أفكار وآراء

أزمة الروهينجا: ثلاثة سياقات للتفسير

03 أكتوبر 2017
03 أكتوبر 2017

د.صلاح أبو نار -

في الحادي عشر من سبتمبر الماضي صرح زيد رعد الحسين المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن ما يجري للروهينجا في ميانمار يقدم لنا : «نصا نموذجيا لعمليات التطهير العرقي».

وتحفل التقارير البحثية بتفاصيل دامية لتلك السياسات التطهيرية العرقية يمكننا رصدها على ثلاثة مستويات.

المستوى الأول: حق الروهينجا القانوني في المواطنة. استقلت ميانمار عام 1948 عن بريطانيا باسم اتحاد بورما. ووفقا لنص المادتين 10 و11 من دستور1947 تمتع مواطنو الروهينجا بحق المواطنة، وعندما أثير الشك حول انطباق المادة 11 عليهم صرح رئيس المجلس التأسيسي الذي وضع الدستور في حضور رئيس الجمهورية أن المادة تنطبق عليهم لكونهم إحدى سلالات بورما الأصلية التي أشارت المادة11 لحق أبنائها في المواطنة. وفي عام 1948 صدر قانون جديد للمواطنة انطبقت أحكامه على الروهينجا، وعندما بدأ التسجيل وفقا لأحكامه للحصول على بطاقات الهوية تم تسجيل الروهينجيين وحصلوا عليها. وبمقتضاها مارسوا حقهم الانتخابي فيما بين 1948 و1962، وكان لهم ممثلون برلمانيون.

ولكن مع تأسيس ديكتاتورية ني وين العسكرية 1962م انتهجت السلطة سياسات تمييزية ضد عدة إثنيات غير بوذية استهدفت استئصال وجودهم من البلاد، واستهدف الكثير منها الروهينجا بالتحديد. ومع مجيء عام 1982 صدر قانون جديد للمواطنة، شرع لثلاثة أنماط مواطنة تتفاوت في درجات حقوقها، وأورد قائمة تشمل 135 إثنية من حقهم الحصول الآلي على المواطنة، ولم يكن الروهينجا ضمنهم على أساس أنهم لا ينحدرون من إثنيات بورمية، بل مهاجرون بنغاليون وفدوا مع الاستعمار البريطاني.

ومع بدايات تراجع الديكتاتورية العسكرية 2010م بدأت محاولات تعديل علاقة الروهينجا بقانون المواطنة عبر تسجيلهم ومنحهم هويات وطنية، إلا أن العملية توقفت تحت ضغط المعارضة الشعبية والسياسية البوذية. وهكذا لم يسمح لهم بالتصويت في استفتاء 2015 على الدستور بعد أن كان قد سمح لهم بالمشاركة في استفتاء 2008 وانتخابات 2010.

وسنجد المستوى الثاني في السياسات التمييزية ضدهم التي اتبعها الحكم العسكري أساسا. لم تنطلق تلك السياسات فقط من حالة المواطنة المنتقصة، بل أساسا من نزعة عداء حادة حملها العسكريون تجاه عدة إثنيات، على رأسها الروهينجا. ونجدها في القيود على حرية حركة الروهينجا عبر مدن الراخين. واشتراط تصريح حكومي لزواجهم، وربطه بشروط ألا تحمل صور الزوجين رموزا إسلامية مثل اللحية والحجاب، وتقييد حق الإنجاب بطفلين، وبالتالي عجزهم عن تسجيل أي زيادة، وإهدار حقهم في خدمات الصحة والتعليم. ومنع تزاوجهم مع البوذيين، والالتحاق ببعض فروع التعليم العالي كالطب، وتسخيرهم في الأعمال العامة. سياسات مقننة تفاوتت حدتها من مكان لآخر. وطبقت في ظل ضعف دور الدولة التنموي الذي جعل معدل الفقر في الراخين موطن الروهينجا 78% بينما متوسطه في العام 37%، وكانت معاناة الراخينيين الروهينجا أشد بمراحل من معاناة البوذيين.

وسنجد المستوى الثالث في عمليات التطهير العرقي.

تعرض الروهينجا لموجات تطهيرية متواصلة أسفرت موجة 1942 عن مقتل مائة ألف وترحيل 80000، ودفعت موجة 1950 بحوالي 30000 للهجرة إلى باكستان بدعوى كونهم مهاجرين غير شرعيين. وفيما بين 48- 1992 وجهت 19 حملة إزالة رسمية كبرى ضدهم أكبرها حملة 1978 التي دفعت 250000 للهروب لبنجلاديش، بينما دفعت حملة91-1992 لهروب 268887 من مواطنهم. وفي إطار موجة يونيو- أكتوبر 2012 طرد 140000 من مواطنهم ليعيشوا في معسكرات إيواء. وفي موجة 2017 قدرت الأمم المتحدة عدد النازحين بحوالي 410000.

وخلال تلك الموجات تعرضوا لعنف متطرف شمل حسب شهادات عينة استجوبتها بعثة للأمم المتحدة وفدوا إلى بنجلاديش خلال موجة أكتوبر 2016، الضرب والاختفاء والقتل والاغتصاب والعنف الجنسي والإحراق وتدمير وسرقة الملكية.

كيف يمكننا تفسير هذا التاريخ الممتد من التمييز والعنف؟ هذا عبر ثلاثة سياقات مفسرة.

يتمثل السياق الأول في احتدام التناقضات والصراعات الإثنية في ميانمار. تعتبر ميانمار إحدى أكبر بلدان آسيا تنوعا في التركيب الإثني. هناك ثمانية إثنيات أساسية: البامار وتضم ثلثي السكان والشين والكاياة والكايين والمون والراخين والشان، تنقسم إلى 135 إثنية فرعية معترف بحقها في المواطنة. وهذا التمايز الإثني يتشابك مع تمايز آخر ديني، حيث توجد أربعة أديان أساسية: البوذية (90%) والإسلام (4%) والمسيحية (4%) والهندوسية(2%). وتداخل هذا التمايز الإثني- الديني مع عدة عوامل ساهمت في تنشيطه. منها تركز إثنية البامار المهيمنة في المناطق الوسطى بينما تتركز الإثنيات الأخرى في المناطق الحدودية، الأمر الذي شكل بيئة محفزة لروح التمرد.

ومنها تركز الديانات غير البوذية بين الإثنيات الفرعية، الأمر الذي أضفى على التمايز الإثني بعدا دينيا ساعد على تأجيجه. ويتوزع المسلمون بين إثنيتي البامار والكامان ولهما حق المواطنة، على عكس مسلمي الروهينجا الذين يشكلون إثنية منفصلة.

ومنها تأثير السياسات الاستعمارية. لجأت بريطانيا لتعزيز سيطرتها عبر تشجيع هجرة الهنود المسلمين واستخدامهم في السيطرة الاقتصادية. وتوظيف مكثف للأقليات البورمية في الدولة، وهكذا تكونت وحدات الجيش البورمي على أساس إثني، وكان من شأن هذا تأجيج التناقض الإثني، عبر تغذية شعور الأغلبية بسيطرة أقليات إثنية وأجنبية على مواردها السياسية والاقتصادية.

وهكذا عاشت ميانمار صراعات إثنية محتدمة منذ ما قبل الاستقلال، حتى أضحت تصنف كبلد يحتوي على أحد أطول الصراعات الإثنية في العالم. وتبدو قوة تلك الصراعات في عقد الحكومة لاتفاقية بانج لونج عام 1947، مع إثنيات الشين والشان والكاشين وافقت فيها على منح مواطنها الحدودية حكما ذاتيا كاملا. إلا أن هذا الاتفاق لم ينفذ أبدا، ثم أهدرت الحكومة وعد الدستور بإمكانية استقلال ذات المناطق بعد عشر سنوات. وعندما حل 1958 دونما تنفيذ الوعد الدستوري أدركوا فشل رهانهم، وأعلنوا التمرد العسكري ضد السلطة. وعندما أعلنت الدولة في عام 1960 البوذية دينا رسميا للدولة اكتسبت التمردات دفعة جديدة، وعلى مدى العقود التالية تواصلت الحروب الأهلية الإثنية.

وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى تلك التناقضات والصراعات الإثنية المسلحة. وفي إشاراتها إلى أوضاع إثنيات الشان والكاشين والكايين والكاياة، تستخدم مصطلحات مماثلة في الإشارة إلى أوضاع الروهينجا، ولكن بدرجه أقل حدة وشمولا وانتظاما. وفي الكاشين والشان أدى تجدد الصراع المسلح في يونيو 2011 إلى نزوح 96000، ودفع تجدد القتال عام 2016 إلى نزوح 100000.

وفي أغسطس 2016 انعقد مؤتمر بانج لونج الجديد من أجل إقرار السلام في البلاد، حضره ممثلو ثمانية منظمات إثنية عسكرية متمردة من ضمن 20 منظمة إثنية كانت تخوض صراعات مسلحة خلال العقود السابقة، وكان الروهينجا الأقل تمردا، فلم يظهر لهم فصيل عسكري إلا في أكتوبر 2016.

وسنجد السياق التفسيري الثاني في تصاعد المكون البوذي في النزعة القومية الميانمارية. بمنطق التكوين الحضاري ولدت تلك النزعة محملة بهذا المكون. وساهم الاحتلال البريطاني في تدعيمه، عبر العداء الذي أبداه للمؤسسة البوذية، ثم عبر تكثيفه لهجرة الهنود المسلمين والفرص الاقتصادية التي منحها لهم، وبعد الاستقلال اكتسب هذا المكون دفعه أخرى، فمع الشروع في بناء دولة مركزية والخوف من النزعات الإثنية الانقسامية لجأت الدولة لتبني نزعة قومية متطرفة، ووجدت في البوذية معينا لتلك القوة، ومع تأسيس الحكم العسكري توغلت الدولة في هذا الاتجاه، وأعلنت البوذية دينا رسميا للدولة.

وتلجأ القوميات المتطرفة لعدة أسلحة لدعم سطوتها على رأسها استثارة العداء للآخرين، وهنا سنكتشف السياق الخاص لتطور وتصاعد العداء العام تجاه الروهينجا. خلق هذا العداء لنفسة أساطيره: المسلمون أثرياء جدا ويستحوذون على ثروات البلاد، ويستخدمونها للزواج من البوذيات وتحويلهن للإسلام، وهم سريعو التكاثر وسيغرقون البلاد كما حدث في إندونيسيا، ومختلفون في معتقداتهم وثقافتهم وعاداتهم عن البوذيين ويهددون طابع البلاد البوذي، وهم هنود بنغاليون وفدوا مع الاستعمار البريطاني وليسوا من هنا. أساطير تحظى بقبول واسع. يروجها الكهنة، ويرددها العامة، وتنشرها الدولة وتشرعها، وتتبناها قوى ديمقراطية. ومن السهل رصد صلتها بالعديد من السياسات التمييزية مثل: منع تزاوجهم من البوذيات والقيد على الإنجاب. ومن هنا نفهم علة العداء الشعبي الواسع للروهينجا. ففي موجتي تطهير 2014 و2017م تقدمت على قوات الدولة وربما أنجزوا المهمة بدلا عنها. يتمثل السياق الثالث في عملية الانتقال السياسي التي انطلقت من 2010. بعد انتخابات 2010 انسحب الجيش من المشهد، وتكونت حكومة مدنية وإن كان النفوذ العسكري فيها طاغيا. وانطلقت موجة إصلاح سياسي توجت في انتخابات 2015م بانتصار العصبة الوطنية للديموقراطية بقيادة اونج سان سو كاي؛ لتنتقل السلطة في مارس 2016 إلى الحزب الفائز.

كان من المنطقي في ظل ذلك التحول تراجع حدة مشكلة الروهينجا، وبالفعل ظهرت بوادر إيجابية، فلقد سمح لهم بالمشاركة في انتخابات 2010، وسمح بإدخالهم تعداد 2014، وعلى امتداد 2014-2016 جرت محاولات لمنحهم بطاقات هوية وطنية، وبدأت مؤشرات اعتراف علني ورسمي بهذا الحق. ولكن في المقابل تصاعدت نزعات مناهضة منعت مشاركتهم في انتخابات 2015، وإعاقة منحهم البطاقات الجديدة. والأخطر أنه أطلقت موجتا تطهير 2012 و2017 وهما أخطر الموجات على الإطلاق، وأسفرتا عن نزوح 555000 روهينجي، أي أكثر من نصف الروهينجا حيث تقدر تقارير الأمم المتحدة عددهم بحوالي مليون.

وسوف نجد تفسير تلك المفارقة في تناقضات العملية الانتقالية. لم يستحوذ المدنيون على كامل المجال السياسي إذ ظل الجيش بمؤسساته ورجاله في قلب العملية السياسية ليعرقلها وقتما يريد. ولم تكن القوى السياسية المدنية على درجة أساسية من التوافق بشأن قضية الروهينجا، وهكذا تخبطوا في مواقفهم. وأطلقت العملية الانتقالية قوى شعبية وسياسية واسعة من قيود وميراث الأسر العسكري، لتدخل للمجال السياسي محملة بميراث تعصب بوذي عميق ضد الروهينجا، وهكذا وجدناها خلف إعاقة منحهم حق المواطنة وفي طليعة عمليات التطهير العرقي.