أفكار وآراء

الحوار بديلا للتصعيد.. لحل أزمة استفتاء كردستان

07 أكتوبر 2017
07 أكتوبر 2017

د. عبد العاطى محمد -

أحدث الاستفتاء على انفصال كردستان العراق صدمة سياسية رجت مواقع جميع الأطراف المعنية داخل العراق وفي الخارج. وكأي صدمة سياسية، فإن هناك مسارين لتأثيراتها هما إما التصعيد إلى حد المواجهة المسلحة، أو التهدئة والحوار وإيجاد تسوية سياسية. ولمنع التصعيد - تحسبا لتداعياته الخطيرة - توالت سريعا المبادرات من الداخل والخارج لاحتواء الأزمة.

دون إسرائيل لم يجد من أقدموا على هذا الاستفتاء من يؤيدهم سوى الدولة العبرية، وكان هذا كفيلا وحده بـتعزيز الشكوك وأوجه القلق عند من اعترضوا على إجرائه. ولكن الأيادي الإسرائيلية لم تكن هي السبب المباشر والحقيقي وراء ما جرى ، مع التسليم بوجودها، لأنها تصب في مصلحة إسرائيل، وإنما كانت هناك مشكلات مزمنة تراكمت عبر الزمن بين إقليم كردستان العراق والحكومة المركزية في بغداد، ومع المؤسسات الأخرى التي منحها الدستور العراقى الدائم الصادر 2005 صلاحيات حل المنازعات بين الأقاليم والحكومة المركزية.

ولا تقف هذه المشكلات عند المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وبعض المناطق الأخرى المتاخمة للإقليم والتي لم يتم حلها منذ سنوات بحكم الدستور نفسه، وإنما تتسع لتشمل خلافات سياسية وإدارية ومالية وأمنية رأى أكراد العراق أن إدارة الدولة الاتحادية في بغداد لا تأخذها مأخذ الجد حسب اعتقادهم. وازدادت حالة الإحباط لدى أبناء الإقليم بعد النجاحات التي تحققت بالنسبة لهزيمة «داعش»، حيث كان لقوات البيشمركة (القوة المسلحة لكردستان العراق) دور مهم في تحقيق هذه النجاحات، دون أن يتحقق مردود إيجابي لصالحهم من جانب السلطة الاتحادية، بل على العكس وجدوا صدا وخلافات حادة معها بخصوص المناطق التي جرى تحريرها وكان لهم دور بارز فيها. ولم تكن هذه المشكلات خافية لا على حكومة الإقليم بقيادة رئيسه مسعود برزانى ولا على الحكومة الاتحادية بقيادة حيدر العبادي وجرى طرحها للنقاش بين الجانبين قبل إجراء الاستفتاء دون الوصول إلى نتيجة، وشعر الأكراد بأن هناك تسويفا من جانب السلطة المركزية ومؤسساتها. بل إن الاستفتاء على الانفصال نفسه لم يكن سرا، حيث تحدث عنه برزانى أكثر من مرة من قبل. وعندما سئل ذات مرة قبل الاستفتاء ببضعة أسابيع قليلة عن سبب إصراره على إجرائه برغم كل الصعوبات التي يواجهها والرفض المتوقع سواء من السلطة المركزية أو الدول الإقليمية والدولية المعنية، رد بأنه لم يعد ممكنا إقامة علاقة جيدة بين الإقليم والمركز، وطالما ذلك لم يتحقق فلا مناص من أن يذهب كل طرف إلى حال سبيله، أي الانفصال، وعزز ذلك بأن هناك مطلبا شعبيا بخصوصه، استنادا إلى أن هذا هو من باب حق تقرير المصير الذي شرعته المواثيق والأعراف الدولية.

وبرغم كل ذلك، فإن الدعوة للاستفتاء على الانفصال شكلت صدمة في الداخل والخارج، لأنها لم تكن تلقى استجابة من أي طرف بمن فيهم الأمم المتحدة، باستثناء إسرائيل التي كانت قد رحبت في عام 2014 باستقلال كردستان، وذلك على لسان بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، وكذلك فور الإعلان عن إجرائه هذه المرة وكانت أول المرحبين بنتيجته.

وقد تركزت حجج الرافضين سواء من الداخل أو الخارج في 3 أنواع من الحجج. الأولى رأته أنه تصرف من جانب واحد، وذلك لا يجوز مطلقا في مثل هذه الحالات. وقال بيان للخارجية الأمريكية وبلسان تيلرسون وزير الخارجية إن الولايات المتحدة لا تعترف بنتائج هذا الاستفتاء، أي أنه من الآن فصاعدا لن تعتبر الإدارة الأمريكية نفسها ملزمة بهذه الخطوة (كأنها لم تكن). وبرر تيلرسون الرفض الأمريكي بأن التصويت والنتائج يفتقدان للشرعية، حيث لم تحترم السلطات الكردية العراقية الدور الدستوري للحكومة المركزية. وكانت دول أوروبية كبيرة قد ذهبت لنفس الموقف عندما رفضت إجراء الاستفتاء قبل تنفيذه، بمعنى عدم القبول بالتصرف أحادي الجانب.

ووفقا لتجارب مماثلة في مناطق أخرى من العالم فإن التوجه إلى الاستقلال أو الانفصال لا يصبح معترفا به إلا بتوافر إرادة الطرفين المعنيين أي حكومة إقليم كردستان والحكومة المركزية. ويقتضي الوضع في هذه الحالة اتفاق الطرفين وبقناعة تامة وإعلان صريح على إجراء تغييرات دستورية ومواثيق متبادلة تسمح بتمرير مثل هذه الخطوة، وهو ما لم يتم مطلقا في حالة هذا الاستفتاء. والسبب الكامن وراء التمسك بالموافقة المشتركة هو ضمان الأمن والاستقرار مستقبلا ليس فقط للطرفين المعنيين بل لدول الجوار وبقية العالم.

وأما النوع الثاني من حجج الرفض فقد تمثل في أن الاستفتاء على الانفصال جاء مخالفا للدستور العراقى الدائم الذي اعترف أصلا بشرعية الإقليم بعد أن كان في وضعية الحكم الذاتي ومنحه سلطات واسعة في كل المجالات بما فيها القوات المسلحة. وقد شارك الأكراد في صياغة هذا الدستور وكانوا أكثر العراقيين ترحيبا به، فلا يعقل يعد كل هذا أن يكونوا أول من ينقلب عليه كما حدث في واقعة الاستفتاء. وعلى سبيل المثال تؤكد المادة الأولى على أن العراق دولة اتحادية والدستور ضامن لوحدته، وتعتبر المادة 13 الدستور القانون الأسمى والأعلى في البلاد ويكون ملزما في أنحاء العراق كافة وبدون استثناء، وتذكر المادة 109 أن السلطات الاتحادية تحافظ على وحدة العراق ونظامه الاتحادي (يقصد بالسلطات هنا قوات الأمن الاتحادية والمؤسسات العليا كالوزارات ومجلس النواب والمحكمة الاتحادية العليا. وأما المادة 140 المعنية بالمناطق المتنازع عليها فهي تنص على أن كركوك (الغنية بالنفط) منطقة متنازع عليها وسينظر في مصيرها عبر استفتاء عام 2007 (وهو لاستفتاء الذي لم يتم حتى الآن). وفيما يتعلق بفض المنازعات فقد نصت المادة 93 في البند ثالثا على أن المحكمة الاتحادية العليا تختص بالفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية والقرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، كما تنص في البند رابعا على أن المحكمة تختص بالفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. ووفقا لما ورد في هذه المواد فإن الاستفتاء جاء بالمخالفة الصريحة للدستور. ووفقا لها أيضا جاء رد الفعل العنيف من الحكومة والبرلمان الذي لم يقض فقط بعدم الاعتراف بما جرى وإنما بفرض عقوبات على الإقليم اقتصادية ومالية.

وأما النوع الثالث من الحجج فقد حمل مضمونا سياسيا بالدرجة الأولى لأنه انصب على أن الاستفتاء يقضي على الشراكة الوطنية بين الأكراد وبقية العراقيين، تلك الشراكة التي تعود جذورها إلى عدة قرون وليس سنوات، حيث التراث الثقافي والتزاوج الاجتماعي والمشاركة في النضال من أجل الاستقلال الوطني. والملفت أن رئيس الدولة الحالي كردى وهناك عدد من الوزراء وكبار المسؤولين وأعضاء في البرلمان من الأكراد. كما لم يقتنع أصحاب هذه الحجج بأن كردستان العراق تعبر عن هوية قومية خالصة تتمحور حول البعد العرقي أو الأثني ممثلا في الكرد، حيث هناك طوائف أخرى إلى جانبهم وخصوصا في المناطق المتنازع عليها من المسيحيين والعرب والإيزديين والتركمان والآشوريين.

في ظل هذا المشهد الذي يقدم صورة مضادة للاستفتاء وللمخاوف الجادة التي تترتب عليه وتقديرا واقعيا لحجم المشكلات التي أدت إليه، سارعت شخصيتان بارزتان في الساحة السياسية العراقية هما إياد علاوى وأسامة النجيفي وكلاهما في أعلى مواقع المسؤولية وله كتلته المؤثرة داخل البرلمان بطرح مبادرتين تتفقان على منهج مختلف هو الحوار بدلا من الصدام السياسي والتهديد بالقوة المسلحة وينطلقان من أن هناك مشكلات سياسية حادة فعلا أدت إلى وصول العلاقة بين الإقليم والمركز إلى ما يشبه القطيعة ولا تتعلق هذه المشكلات بالإقليم وحده بل بإدارة الدولة العراقية عموما مما يحتم أن يكون الحل ضمن حل أشمل لأزمات هذه الإدارة.

تركزت مبادرة النجيفي حول رفض العنف وسياسة الأمر الواقع من أي طرف أو التصرف من جانب واحد وإيقاف الخطاب التحريضي المتبادل ومراعاة مطالب المكون السني العربي وأن كركوك لكل العراقيين ولا يجوز لطرف أن يفرض رأيه بالقوة والأمر الواقع وأن أي يحل يجب أن يأتي بموافقة الجميع واعتماد الحوار سبيلا وحيدا للوصول إلى حلول تحفظ وحدة العراق وتحقق مصالح الجميع. وأما علاوي فأكد أن المخرج لتسوية الأزمة هو بفتح باب الحوار دون شروط مسبقة والالتزام بالدستور وتدخل الأمم المتحدة عبر مبعوث دولي وأن يخضع مصير كركوك لما جاء بالدستور وأن يتوقف الجميع عن خطاب التصعيد والتهديدات المتبادلة. ووجدت مبادرة علاوي استجابة من برزاني. وعزز من المبادرتين أن السيستاني الأب الروحي لشيعة العراق طالب بالاحتكام للدستور وعرض المشكلة على المحكمة الدستورية العليا. كما ساندت الولايات المتحدة التوجه للحوار، وأبدت استعدادها للتعاون في هذه الشأن. بقي أن تستجيب مؤسسات الحكومة الاتحادية وحكومة كردستان لمنهج الحوار بإخلاص وتنفذ استحقاقاته بصدق ليبقى العراق موحدا وديمقراطيا ومستقرا، وإلا فإن البديل هو التقسيم والحروب الأهلية وعدم الاستقرار الإقليمي.