أفكار وآراء

التوظيف والتشغيل والإنتاجية

04 أكتوبر 2017
04 أكتوبر 2017

مصباح قطب -

تحول التدريب بفضل إبداعات عدد لا يحصى من الخبراء والمدربين والجامعيين الأمريكيين ( بالأساس) الى متعة صافية، ولَم يعد ذلك الواجب الثقيل الذي نقوم به تحت ضغوط عصبية او نَفَر منه جزئيا او كليا كلما أمكن ، وقد انخرطت مؤخرا في مجموعة من ورش العمل حول التوظيف والتشغيل والإنتاجية نظمتها المعونة الامريكية بمصر عبر شركاء مصريين ابرزهم جمعية رجال الاعمال بالإسكندرية، وتعايشت مع التجربة انا ومن معي بكل الجوارح على الرغم من أنني انتمى إلى أولئك الذين يتحفظون على الكثير من نهج وممارسات الجهات المانحة الغربية وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ، وسأحاول هنا استخلاص بعض الخبرات التي يمكن ان تفيدنا في العالم العربي في تطوير علاقات العمل داخل كياناتنا الاقتصادية وزيادة الوعي بأهمية دور ومكانة التقنيين والفنيين في العمليات الخدمية والإنتاجية بما يستوجب سرعة رد اعتبار المجتمع لهم بعد عقود من النظرة السلبية الى تلك الفئات ، وقد اشتملت ورش العمل على أنشطة متنوعة لكن كان الأساس فيها جميعا فسح المجال امام كل فرد او مجموعة ليعبر عن نفسه بكل وضوح ويشارك بكامل الأهلية في صياغة كل قرار او توجه او هدف مختار للعمل عليه .

اول ما خرجت به هو حاجتنا الماسة في شركاتنا الكبيرة ووحداتنا الصناعية او الإدارية او الخدمية او الزراعية الى حالة التمسرح او المسرحة او بالمجمل المسرح لنكشف المسكوت عنه في علاقات العمل ونبتكر أفكار وحلول للمشاكل الإنتاجية والتسويقية والتكنولوجية.. الخ، وعلى سبيل التوضيح فقد طلب منا المدرب الأمريكي ان نصور على  أي نحو حياتنا من زاوية تطور التعليم الفني وخريجيه وفرص عملهم وذلك باعتبار أننا نعيش في عام ٢٠٢٧ ، وأتاح للمجاميع المختلفة الذين حضروا كممثلين للصناعة ورجال الأعمال ورواد الأعمال والإعلام ومنظمات المجتمع المدني والجهات الحكومية والأجنبية الأخرى المعنية والخبراء المستقلين والتقنيين ، مجموعة كبيرة من المعينات التي بدت لنا غريبة في البداية ( باروكات شعر ، طبول ودفوف ، أسلحة بلاستيكية ، قبعات ، بيارق ، أقنعه الخ ) لكن تستخدمها في إبراز الشكل الذي ستقدم به عملها، وأخذت فرق العمل المختلفة وقتها ليصوغ كل منها قصته بطريقته ثم يختار ما يناسبها من معينات ، وعرضت كل واحدة في النهاية على المجموع ما توصلت إليه ، وكان مدهشا للغاية ما تم تقديمه من عروض أخذت شكل التمثيليات المسرحية او المؤتمرات الصحفية او اللقاءات التليفزيونية او الاسكتشات التمثيلية ، حيث برزت مواهب عجيبة لكثيرين وربما لم يقف أيا منهم مثل ذلك الموقف من قبل ، حيث قام نائب رئيس جمعية رجال الأعمال ، على سبيل المثال ، بدور رئيس وزراء مصر ٢٠٢٧ ،  موزعا بين المفاهيم القديمة لممارسة السلطة كما عاشها جده وابوه اللذان عملا كوزراء من قبل ( حسب القصة ) وبين متطلبات الزمن الجديد ، كل ذلك بتلقائية كاملة وفي وقت لا يتجاوز الخمس دقائق للمجموعة، وانطلقت من التمثيليات أفكار لها جاذبية وقيمة عالية مثل إقامة يوم وطني للحرفيين والتقنيين ، والماراثون القومي الاول للفنيين ، ويوم الريسيكل الوطني ، كما برزت أفكار تقدمية لتخطى عقبات اجتماعيه تحول دون حصول الفني على الاحترام الذى يستحقه، وقد رأينا تمثيلية يعارض فيها الأب في البداية زواج ابنته من شاب مهنته إعادة تدوير القمامة وكيف اقتنع في النهاية بعد أن احضر له الشاب مجموعة من الهدايا له ولابنيه اساسها كلها إعادة التدوير، وقد لفت نظر الحاضرين في نهاية هذه الفقرة الى وجوب ان يتحلى رجال الأعمال بالشجاعة الكافية ويقيموا فرقا مسرحية في الشركات الكبيرة ويساهموا بالتمثيل فيها كلما أمكن ، وقلت إننا لو وضعنا خطوطا أوليه لنص مسرحي باسم ( صاحب الشغل ) مثلا ، وطلبنا من مجموعات مختلفة من الصنايعية في أرجاء البلاد تمثيله لحصلنا على ذخيرة هائلة من المواهب وكشفنا الكثير من المسكوت عنه وبما يمكننا من تصويب اختلالات في علاقات العمل تؤثر بشدة في الإنتاجية والمنافسة والانتماء للشركة لكننا لم نكن ندركها، او نظن ان اسبابها مادية فقط حيث التصور السائد انه لا مطلب للناس سوى زيادة الأجور بالحق او بغيره ،و كان من جلسات العمل المفيدة ايضا استنطاق الحاضرين بالذي يزيد او ينقص ( في إطار موضوع ورش العمل )، وتجميع كل ذلك على لوحة هائلة لحظه بلحظة ، فكان مما يزيد مثلا زيادة الطلب على المعلومات ، وعلى التعهيد ، وزيادة الاعتماد على التعليم غير الرسمي العام او الخاص النظامي للحصول على المعرفة ، وزيادة مبادرات إنشاء مراكز تدريب، وزيادة تكلفة التدريب، زيادة سرعة دوران العمالة الفنية بين الشركات ، وزيادة الإقبال على اعمال إنتاج الفيديو في القرى والنجوع ، وزيادة زيجات الاسطوات خريجي التعليم الفني بالفتيات خريجات الجامعات ، وكان هذا الأمر صعبا جدا وغير مقبول حتى سنوات مضت ،وزيادة انخراط الاسطوات في اعمال السمسرة والوساطة بما في ذلك في مجالات غير تخصصهم ، بل وقد لاحظ احدهم زيادة واضحه في عناية الاسطوات ( الصنايعية ) بقص شعرهم بطرق مكلفة ليحاكي هذا الفنان او ذاك . وتتمثل فائدة مثل هذا التمرين البسيط ( ما الذي يزيد ، وما الذي ينقص ) في انه وسيلة فعالة وذكية لرصد كل التطورات المرتبطة بمجال معين في المجتمع بشكل شامل، فعبر اكثر من سبعين تعليقا من الحاضرين وهم كما أوضحت اصحاب خبرات وتخصصات ومسؤوليات متنوعة يمكنك معرفة ما يدور بكل دقة في البلد المعني بشأن العمالة الفنية وعلاقات العمل والقوانين والعادات الاجتماعية والتكنولوجيات المستخدمة او المستجدة والطموحات والإخفاقات.. الخ. وبوسعي الآن أن أوصى بإجراء التمرين في كل كياناتنا بما فيها الصحفية والإعلامية للتعرف على الأرضية التي نقف عليها والظواهر البازغة أو الآفلة وماذا يجب عمله لتصحيح الاختلالات التي تبين من خلال رصد ما يزيد وما ينقص.

آخر المشاهد التي أحب أن انقلها إلى القارىء مشهد تحديد الأهداف المشتركة التي يجب العمل عليها وخطط العمل ( اكشن بلان ) اللازمة لتحقيقها، فقد كان المدرب الأمريكي حاسما فيما يتعلق باختيار هدف مشترك او ابعاده بحيث اذا زادت المناقشات عن ثلاث او اربع دقائق حوله او حول كلمه فيه دون الوصول لتوافق قرر استبعاده او هدد بذلك ما جعل كل واحد يعبر عن نفسه أولا بسرعة ودقة ويقبل ثانيا أشياء لا يوافق عليها تماما لكنه يوافق عليها بشكل عام ، وكل ذلك حتى لا تخسر المجاميع - وقد حدث بالفعل - هدفا مهما بسبب طول الجدل، كما كان المدرب صارما ايضا في عدم التسامح مع خطط عمل بلا تواريخ محددة ومهام واضحة ومعايير قياس للمخرجات ، وقد يكون مفيدا ان أشير الى نقطة بسيطه لكنها ذات أبعاد في رأيي فعقب قيام كل فريق بتمرين من التمرينات لم يكن مسموحا للقاعة ان تصفق لأي فريق حيث طلب مدير التمرين ان يقوم الفريق السابق في كل مرة بابتكار نوع من التصفيق المبتكر ليحيي به لاحقه، والهدف من هذا العمل الذي يبدو ساذجا ان يتحول التدريب طوال الوقت الى لعبة حلوة وعمل غير ممل وساحة متواصلة للابتكار وعمل الجديد او الغريب او المدهش بلا تكلف .  قالت امرأة خلال الجلسات ان علينا ان نتصور حالنا اذا لم يقم الاسطوات - التقنيون - بكل ما يقومون به لإصلاح الأجهزة الصغيرة او الكبيرة والمعدات والسيارات ، في المستشفيات والبيوت والشركات ، ونحن بلاد محدودة الدخل لا تملك ترف ان ترمي الى القمامة كل ما يتعطل من أجهزة شخصية او ربما عامة كما يحدث في الغرب الغني ؟ كإنسان وككاتب وكمدرب اقتصادي استفدت كثيرا وأملي ان أكون قد قدمت لكم بعض الفائدة .