المنوعات

حوار بين نيل جايمان وكازو إيشيجيرو

05 أكتوبر 2017
05 أكتوبر 2017

هيا نتكلم عن النوع -

ترجمة: أحمد شافعي -

قبل سنوات قليلة نشر كازو إيشيجيرو روايته «العملاق الدفين» فأثارت لغطا كبيرا حول أدبيتها نفسها، ومدى جدارتها بأن تكون ضمن «الأدب الرسمي» لا «الأدب النوعي» الذي لا يلقى في الغالب إلا الاستخفاف من قراء الأدب الجاد وسدنته. استدعى ذلك اللغط أن يجري نيل جايمان وهو من أساطين كتابة الأدب النوعي الفنتازي هذا الحوار مع كازو إيشيجيرو. نعيد هنا نشر ترجمة الحوار بمناسبة فوز إيشيجيرو بجائزة نوبل.

استضافت جريدة نيوستيتسمان أخيرا الروائي البريطاني نيل جايمان محررا ضيفا بها. وكان جايمان قد نشر في الأسابيع الأخيرة مقالة في نيويورك تايمز استعرض فيها رواية «كازو إيشيجيرو» الصادرة حديثا بعنوان العملاق الدفين، فأثارت المقالة جدالا حول الحد بين رواية الفنتازيا والرواية الأدبية. في عدد خاص من نيوستيتسمان اجتمع الروائيان نيل جايمان وكازو إيشيجيرو في هذا الحوار الذي تناول التعالي على الروايات النوعية [كروايات الفنتازيا والإثارة والجاسوسية وغيرها] والتعليم وأهمية الكتب.

***

نيل جايمان: هيا نتكلم عن النوع. لماذا هو مهم؟ روايتك «العملاق الدفين» لم تنشر بوصفها رواية فنتازيا، برغم أنها تحتوي على قدر رهيب من العناصر التي يألفها قراء الفنتازيا، ويبدو أنها أثارت الناس من كلا خندقي الأدب. فقالت أورسولا لو جوين ـ وهي من أهل الفنتازيا ـ إن روايتك هذه «فنتازيا، وإن رفضك وضعها في عباءة الفنتازيا دليل على استهانتك بالنوع» وإن كانت تراجعت أخيرا عن قولها هذا، وهناك ميتشيكو كاكوتاني في نيويورك تايمز التي استعرضت الرواية بقدر كبير جدا من الارتباك. في الوقت نفسه لم يجد كثير من القراء والنقاد مشكلة في تحديد تصنيف الرواية فاستمتعوا بها استمتاعا شديدا.

كازو إيشيجيرو: لقد شعرت كما لو كنت وقعت في خضم نقاش كبير كان قد بدأ قبل فترة. صحيح أنني كنت أتوقع من بعض قرائي المعتادين أن يقولوا «ما هذه الرواية؟ هناك غيلان فيها...» ولكنني لم أتوقع هذا الحجم من الجدل. ما سر انشغال الناس بهذه الدرجة؟ ماذا يكون النوع أصلا؟ من الذي اخترعه؟ لماذا يبدو وكأنني اجتزت حدًّا من نوع ما؟

جايمان: أتصور أنك لو كنت روائيا يكتب في العشرينيات أو الثلاثينيات [من القرن الماضي] لقيل ببساطة إنك أصدرت رواية أخرى. فحينما أصدر تشارلز ديكنز رواية «A Christmas Carol «لم يقل أحد آه، ها هو الروائي الاجتماعي المحترم يتحول فجأة إلى روائي فنتازي: انظروا هناك سحر وأشباح».

إيشيجيرو: هل يحتمل أن ما نحسبه حدودا بين الأنواع ليس إلا أشياء اخترعتها صناعة النشر في الفترة الأخيرة؟ يمكنني أن أرى أن هناك مجالا للقول بأن هناك أنماطا معينة، وأن بوسعك أن تقسّم القصص وفقا لهذه الأنماط، وربما يكون التقسيم نافعا. ولكنني أقلق كثيرا حينما يتعامل القراء والكتّاب مع هذه الحدود بأكثر مما ينبغي من الجدية، ويرون أن شيئا غريبا قد وقع حينما تتجاوزها، وأنك لا بد أن تفكر مليّا قبل أن تفعل ذلك.

جايمان: يعجبني النظر إلى الأنواع كما لو كانت أماكن لا يحق لك دخولها ما لم تكن من أهلها، وإلا فإن الناس هناك سوف ينظرون إليك شزرا ويقولون لك «اذهب يا عمّ فاعبر هذا السور إلى الخيال العلمي لأنك هناك سوف تكون أسعد حالا...»

إيشيجيرو: أو «تعال هنا إن شئت لكنك سوف تضطر إلى الامتثال لقواعدنا».

جايمان: أعتقد أن هناك فارقا ضخما، على سبيل المثال، بين رواية فيها جواسيس ورواية جاسوسية، أو رواية فيها رعاة بقر ورواية [من «نوع» روايات] رعاة البقر.عندي نظرية مجنونة بأنني بدأت أتطور حينما قرأت كتابا بعنوان « Hard Core» لـ ليندا وليمز أستاذة السينما في كاليفورنيا، وكان من أوائل الكتب التي تحلل الأفلام الإباحية العنيفة بوصفها نوعا سينمائيا مستقلا. قالت إن عليك لكي تفهم هذا النوع أن تفكر في الأفلام الاستعراضية musicals، فالحبكة في الأفلام الاستعراضية توجد لإيقاف جميع الأغاني عن الحدوث جملة واحدة، ثم تنقلك من أغنية إلى أغنية. وأنت تحاج إلى الأغنية حيثما تتوق البطلة إلى ما لا تمتلكه، وتحتاج الأغنيات حيثما تفعل الجوقة كلها شيئا مثيرا مبهجا، وتحتاج الأغنية عندما يجتمع الحبيبان، وفوق ذلك كلها تحتاجها في لحظات التحول، والنصر.

فكرت أن «هذه بالفعل طريقة للنظر إلى جميع الأنواع الأدبية» لأن هناك أشياء يبحث عنها محبو النوع في روايات هذا النوع: أشياء تدغدغ، وتشبع. فلو أن الرواية من نوعية روايات رعاة البقر، نكون بحاجة إلى معركة في الحانة، ونحتاج الشرير أن يأتي ممتطيا حصانه إلى البلدة ويكون في انتظاره الطيب. أما الرواية التي تجري أحداثها في:الغرب [الأمريكي] القديم» فلا تحتاج بالفعل إلى تقديم أي من هذه الأشياء ـ برغم أنها قد تتسبب لقراء روايات رعاة البقر في الشعور بالخيبة على نحو خاص لعدم حصولهم على لحظات تشبع معينة.

إيشيجيرو: علينا إذن أن نميِّز بين شيء هو جزء من جوهر النوع وأشياء لا تعدو سمات فيه. فالاشتباكات المسلحة من سمات روايات الغرب، لكنها قد لا تكون ضرورية لتجعل القصة جاذبة.

جايمان: نعم. ومن الأشياء التي فتنتني في «العملاق الدفين» هي أن فيها مواضع كثيرة يتصارع فيها الناس بالنصال الحادة، ويموت ناس، وفي كل حالة يحدث القتال بالسرعة التي قد يحدث بها في الحياة الحقيقية وينتهي بغتة وغالبا بدون إشباع: حيث تسقط الشخصية على العشب وينسرب منها ما يشبه ثعبانا أحمر تدرك فجأة أنه «دم!» وتقول لنفسك «ليس هذا ما يتوقعه قارئ الفنتازيا من قتال جيد بالنصال كان ليسير على نحو آخر».

إيشيجيرو: الحقيقة أنه لو كان في ذهني النوع وأنا أكتب مشاهد القتال فهو نوع أفلام الساموراي والغرب الأمريكي. ففي أفلام الساموراي يحملق الأعداء القتلة في بعضهم البعض لوقت طويل، ثم يحدث قتال خاطف وينتهي كالبرق.

ما الذي كنت تتوقعه مني لو كنت كاتبا يكتب الفنتازيا؟ أن أجعل الناس يتكلمون وهم يتضاربون بالسيوف؟

جايمان: كنت لتمتلك بالقطع سيوفا بارقة. ومن أعمال الفنتازيا الرائجة في الثلاثينيات رواية «السيف والسحر» حيث تجد متحاربين بنصال ضخمة، يتكلمان، ويتصادمان ويصرخان... فتخرج من المعركة بنصف صفحة متماسكة، ولعل جزءا من أسباب ذلك هو أن كتاب تلك الرويات كانوا يحصلون على أجرهم بحسب عدد الكلمات.

إيشيجيرو: عندما جئت إلى بريطانيا للمرة الأولى وأنا في الخامسة، كان من الأشياء التي صدمتني في الثقافة الغربية ما رأيته في مشاهد القتال في أفلام مثل زورو. كنت في ذلك الوقت منغمسا في تراث الساموراي حيث تحضر جميع مهاراتهم وخبراتهم في لحظة واحدة فارقة بين الفائز والخاسر، بل هي فارقة بين الحياة والموت. تراث الساموراي كله هكذا، سواء الأعمال التافهة أم أعمال كيروساوا الفنية. وكان ذلك جزءا من سحر وتوتر القتال بالسيوف بالنسبة لي أنا على الأقل. ثم رأيت أمثال باسيل راثبون يلعب دور شريف نوتنهام أمام إيرول فلاين في دور روبن هود، ويجري بينهما حوار طويل ومسهب وهما يتقارعان بالسيوف، واليد التي لا تحمل السيف تقوم بهذا النوع من التلويح في الهواء، وبدا أن الفكرة هي أن تدفع بخصمك إلى الحافة بينما أنت وإياه منخرطان في حوار طويل مصطنع حول الحبكة.

جايمان: نحن الآن نقفز من سمة في تراث نوعي معين إلى أخرى.

إيشيجيرو: أنا مغرم بأعمال الغرب الأمريكي، لا سيما المتأخرة منها. فابتداء من الخمسينيات أصبحت المعارك مدروسة وأميل إلى التأمل. تجد لحظة صمت أطول قبل أن يتواجه الناس ويشهروا أسلحتهم. فكرة المواجهة بين اثنين ـ والتي لا معنى لها حينما تفكر في شروط الصراع الحقيقي حيث من الأفضل بكثير أن تتسلل وتضرب عدوك من الخلف ـ أصبحت تراثا نوعيا، فلا يمكن للشرفاء حتى الأشرار منهم، إلا أن يواجهوا أعداءهم هذه المواجهة السافرة. والإلياذة مذهلة في هذا. فالمآزق فيها [أي اللحظات التي يتواجه فيها خصمان] تكاد تكون شاذة. يفترض أن هناك تلك المعركة الهائلة الوحشية المستمرة في السهول المحيطة بطروادة، ووسط ذلك الاضطراب يواجه المقاتل الآخر ويقوم بينهما حوار: فيقال «هيه، وأنت من تكون؟ كلمني عن أصلك». ويتبادل الخصمان القصص عن أجدادهم فيقول أحدهما «أتعرف، أبي قابل أباك وهما على سفر وأعطاه كأسا شديدة الجمال»، وتقوم فقاعة غريبة حول المتصارعيْن، ثم يتصارعان، أو يكتشفان في بعض الأحيان أنهما معجبان بأحدهما الآخر فيقرران ألا يتقاتلا. أشياء من قبيل المواجهة الأخيرة بين هكتور وأخيل تقف في صف كيروساوا بالقطع لا في صف إيرول فلاين.

لكن دعني أرجع مرة أخرى إلى نظريتك عن الأفلام الإباحية والأفلام الاستعراضية. أعجبتك الفكرة؟

جايمان: وقعت في غرامها. لأنه يبدو لي أن الموضوع ليس هو المحدِّد للنوع. الأنواع لا تبدأ في الوجود حينما يكون هناك ما يكفي منها لتحقيق قدر من الثقل داخل متجر بيع الكتب، وحتى ذلك يمكن أن ينتهي. فقد حكى لي عامل في متجر للكتب في أمريكا أنه كان يعمل في [سلسلة مكتبات] بوردرز حينما قررت الإدارة التخلص من قسم روايات الرعب لأن الناس لم تعد تقبل عليه. فكانت مهمته أن يقرر أي الروايات ستكمل حياتها في أقسام الخيال العلمي والفنتازيا وأيها إلى قسم الإثارة.

إيشيجيرو: هل يعني هذا اختفاء الرعب كنوع أدبي؟

جايمان: من المؤكد أنه توارى كفئة تصنيفية في متاجر الكتب، وقد كان معنى ذلك لكثير من الناس الذين يعيشون من عملهم ككتّاب رعب أن يحددوا هوياتهم، لأن المبيعات كانت تتراجع. والحقيقة أن أغلب الكتب التي تنشر الآن كروايات إثارة كانت لتنشر كروايات رعب قبل عشرين عاما في ما أظن.

إيشيجيرو: ليست لدي مشكلة مع التصنيفات التسويقية، ولكنني لا أعتقد أن لها نفعا لأحد غير الناشرين ومتاجر الكتب.

***

جايمان: كيف كان رد الفعل على «لا تفلتني»؟

أعتقد أن آخر ما كان يتوقعه القراء منك في تلك المرحلة هو أن تكتب رواية خيال علمي، فهي وإن تكن رواية عن الناس، تبقى بلا مواربة رواية خيال علمي.

إيشيجيرو: يبدو لي أن قضية الخيال العلمي لم تكن وقتها بحجم قضية الفنتازيا هذه المرة. لقد استخدمت أفكار الخيال العلمي في جميع أنواع الروايات، حتى أن هناك تراثا يمكن أن تسميه خيال 1984 العلمي: أوروِل، وجي إتش وِلز وغيرهما.

ومع ذلك، ربما ما كان ليخطر لي أن أستعمل بُعد الخيال العلمي في «لا تفلتني» قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة من كتابتها. الحقيقة أنني حاولت كتابة تلك الرواية مرتين في التسعينيات فلم أتمكن من ذلك. ولم يحدث إلا في المحاولة الثالثة، في قرابة عام 2001، أن خطرت لي الفكرة: لو جعلتهم مستنسَخين، فمن منهم سوف يقع عليه الاختيار ليكون بمثابة مزرعة للأعضاء البشرية، ونجحت الرواية في تلك المرة.

قبل ذلك، في سياق أكثر واقعية، كنت أناضل فعليا: كيف يتسنى لي أن أجعل الشباب يعرفون خبرة الشيوخ، كيف أحقق هذا الموقف؟ ولم تكن الأفكار التي تخطر لي جيدة للغاية، كأن يصيبهم جميعا مرض ما، أو أن يتعرضوا لمواد نووية تهدد طول أعمارهم تهديدا جسيما.

في وقت ما من التسعينيات، شعرت بتغير المناخ في متن العالم الأدبي. كان ذلك أثناء ظهور جيل أصغر من الكتّاب الذين أحترمهم، ومن بينهم ديفيد متشل. أو صديقي أليكس جارلاند الذي يصغرني بخمسة عشر عاما أو ستة عشر، والذي اشتهر بـ «الشاطئ» ـ كان يعرض عليّ سيناريوهات يكتبها، ومن بينها «بعد 28 يوما» الذي تحول إلى فيلم زومبي شهير، ثم كتب «الشروق» عن رحلة بشر إلى الشمس. كلمني أليكس عن روايات الجرافيك، قال إنني لا بد أن أقرأ آلن مور وفرانك ميلر وكل أولئك الكتاب، فاستشعرت ابتداء من التسعينيات أن هناك جيلا كاملا من الكتاب الناشئين الذين يتبنون من الخيال العلمي موقفا شديد الاختلاف، وأن هناك بسبب ذلك قوة جديدة من الطاقة والإلهام. قد تكون لي التحيزات الطبيعية لأي شخص من جيلي ولكني شعرت أنني تحررت بسبب ذلك الجيل من الكتّاب. والآن أشعر أنني حر في أن أستخدم أي شيء تقريبا. والناس في مجتمع الخيال العلمي كانوا في غاية اللطف مع «لا تفلتني». وأنا مستمتع إلى حد كبير بدخولي العفوي إلى الفنتازيا أيضا، برغم أنني لم أكن حينها أفكر في «العملاق الدفين» بوصفها عملا فنتازيا، كل ما أردته أن يكون فيها بعض الغيلان.