أفكار وآراء

ثمار الخريف

11 أكتوبر 2017
11 أكتوبر 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

تـأتي اجتماعات الخريف لكل من صندوق النقد والبنك الدوليين، والمنعقدة حاليا في واشنطن، في أجواء رمادية فعلا، ومتناسبة مع طقس الخريف الذي تعقد فيه هذه الاجتماعات عن حق. هناك من قد يذكر أن الاجتماعات المثيلة في العام الماضي قد عقدت في محيط يؤشر إلى أن حرية التجارة، والتي هي أحد أبرز اهتمامات الصندوق، تواجه مخاطر حقيقية، حيث كانت أصداء برنامج ترامب الانتخابي الانغلاقية تتردد بقوة، وتترك الكل حائرًا وسط السؤال: كيف يأتي التفكير في الانغلاق والانسحاب بهذا الشكل أو ذاك من العولمة ومعاكسة حرية التجارة واتفاقات التجارة الحرة من البلد الذي يعزي إليه إنتاج كل شعارات العولمة بل وتقديس بعضها وبصفة خاصة التجارة الحرة؟ . ظهر ما ظهر وفات ما فات واصبح موقف إدارة ترامب من التجمعات الأوروبية والآسيوية والامرلاتينية الساعية إلى اتفاقات تجارة حرة جماعية او تطوير ما هو قائم منها واضحا للكافة، كما تم الانسحاب من المباحثات الجارية عبر الأطلسي أو مع التكتل الآسيوي، ولذلك كان من الطبيعي هذا العام ان تتصدر التحديات أمام التجارة العالمية مقدمة اهتمامات صندوق النقد الدولي في تقريره عن الاقتصاد العالمي 2017 والذي ظهر للتو منذ أيام .

وجدير بالذكر أن البعض كان قد تحدث عن قيام الصندوق في العام الماضي بسحب عبارة ظهر منها إدانة الخطاب الترامبي، فيما يتعلق بالتجارة الحرة والخوف على مصيرها، بيد ـنه لا مجال هذا العام للمجاملات فالحقائق أصبحت واضحة. صحيح ـن التوقعات ليست متشائمة فيما يتعلق بالنمو العالمي والتجارة العينية والمبادلات بشكل عام، لكن العالم كله يعج بالقلق والاضطرابات لعوامل إقليمية ودولية على رأسها سياسات ترامب المربكة. تجاوز الأمر حد الانسحاب من هذه الاتفاقية التجارية المتعددة الأطراف أو تلك إلى ارتفاع راية «امريكا اولا» بشكل لافت، ما انتج مع عوامل أخرى، دعوات انفصالية متزايدة في العالم كله سياسية وجغرافية، وان لم تنعكس آثارها بالسلب بشكل كبير على التجارة العالمية بعد، لكن هذا المناخ الانشطاري لا يشجع بحال على النمو المستدام والاحتوائي بكل مشتملاته بما فيها تجارة سلع وخدمات قوية وعادلة.

إن أمام المشاركين بالاجتماعات ملفات أخرى لا تقل أهمية، فالإرهاب والعنف وفقدان الوظائف والاضطرابات الناتجة عن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية السريعة، وتفاقم الشعور بعدم المساواة، كل ذلك مع القضايا الخاصة بالشباب والمرأة والهجرة، أصبحت أيضا لا تقل إلحاحا وتستصرخ المجتمعين في واشنطن، وهم كما هو معروف محافظو بنوك مركزية وزراء مالية وتنمية اقتصادية وخبراء ومؤسسات مجتمع مدني، ان يبحثوها بعمق ويجدوا مسارات وحلولا أكثر منطقية وإنصافا قبل أن تعم الاضطرابات معظم أرجاء المعمورة.

سيتعين على وفود العالم النامي بشكل خاص أن تناقش بشفافية مع الأطراف المختلفة، التوجهات المستقبلية للنظام النقدي العالمي، ودور العملات الافتراضية أو الالكترونية في العقود المقبلة، وكيفية إدارة نظام مبادلات عادل في ظل التنامي المرتقب لدور مثل تلك العملات، وهناك أيضا قضايا ملحة تتعلق بالديون ومخاطرها ولا أقول واجبات دول الفائض المالي تجاه المدينين المتعثرين، أو حتى تجاه الديون ذات الرائحة الكريهة من الأساس (قامت على أسس فاسدة).

كانت دول العالم النامي قد قطعت أشواطا من خلال مجموعات مثل الـ77 في الضغط من أجل إيجاد حل شامل لأزمة الديون عالميا، وفي الوقت ذاته كانت حققت قدرا من التقدم فيما يتعلق بعدالة التبادل التجاري وكيفية جعل التجارة محركا حقيقيا للنمو المستدام وليس أداة يتم من خلالها شكليا رفع معدلات النمو في البلدان المستقبلة للاستثمارات، وواقعيا إعادة هيكلة اقتصاد تلك البلدان بما يخدم الدول الغنية وشركتها الكبرى، ويضر بشكل قاطع بتلك البلدان وطبقاتها غير القادرة. ضاع الكثير من تلك المكاسب في حمى العولمة الظالمة التي سادت في العقدين الأخيرين، والآن هناك ظروف تفتح المجال لإعادة التفاف مجموعات الدول النامية حول هاتين القضيتين مرة أخرى.

ثمة قضايا فرعية لكن لا يمكن إهمال التطرق إليها؛ لأنها مؤثرة من ناحية، وستعيش معنا آمادا طويلة بطبيعتها مثل قضية كيفية التعامل مع تزايد متوسطات الأعمار، والتي أصبحت ذات ارتباط مؤكد بالتراجع الملموس في الإنتاجية على المستوى العالمي، يقابلها أيضا من الناحية الأخرى الاحتياج الملموس في كل دول العالم -بلا استثناء تقريبا- لإيجاد أدوات تربوية وتعليمية وثقافية جديدة للتعامل مع النشء، في عمر ما قبل السبعة عشر عاما. هذا الجيل الذي يخضع بوتائر متزايدة لتأثيرات تكنولوجيا المعلومات والعالم المتداخل لم يعد ابدا مثل اقرانه في القرون الماضية منذ بدأ عصر التحديث والصناعة.

لقد كتب أحد الصحفيين العرب منذ أيام، واصفا وفد بلاده إلى هذه الاجتماعات بانه «الأضخم في تاريخها». كان العنوان غريبا، حيث لا يقاس الأثر الذي تتركه أي دولة في مثل هذه الاجتماعات بعدد المشاركين منها،  فضلا عن انه يمكن لأي مواطن في العالم ان يدخل على موقعي البنك وصندوق النقد الدولي للتسجيل للحضور، وغالبًا ما تتم الموافقة، حيث إن طالب التسجيل هو الذي سيتحمل التكاليف. اقصد من ذلك انه باستثناء عدد محدود من كل دولة يشكلون ما يمكن أن نسميه الوفد الرسمي ويكونون هم ضيوفا للبنك والصندوق ومعهم عدد محدود أيضا من الخبراء فان الباقين يذهبون على نفقاتهم، واخلص من ذلك إلى أن عدد المشاركين في الاجتماعات يصل إلى عدة آلاف بسبب ما قلته، وتظل المؤسستان تسمحان بالحضور إلى أن يصل العدد إلى الحد الأقصى لما يمكن للقاعات المختلفة ان تستوعبه، ومن ثم  لا معنى لأي حديث عن الضخامة هنا، لكن الأهم أن يكون لكل دولة أجندة نقاش ولقاءات واضحة، وان يكون لمجموع الدول النامية مع بعضها البعض، خطط واضحة لإدارة مناقشات معمقة حول الملفات ذات الطابع الثنائي أو الإقليمي أو الدولي، وعلى خلفية النضال الذي يجب أن يستمر للوصول للحق في التنمية العادلة المستدامة، وفي جني منافع منصفه من الاستثمار الأجنبي والتجارة الدولية، مع ضمان آليات تمويل عالمية محكمة وغير مشروطة للمشاريع التنموية المختلفة في تلك البلاد . المسألة ليست «هيصة» أو «فرح كبير»  بلغة عوام المصريين، ولكن المطلوب عمل جاد وواع، واستغلال كل دقيقة خلال الاجتماعات في استكشاف اتجاهات ووقائع وفرص، وتعزيز التعاون مع الشركاء الدوليين والإقليميين. من المؤكد أن وجود معظم وزراء المالية لدول العالم، ومعظم محافظي البنوك المركزية ووزراء الاقتصاد والاستثمار والتجارة في تلك المحافل، هو فرصة يصعب تعويضها، أو ربما يستحيل، لإجراء مقابلات ثنائية فعالة أو جماعية منسقة بهدف شرح الإصلاحات والفرص والسياسات في البلد المعني، أو فهم تلك الأمور ذاتها في البلد الآخر الذي تتم مقابلة وزيره أو مسؤوليه، وفهم تلك الملفات أيضا على المستويين العالمي والإقليمي. أشير أيضا إلى أن التواجد في مقرات البنك والصندوق في واشنطن والقريبة من وزارات الحكومة الأمريكية الكبري مثل الخزانة والزراعة والتجارة مفيدًا أيضا، لعمل زيارات من اختصاصي الدولة المتواجدة في الاجتماعات لها،  لفهم كواليس ما يدور في الإدارة الأمريكية مرتبطا بالأمور المالية والاقتصادية والتجارية . لا اقول كما يقال دائمًا أن صوت وزارة الخزانة الأمريكية هو عادة الصوت الأعلى تأثيرا في البنك والصندوق، ولكن أقول أن وزارة كهذه لابد ان تزار، ولكن على الزائر قبل أي شيء أن يبني أجندة دقيقة لجولته فيها او مقابلاته لمسؤوليها إذا سعى لذلك، أو إذا فعل ذلك على سبيل الوجوب لا الاختيار. يبقي القول أن اجتماعات هذا الخريف تأتي على بُعد أسابيع  قليلة من قمة «البريكس» الأخيرة التي انعقدت في الصين، والتي أوصت بشكل واضح وغير مسبوق بتشجيع التبادل بالعملات المحلية للدول، وإصدار سندات بها تشتريها الدول الأعضاء، وضرورة الإصرار على أن يكون النظام الاقتصادي العالمي وبصفة خاصة في جانبية النقدي والتجاري عادلا ومنصفا  ومتوازنا، وقد دل ارتفاع الصوت في «البريكس» بمثل تلك العبارات على مقدار ما وصل إليه زعماء دول هذا التجمع من شعور بالقوة الاقتصادية في بلادهم، وفي القدرة على تغيير أنماط التفاوض الدولي السابقة، بما يلبي إلى حد بعيد متطلبات العالم النامي. يمثل ما تقدم تحديا بالغا للمؤسسة النقدية الأمريكية ولصندوق النقد الدولي المنوط به بشكل أساسي ضبط نظم تسوية المدفوعات الدولية، فكيف سيتفاعل الحاضرون أو مسؤولو البنك والصندوق مع هذا المتغير الخطير؟  دعونا نسمع ونرى ؟!.