abdallah-75x75
abdallah-75x75
أعمدة

هوامش... ومتون: أعزّ الناس..!

07 أكتوبر 2017
07 أكتوبر 2017

عبدالرزّاق الربيعي -

[email protected] -

ذات يوم، كنت في الطريق بسيارة صديق يعمل معلّما، فجأة، استوقفتنا مفرزة تفتيش مرورية، كانت تمارس واجبها بتدقيق أوراق أصحاب السيارات، وهو أمر عادي، يحدث كثيرا، ولكن غير العادي أن شرطي المرور حين نظر إلى صاحبي، ملأت وجهه ابتسامة عريضة، وغمرته غبطة، ثم رفع يده بالتحية، وكأنه أمام ضابط في الجيش، ثمّ مدّ يده مصافحا صاحبي، قائلا له: ألست أستاذ فلان الفلاني المعلم في المدرسة الفلانية؟ أجابه: نعم، فازدادت فرحته، حتى فاضت عن ابتسامة عريضة، ثمّ قال مخاطبا إيّاه: أنت لا تعرفني، بالطبع، لأنني كنت صغيرا عندما درّستني في المرحلة الابتدائية، ولكن بقيت صورتك راسخة في ذاكرتي إلى هذه الساعة، فشكره، ومد يده إلى أوراق السيارة، فقال له الشرطي: سر على بركة الله، أنت الذي علمتني القراءة، والكتابة، هل لي عين تنظر وتقرأ أوراق رجل علّمني، وربّاني؟ فكرّر صاحبي عبارات الشكر، وودّعه، وظلّ يتحدّث بسعادة عن مواقف مشابهة، جوبه خلالها بحفاوة تليق بمن يفني عمره في خدمة الأجيال، وتعليمها، حتّى كاد أن يكون «رسولا» كما يقول الشاعر أحمد شوقي، وجميع من عرف قيمة رجل « يبني وينشئ أنفساً، وعقولا»، حين يعلّم الطبيب، والمهندس، والصيدلاني، والموظف، وهي مهمّة صعبة، فبناء البيوت سهل إزاء بناء النفوس، والعقول، وإذا كنت مع صديقي سرنا في الطريق بعد توديع الشرطي الذي ظلت عيناه عالقتين بالسيارة، فإنّ قوانين جامعة (كمبردج) تبيح للمعلمين السير على العشب المزروع في محيط ممرات كليات الجامعة، كما رأينا خلال زيارتنا الجامعة، قبل سنوات قريبة، وهو أمر غير مسموح به لسواهم تمييزا لهم على الآخرين، وعرفانا بدورهم في المجتمع، وعلوّ قدر المعلّم مؤشّر حضاري، هذا العلوّ بلغ في اليابان أن أعطته راتب وزير! وهذا سر ّمن أسرار التطوّر التكنولوجي فيها، كما صرّح رئيس وزرائها، لأنّها رفعت مكانة المعلّم، هذه المكانة سرّ من أسرار تفوّق أمتنا في عصورها الزاهرة، فقد احتلّ المعلّم مكانة مرموقة في مجتمعنا العربي على امتداد التاريخ، ويكفي أنّ رسولنا الكريم (ص) حين عرض عليه أمر أسرى( بدر) من المشركين جعل حريّة الأسير مكافأة له، إذا علّم عشرة من المسلمين، القراءة، والكتابة، تقديرا لمكانة العلم، والمعلم، ويقال أن الصحابي زيد بن ثابت كان ممن تعلّم الكتابة والقراءة على يد أحد هؤلاء الأسرى.

وفي كتب التراث إشارات لهذه المكانة منها استقبال أفراد من الحرس والشرطة لهارون الرشيد، خليفة المسلمين العبّاسي، عندما قدم إلى (الرقّة) من (بغداد)، بينما عندما قدم عبد الله بن المبارك، وهو معلّم، خرج الناس عن بكرة أبيهم لاستقباله، وهناك خبر آخر عن (الكسائي) العالم المعروف مربّي الأمين، والمأمون ابني هارون الرشيد، فبعد انتهاء الدرس في أحد الأيام، قام الإمام الكسائي، فذهب الأمين، والمأمون ليقدّما نعلي المعلم له، فاختلفا فيمن يفعل ذلك، وأخيراً اتّفقا على أن يقدم كل منهما واحدة، وحين وصل الخبر مسامع الرشيد، استدعى الكسائي وقال له: من أعزّ الناس؟ قال: لا أعلم أعزّ من أمير المؤمنين قال: بلى،إنّ أعزّ الناس من إذا نهض من مجلسه تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين، حتى يرضى كل منهما أن يقدمّ له واحدة، فظنّ الكسائيّ أن ذلك أغضب الخليفة، فاعتذر، لكنّ الرشيد قال: لو منعتهما لعاتبتك، فإن ذلك رفع من قدرهما».

ومثلما أكرم الرشيد معلّم ولديه، حثّ الشاعر العربي على إكرام المعلم وحذّر من جفائه، لأنّ هذا الجفاء يعني سيادة الجهل بقوله:

إنَّ الْمُعَــلِّمَ وَالطَّبــِيبَ كِـلَاهُـمَا َا يَنْصـَحَانِ إذَا هـُمَا لَمْ يُكْـرَمَا

فَاصْبِرْ لِدَائِك إنْ أَهَنْت طَبِيبَهُ وَاصْبِرْ لِجَهْلِك إنْ جَفَوْت مُعَلِّمَا

لذا استغربت حينما مرّ يوم المعلم العالمي الذي يوافق الخامس من أكتوبر من كل عام، مرورا يؤشّر لوجود جفوة حضاريّة !

وقد يقول قائل إنّ تصدّي معلّمين غير أكفّاء لهذه المهنة، ساهم في صنع هذا الجفاء الذي بلغ حدّا ضارّا، انعكس سلبا على العملية التربوية، والتعليمية، والمجتمع في وقت لا توضع المعرفة كمعيار أساسيّ في التقييم، بسبب التراجع الحضاري الذي منيت به الأمّة، فأثّرت على المنزلة التي كان يتمتّع بها المعلّم الذي يبقى «أعزّ الناس» كما رأى هارون الرشيد!