الملف السياسي

المنتصر هو الشعب الفلسطيني .. إذا نجحت المصالحة!!

09 أكتوبر 2017
09 أكتوبر 2017

د. عبد الحميد الموافي -

من المؤكد أن كثيرين من أبناء جيلي، والأجيال المعاصرة له، ما زالوا يذكرون ما حمله يوم الأول من يناير عام 1965 عندما أعلنت حركة الكفاح الوطني الفلسطيني «فتح» عن نفسها، بالقيام بأول عملياتها المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتبني مصر بقيادة الراحل الكبير جمال عبد الناصر لها، كان ذلك بمثابة ضوء ومولد أمل، في ظل عتمة الخلافات والنزاعات العربية، التي خيمت على الأمة العربية، والتي حاولت مصر فتح ثغرة فيها والعمل على إنهائها، وذلك من خلال الدعوة الى عقد قمة عربية في ديسمبر عام 1964، وفي 30 مارس 1968،

وبعد هزيمة يونيو 1967 كانت معركة الكرامة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، بارقة ضوء فلسطيني أخرى، في ظل عتمة التعثر والانكسار العربي، ومع أنها لم تكن الشمعة الوحيدة، فقد سبقها معركة رأس العش، وإغراق القوات المصرية للمدمرة إيلات الإسرائيلية، إلا أنها كانت مشحونة برمزية الأضرار على استعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية، واليوم، وفي ظل مجمل الظروف العربية الصعبة بالتأكيد، فهل ستكون المصالحة الفلسطينية، وبرعاية القاهرة ودعمها، شمعة ضوء قوية، في ظلمات الراهن العربي وجوانب التدهور التي تعبث في أكثر من ركن من أركان العالم العربي، وتحاول هدمه وتفنيته، وبث اليأس بين أبنائه؟ ومع اليقين بأننا نحتاج– عربيا– إلى شموع عديدة وقوية ونابعة أيضا من التربة واليقين العربي المتسامي على كل الجراح ومحاولات الهدم والتمدد الإقليمي والدولي، تظل الشمعة الفلسطينية، القادرة على إرسال ضوء الأمل إلى أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق، شمعة ضوء مهمة، نتلقفها بأمل، ونحيطها بالرعاية والحماية ضد أية رياح، حتى يشتد ضوئها وتستطيع أن تنير دائرتها وتتغلب على محاولات إطفائها أو كسرها.

وفي هذا الإطار، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هو هل ستكون المصالحة الفلسطينية، التي تم الإعلان عن التوصل إليها بين حركتي فتح وحماس الفلسطينيتين، بوساطة ورعاية القاهرة، والتي تم في إطارها عودة حكومة الدكتور «رامي الحمد الله» إلى غزة الأسبوع الماضي، الثاني من أكتوبر الجاري، تمهيدا لممارسة دورها، كحكومة وفاق وطني، في قطاع غزة والضفة الغربية، الشمعة الفلسطينية التي ننتظرها ونتطلع إليها؟ ومن المؤكد والطبيعي ان ذلك لن يكون، إلا إذا نجحت المصالحة الفلسطينية هذه المرة. ويجرنا ذلك أيضا إلى التساؤل حول أهمية المصالحة هذه المرة بالذات؟ على أية حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد، إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: إن هناك حاجة فلسطينية وعربية أيضا للنجاح الفلسطيني هذه المرة. صحيح أن النجاح مطلوب ومأمول كل مرة، طالما أن ذلك ممكن، ولكنه مأمول ومطلوب بشكل اكبر هذه المرة، لاعتبارين أساسيين، أولهما الاعتبار الفلسطيني فالأوضاع الفلسطينية وصلت درجة كبيرة من التدهور والتفتت، التي باتت تهدد بالفعل اللحمة والتماسك الفلسطيني، على نحو غير مسبوق، وليس في ذلك مبالغة، خاصة في ظل تعمق الانقسام بين حركتي فتح وحماس، وبين الضفة الغربية وقطاع غزة، وبعد ان امتدت الخلافات إلى كل شيء بين فتح وحماس، ومن ثم تاهت وشحبت المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا، التي تتجاوز أي فصيل، وتماهت أحيانا في مناورات وحسابات، أو قل تصفية حسابات، وتحالفات فتحت الشؤون الفلسطينية-على نحو غير مسبوق- لتأثيرات قوى إقليمية لا يهمها من القضية الفلسطينية إلا التلفح بكوفيتها وإيهام الكثيرين في المنطقة وخارجها، بأنها تتبني القضية، حتى وإن كانت تعمل فقط لصالحها هي، اليوم وغدا، خاصة أن الأمس لا يزال في ذاكرة الكثيرين بما حدث فيه، وبمواقفه، وبما تبنته كل الأطراف بالنسبة للفلسطينيين وقضية العرب المركزية. فأهمية اللحظة الراهنة تتمثل في أن التدهور الفلسطيني بلغ حدا لا يمكن استمراره، ولا السكوت عليه، وأن الحل هو في استعادة الوحدة الفلسطينية، بشكل جاد وحقيقي ومتين، وبما يكفي ليغير منحنى الهبوط اتجاهه ليرتفع بعد أن وصل إلى القاع. ولن يغير المنحنى اتجاهه ليرتفع مرة أخرى، إلا إذا توفرت العوامل والإرادة الكافية والدافعة لحدوث ذلك، فلسطينيا أولا وعربيا وإقليميا ودوليا أيضا.

أما الاعتبار الثاني فإنه الاعتبار العربي، ففي ظل الأوضاع العربية الراهنة، وبعد سنوات من معاناة «الخريف العربي»، وبعد انقسامات وخلافات وحروب وانتشار لميليشيات الإرهاب والتكفير العابرة للحدود، تحتاج المنطقة إلى لحظة أمل، تدعم وتشد من أذر ما تتزايد ملامحه في الظهور في أفق المنطقة هذه الفترة، ونعني به اندحار تنظيم داعش الإرهابي في سوريا والعراق، واليقين المتزايد بحتمية وضرورة الحل السلمي في اليمن وليبيا، لاستحالة الحل العسكري في أي منهما لاعتبارات كثيرة، ولنزوع مصر إلى القيام بدور اكثر نشاطا وقدرة على العمل من أجل محاولة لم الشمل العربي مرة أخرى، عبر مواقف بعيدة النظر وقادرة على رؤية نقاط الاتفاق بين الأشقاء والنفاذ إليها والعمل على زيادة مساحتها لصالح العرب وقضاياهم ككل، ومحاولة تكريس مبادئ العمل العربي المشترك والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية مرة أخرى، والسعي إلى الحيلولة دون نفاذ أو محاولة نفاذ القوى الإقليمية الطامحة إلى الداخل العربي والتلاعب به لصالحها، بشكل أو بآخر. والمؤكد أن تجاوز الخلافات الفلسطينية، يظل من أهم المداخل لتحقيق ذلك، خاصة أن القضية الفلسطينية تظل القضية العربية الجامعة، والتي يلتقي حولها الجميع في النهاية، بغض النظر عن أية خلافات أو مشاحنات أو منافسات فيما بينهم. وعلى ذلك فان نجاح جهود المصالحة الفلسطينية هذه المرة، هو أمر مفيد ومطلوب، بل وضروري فلسطينيا وعربيا أيضا.

*ثانيا : إنه من المعروف أن السنوات العشر الماضية، منذ استيلاء حركة حماس بالقوة المسلحة على قطاع غزة عام 2007، وسعيها إلى تحويل القطاع قاعدة لها ولتوجهاتها الأيديولوجية بشكل أو بآخر، شهدت اكثر من محاولة، واكثر من اتفاق للمصالحة بين حركتي فتح وحماس، وبرغم الأيمان المغلظة، وفي داخل الكعبة المشرفة ذاتها، وبرغم كل التعهدات والصيغ والاتفاقات والإجراءات التي اتخذت، الا انها لم تنجح في النهاية. ومع ذلك فانه ليس من المبالغة في شيء القول إن عوامل تأثير عديدة كانت تؤثر في سنوات العقد الممتد منذ عام 2007، تضاءل تأثيرها الآن بشكل غير قليل، وهو ما يمكن ان يساعد في إنجاح محاولة المصالحة هذه المرة. ففي عام 2017 فان السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة الرئيس محمود عباس في رام الله من ناحية، وسلطة حركة حماس ومعها حركة الجهاد الإسلامي وبعض الفصائل الفلسطينية الأخرى في قطاع غزة من ناحية أخرى، باتت أكثر إدراكا وقناعة بأن أيا منها لا يمكنها وحدها القيام بمهمة القيادة الفلسطينية بدون الدعم الحقيقي والعملي من الأخرى، صحيح يمكن لأي منهما إثارة مشكلات أو صعوبات مختلفة أمام الأخرى، كما حدث مؤخرا، حتى ولو بعمليات انتحارية للإحراج، ولكن الصحيح ان كلا السلطتين تدركان أنه آن الأوان لاستعادة الوحدة الفلسطينية، ومن ثم التخلي عن أوهام السيطرة المنفردة على الساحة الفلسطينية، أو حتى على منظمة التحرير الفلسطينية، التي لا تزال برغم كل ما تعرضت له، الممثل الشرعي والوحيد المعترف به عربيا ودوليا للشعب الفلسطيني، والتي يتعامل العالم معها على هذا الأساس.

يضاف إلى ذلك أن حركة حماس الفلسطينية، حاولت من جانبها استيعاب التغيرات والتطورات التي طرأت على الصعيد العربي في السنوات الأخيرة، وفشل محاولة جماعة الإخوان المسلمين السيطرة على الحكم والاستمرار فيه في مصر واكثر من دولة عربية أخرى، ومن ثم أصدرت حركة حماس وثيقتها الجديدة فبل عدة أشهر، ودفعت بقيادات جديدة لها لمكتبها السياسي وفي قطاع غزة، وكان التجاوب من جانبها مع المساعي المصرية مؤشر آخر على رغبتها، أو رغبة قيادتها الجديدة في استيعاب ما حدث من تطورات على المستويات المختلفة، والسير نحو استعادة الوحدة الفلسطينية مرة أخرى.

من جانب آخر، فإن المساعي المصرية لتحقيق اختراق إيجابي لصالح استعادة الوحدة الفلسطينية ولم الشمل الفلسطيني مرة أخرى، استند إلى عناصر ومنطلقات أتاحت الفرصة لبناء ثقة متزايدة وملموسة مع مختلف الأطراف الفلسطينية، دون الانحياز المسبق إلى جانب أي منها، والتأكيد دوما على الحفاظ على المصلحة الوطنية الفلسطينية التي تتجاوز مصالح أي فصيل، ومع أن القاهرة تدرك ان مساعيها تلك تثير بالضرورة قلق إسرائيل، الا أن إعلانها الواضح انها تعمل من اجل تسوية سلمية، شاملة ودائمة للقضية الفلسطينية وللنزاع العربي الإسرائيلي وعلى الأسس والمقومات المتفق عليها، وبدعم دولي أيضا، قلل ولو نسبيا من المعارضة الإسرائيلية لتلك الجهود، سواء بحكم التعاون المصري الإسرائيلي المتنامي، أو بحكم الإدراك الإسرائيلي المتزايد بأنه لا مناص من التسوية السلمية العادلة في النهاية، ولا مناص من التسليم بالجهود المصرية في هذا المجال أيضا، وبالطبع تحظى جهود مصر بدعم ومباركة عربية، داخل جامعة الدول العربية وخارجها، بغض النظر عن اية خلافات ثنائية، أو متعددة الأطراف، على هذا الجانب أو ذاك، هذا فضلا عن الدعم الدولي لتلك الجهود كذلك.

*ثالثا : انه مع الوضع في الاعتبار ان حركة حماس استجابت لمطلب الرئيس الفلسطيني محمود عباس حل اللجنة الإدارية في غزة، وأنها قدمت بالفعل ما يساعد حكومة رامي الحمد الله على القيام بمهامها في قطاع غزة، وأعلنت بوضوح عن تقديم كل التسهيلات الممكنة لها، وهو ما بدا واضحا في الاستقبال الكبير لحكومة الحمد الله في قطاع غزة قبل أيام، وهى خطوات ومواقف تحسب بالتأكيد لصالح حركة حماس، ورغبتها في إنجاح المصالحة، الا انه ليس من الصحيح التعامل مع الأمر، بين فتح وحماس، على انه تنازل من جانب، وشروط من جانب آخر، لسبب بسيط هو ان لا فتح ولا القيادة الفلسطينية في رام الله يمكنها فرض شروطها على قطاع غزة ولا على حركة حماس،بغض النظر عما يجري على الأرض أحيانا، ليس فقط لأن ذلك ليس من أساليب العمل الفلسطيني بين الفصائل الفلسطينية من الأساس، ولكن أيضا لأن ذلك ليس من وسائل أو أسباب النجاح التي ينبغي الأخذ بها والحرص عليها. خاصة وأن هناك من حاولوا النفخ في النيران التي لم تنطفئ بعد، بين حماس وفتح، بالحديث عن شروط وتنازلات وشروط مضادة وغير ذلك مما يوغر الصدور ويثير الشكوك بين الجانبين، في بداية رحلة تتطلب الكثير من الثقة المتبادلة والقدرة على إنكار الذات لصالح مصلحة الشعب الفلسطيني ككل. وفي ضوء ذلك فإن المنتصر في الحقيقة ليس حماس ولا فتح، ولكنه الشعب الفلسطيني وقضيته المركزية، إذا نجحت المصالحة. ومن المؤكد انه من المهم والضروري ان تنجح المصالحة الفلسطينية هذه المرة، ليس فقط حفاظا على المصالح الفلسطينية ومحاولة لصد الهجمة الإسرائيلية الشرسة والمتوحشة للاستيطان، ولكن أيضا استعدادا لمحاولة أمريكية لإعادة تحريك جهود السلام مرة أخرى، وهى محاولة لابد وان يكون الموقف الفلسطيني فيها أكثر قوة وتماسكا عن ذي قبل.

من جانب آخر فانه مع ادراك أن هناك قضايا وأمورا ومشكلات عديدة، حدثت وظهرت واستمرت على مدى السنوات العشر الماضية، وفي مقدمتها الأوضاع شديدة التدهور في غزة، وسلاح الجماعات الفلسطينية، ومستقبل منظمة التحرير، ومسؤوليات حكومة الوفاق الوطني الفلسطينية في غزة، ومسؤوليات الأمن في غزة، ورواتب العاملين الذين عينتهم حركة حماس، وسبل التنسيق وأدواته بين فتح وحماس، والدور الذي تقوم به مصر في ذلك كله، وانها كلها تحتاج إلى حلول عملية ومدروسة وبخطوات متدرجة، يتم بحثها اليوم بين فتح وحماس في اجتماعات القاهرة بينهما بمشاركة مصر، فانه من المؤكد ان الأمر لا يحتمل أية مناورات من جانب حماس أو فتح أو غيرهما، ولا يحتمل توريطا لاحد الأطراف، لتحميله مسؤولية الفشل – لا قدر الله – لأن النجاح أمر ضروري ومطلوب الآن، وانه في النهاية نجاح للقضية وللشعب الفلسطيني، الذي هو اكبر من الأشخاص والفصائل في النهاية. وإذا كانت مصر قد قامت وتقوم بهذا الإسهام الحيوي والضروري، فانه ينبغي دعمها ومساندة جهودها بإخلاص، لأنها تصب في النهاية في صالح الفلسطينيين والعرب، وفي صالح محاولة بناء السلام والاستقرار الذي افتقدته المنطقة وتتوق إليه شعوبها.