أفكار وآراء

البحث عن مفهوم شامل.. لمنظومة الأمن القومي العربي

07 أكتوبر 2017
07 أكتوبر 2017

محمد حسن داود -

«لم يعد هناك محل في الوقت الراهن للخوض في الأسس النظرية لبناء الدولة الوطنية وكيفية الحفاظ عليها، فقد سبق تناول هذا الموضوع أكثر من مرة في مناسبات عدة وبمقاربات مختلفة، إلا أن الواقع العربي الراهن يفرض معالجة مختلفة تعيد للأمن القومي العربي فاعليته المفقودة في إطار منظومة شاملة بمفاهيم مختلفة».

ربما يتطلب الأمر الحديث عن بعض الثوابت المهمة لتكريس فكرة الدولة الوطنية على أرضية المواطنة لكل أبناء الدولة الواحدة بمختلف توجهاتهم وفصائلهم العرقية والدينية والمذهبية، وإقامة أسس العدالة الاجتماعية والمساواة في توزيع الثروات والخدمات واحترام الدساتير والقوانين ومفاهيم الديمقراطية والحريات الخاصة وحقوق الإنسان، وكذلك الإسراع في إعادة بناء مؤسسات الدولة الوطنية مثل الجيش والشرطة على أسس وطنية واحترافية وليست مذهبية أو طائفية أو عرقية، لتكون قادرة على تحقيق الأمن والاستقرار وبسط سيادة القانون، ومواجهة التهديدات الداخلية وعلى رأسها خطر الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، والدفاع عن حدود الدولة ضد التهديدات الخارجية، ووقف كل أشكال التدخل الخارجي التي أفقدت الدولة الوطنية العربية استقلالها وسيادتها.

أضف إلى ذلك حتمية بلورة خطاب ثقافي وديني جامع لكل أبناء الوطن يرتكز على الاعتدال والتسامح والتعايش ومحاربة التطرف والغلو الذي أدى لنمو ظاهرة الإرهاب، وكذلك معالجة كل أشكال التهميش والفجوات الكبيرة بين أبناء الدولة وتحقيق التكامل الوطني جغرافيا وسياسيا واقتصاديا، بما يكفل سيادة حالة السلام و الاستقرار في كل ربوع الدولة وتعميق الانتماء لدى أبناء الوطن الواحد لحفزهم دوما على الدفاع عن بقاء دولتهم ووحدة أراضيها، وإذا كانت منظومة الأمن القومي العربي -التي لم تتبلور بشكل واضح على مدار عشرات السنوات الماضية- لم تنجح في حماية الأمن العربي وسلامة الدول، إلا أن المنطقة باتت أحوج ما تكون إلى العمل وبمنتهى الجدية لبلورة مفهوم شامل وجديد لمنظومة الأمن القومي العربي، ولو من قبيل انقاذ ما يمكن إنقاذه، ودرءا للمخاطر الجسيمة التي تهدد كيانها وبقاءها بالفعل، نتيجة عوامل وظروف داخلية خطيرة، وتدخلات وضغوط خارجية أشد خطورة انتقلت بنا من « سايكس – بيكو الجيوسياسية» عام 1916 إلى «سايكس – بيكو المذهبية» عام 2016 وفي الحالتين تدفع الدولة الوطنية العربية ثمنا باهظا لهذه التدخلات وغياب رد الفعل العربي القوي.

وليس أدل على ذلك من أنه في أبريل 2006 نشر معهد «جلوبال ريسيرش» الكندي مقالا لجاري هلبرت تحدث فيه عن وجود مخططات أمريكية بتوافق روسي إسرائيلي أوروبي لتقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس إثنية وطائفية، وأكدت الدراسة أن نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني ونائب وزير الدفاع الأسبق بول وولفويتز كانا من أبرز المؤيدين لفكرة التقسيم، وفي نوفمبر 2006 نشر معهد «جلوبال ريسيرش» ذاته تقريرا آخر، تحدث فيه الكاتب عن إمكانية أن تشهد المرحلة «المقبلة» بذل جهود استخباراتية لتشجيع الأقليات في المنطقة للمطالبة بكيانات سياسية مستقلة.

وليس خافيا – على سبيل المثال - أنه مع انطلاق الثورة السورية في عام 2011 وتحولها إلى حربٍ أهلية مدمرة، عملت إسرائيل على إطالة أمد هذه الحرب وإضعاف سوريا إلى أقصى درجة ممكنة. وبظهور دولة تنظيم «داعش» في الموصل والرقة عام 2014 أخذ قادة إسرائيل ومنظّروها يروجون لمقولة إن سوريا الموحدة قد انتهت، ولم يعد بالإمكان إعادة تشكيلها، وأن تقسيمها على أسسٍ طائفية و إثنية وجهوية بات أمرا واقعا. وعلت أصوات تدعو لاستثمار الحرب في سوريا ليس لدفع خيار تقسيمها فحسب، وإنما أيضا من أجل مطالبة المجتمع الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، للاعتراف بضم إسرائيل لهضبة الجولان السورية المحتلة ومنح هذا الضم شرعيةً دوليةً، في استفادة صريحة من انهيار الدولة الوطنية السورية المفروض من الخارج، والذي يمكن تكراره -بل والمطلوب تكراره- في أكثر من دولة عربية أخرى بزرع الفتن والانقسامات والحروب الأهلية في الداخل.

وفى السياق ذاته دعا تسيفي هاوزر، المقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو والذي شغل منصب سكرتير الحكومة في السنوات 2009-2013 في مقالٍ له تحت عنوان «فرصة تاريخية في الجولان» إلى استغلال الظروف الجديدة التي نجمت عن الحرب في سوريا وانهيار الدولة السورية والتغييرات في الشرق الأوسط، للعمل بكل جهد من أجل أن يعترف العالم بضم إسرائيل للجولان ومنحه شرعية دولية، وأكد هاوزر أنه يتعين على إسرائيل، التي عجزت عن إفشال توصل الدول الكبرى إلى «اتفاق سيئ» - حسب زعمه - مع إيران بشأن ملفها النووي في صيف العام 2015،أن تبذل الجهد للحصول على تعويضٍ إستراتيجي ملائمٍ من الولايات المتحدة،على ألا يقتصر هذا التعويض على تقديم الأسلحة النوعية الحديثة لإسرائيل فحسب، وإنما يمتد ليشمل اعتراف واشنطن بضرورة بقاء الجولان السوري تحت السيادة الإسرائيلية، عبر وعد رئاسي من البيت الأبيض وقانون من الكونجرس، وأشار هاوزر إلى أن الجولان السوري المحتل، بخلاف المناطق الفلسطينية المحتلة لا يمثل مشكلةً ديموغرافية لإسرائيل لأنه يوجد به 24 ألف سوري فقط، بعدما شردت إسرائيل غالبية سكانه، مقابل21 ألف مستوطن يهودي.

والمثير في الأمر، وما يؤكد حجم المؤامرات الخارجية، ربما تمثل في رد حاسم من نتانياهو على مسودة ورقة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا للحل في سوريا والتي جاءت في 12 بندا ونص البند الأول فيها على : «احترام سيادة سوريا واستقلالها ووحدة وسلامة أراضيها، ولا يجوز التنازل عن أي جزءٍ من الأراضي الوطنية ... وأن الشعب السوري مازال ملتزماً استعادة مرتفعات الجولان المحتلة بالوسائل السلمية»، قام نتانياهو بخطوتين استعراضيتين مهمتين في أبريل 2016؛تمثّلت الأولى بزيارة هضبة الجولان السورية المحتلة أثناء قيام الجيش الإسرائيلي بتمرين عسكري فيها، فأعلن من هناك أن الجيش الإسرائيلي نفذ عشرات الهجمات ضد أهداف في سوريا خلال الفترة الأخيرة، وذلك بخلاف السياسة الإسرائيلية المتبعة التي دأبت طوال السنوات الماضية على عدم الإعلان عن عمليات إسرائيل العسكرية في سوريا. وقد عد بعض المحللين الإسرائيليين أن نتانياهو وجه تصريحه هذا أساسا إلى القيادتين الأمريكية والروسية بغرض تذكيرهما بضرورة أخذ مصالح إسرائيل في الحسبان في أي حلٍ سياسيٍ للحرب في سوريا، ولا سيما في ما يخص مطلب إسرائيل الاحتفاظ بالجولان المحتل.

أما الخطوة الثانية، والتي جاءت بعد نحو أسبوع من خطوته الأولى، فتمثلت في سابقة كانت الأولى من نوعها منذ احتلال إسرائيل للجولان قبل زهاء نصف قرن خلا من الزمان حيث أقدمت الحكومة الإسرائيلية في السابع عشر من أبريل 2016 على عقد اجتماعها الأسبوعي في هضبة الجولان السورية المحتلة، واستهل نتانياهو ذلك الاجتماع المشؤوم بالتأكيد على أن هضبة الجولان ستبقى تحت سيطرة إسرائيل «إلى الأبد»، وأن إسرائيل لن تنسحب منها تحت أي ظرف، وبدوره قام نتانياهو بزيارات عديدة ومتوالية إلى موسكو خلال السنوات القليلة الماضية، سعى من ورائها إلى جانب رفع مستوى التنسيق العسكري والأمني بين إسرائيل وروسيا بخصوص نشاطهما العسكري في سوريا، العمل على إفشال أي حل سياسيٍ للأزمة السورية من شأنه أن يحافظ على وحدة أراضي الدولة السورية ويعيد الجولان المحتل إليها، وقد حرص نتانياهو على التشديد خلال تلك الزيارات، على أن بقاء الجولان تحت السيادة الإسرائيلية يعد خطا أحمرا بالنسبة إلى إسرائيل، التي أكد على أنها لن تنسحب منه، سواء تم التوصل إلى حلٍ سياسي للأزمة السورية أم لا .

وما من شك في أن الحقائق السابقة ليست إلا الرأس البارز من جبل الجليد الغاطس بشأن المؤامرات الخارجية لتفتيت «الدولة الوطنية العربية» بمزيد من التقسيم الذي تجلى في أكثر من مناسبة سابقة ومن خلال وثائق عديدة، كشفت مثلا عن خرائط لتقسيم دول عربية عديدة إلى دويلات صغيرة بلغ عددها 13 دويلة على خريطة دولة واحدة ! وليس خافيا أيضا المقولة الشهيرة للسياسي الأمريكي الأشهر هنري كيسنجر وحديثه عن «حرب المائة عام المذهبية» في الشرق الأوسط وهي في الغالب أساس إعادة تقسيم المنطقة بقوة «السلاح» من جانب القوى الخارجية، مستغلة في ذلك غياب المنظومة الواضحة للأمن القومي العربي والتي من شأنها توفير حد أدنى من الحماية للدولة الوطنية العربية التي باتت بالفعل في مهب الريح.