليم، بينما تحتفظ الدولة المركزية بسيطرتها السياسية والقضائية والدفاعية والأمنية على كافة أراضيها، بالإضافة إلى تبني نظام الكومنولث وهو تجمع سياسي يضم عدة دول.

وفي حالات كثيرة أدى الاعتراف بالأقليات وتلبية حاجاتهم إلى إبداء استعداد أكبر من جانبهم للقبول بشرعية الأمة، والاندماج داخلها، مع احتفاظ كل أقلية بثقافتها وحريتها في ممارسة شعائرها، بشرط عدم وجود تدخل خارجي.

من ناحية أخرى تسبب عدم الاعتراف الدولي بحق بعض الأقليات العرقية أو الثقافية في الانفصال وتشكيل دول ذات سيادة، ان ظلت هذه تحت سيادة الدول المركزية، بل وحرمانها من الجنسية داخل تلك الدول، وحتى في الأقاليم التي أجرت استفتاءات على الاستقلال، أدى عدم الاعتراف الدولي إلى بقاء الأوضاع على ما هي عليه. وهكذا تلعب السياسة لعبتها وعلى نحو يعرض وحدة وتماسك دول وشعوب عديدة إلى التفكك بكل ما يترتب على ذلك من أضرار وخسائر لكل الأطراف، خاصة بعد أن ثبت أن التفتت لا يحل مشكلات ولا يؤدي إلى ازدهار

ومع اتساع نشاط الحركات الانفصالية في الوقت الراهن يبدو أن العالم مقبل علي مرحلة بلقنة جديدة، ربما تتطلب تحسين أوضاع الأقليات، وإعادة توزيع السلطة والثروة على أسس أكثر عدالة، وتبني أطر جديدة من الفيدرالية لمنح الحكم الذاتي، أو تبني الكونفدرالية وهي رابطة تضم في عضويتها دولا مستقلة ذات سيادة، لتجنب خطر الانفصال والتقسيم.

وإذا كانت بلقنة شرق وجنوب أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى قد تسبب في اندلاع الحرب العالمية الثانية، فالمؤكد أن بلقنة أي مناطق أخرى من العالم قد تؤدي إلى اشتعال حرب جديدة بشكل أو بآخر مما يهدد الأمن والسلام والاستقرار في عالم اليوم.