أفكار وآراء

خطاب الكراهية البغيض ..!!

01 أكتوبر 2017
01 أكتوبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

لا أحد ينكر أن هناك عوامل من شأنها أن تفعل من خطاب الكراهية، ويقاس عليها مدى حضور هذا الخطاب في أجندة شعوب دون أخرى، أو دول دون أخرى، أو أسر دون أخرى، ويأتي في مقدمة هذه العوامل: العوامل الاقتصادية، والكثرة العددية «القوة البشرية»

أتصور؛ أننا لا نحتاج الى كثير من التدليل على أن البشرية من مشرقها الى مغربها، وهي تعتنق خطاب الكراهية البغيض، بسبب أو بدون سبب، فالبشرية يبدو أنها مجبولة على هذا النوع من الخطاب، على الرغم من معرفة الجميع بتداعياته، وبمآسيه، وبخطورته على البشرية نفسها، ارتقت هذه البشرية في سلمها المعرفي، أو ظلت كما هي تقتات على ما تبقى من فتات ماضيها البائد، الذي لم يورث سوى النكد، والمآسي، ولا تزال البشرية في عموميتها تمارس هذه الغواية غير المستترة، وهي ماضية الى مستقبلها المحمل بأعباء الماضي (ما أريكم إلا ما أرى) و«من ليس معي فهو ضدي» إمعانا في تأصيل صورة الكراهية للطرف الآخر.

يلزمنا الموقف هنا الى طرح بعض الأسئلة بالصيغ التالية: هل البشرية تكره بعضها بعضا؟ وما هي حدود هذا الكره؟ ولماذا وجوده من الأساس؟ والى متى سوف تستمرئ هذا الفعل المشين في حق نفسها؟ وهل هناك فرق بين كره البشرية؛ وكره غيرها من الكائنات؟ وهي أسئلة؛ لا شك أنها حاضرة لدى كثير من الناس الذين يقلقهم هذا الأمر، أو يأخذ جزءا من حيز تفكيرهم، لأن الحالة الإنسانية بهذه الصورة متعبة، ومهلكة، ولا توفر استقرارا نفسيا؛ حتى وإن اعتلت أعلى سلم المجد، تظل مأساة وقع الألم يخيم على الحالة الإنسانية، ويلبسها سوادا لا تستطيع أن تنتزعه من ذاتها، وهي تمارس هذا الفعل المشين طوال سنين حيواتها الممتدة.

وللإجابة على بعض من الأسئلة المطروحة أعلاه؛ يذهب التعليل أقرب ما يذهب اليه؛ هو استحضار الأسباب الظاهرية للمشكلة، والمشكلة هنا لا تتعدى ظاهرة احتلال الشعوب تحت ذرائع: الاقتصاد، الدين، التفوق العسكري، العنصرية، ويضاف إليها الهواجس الذاتية كالحسد والغيرة (أمراض اجتماعية) هذا عندما تقاس المسألة على حالتها العامة، ولكن هناك اختزال لهذه الصورة، واستجلاب تكورها من حالتها العامة هذه الى الحالة الخاصة جدا، وهي الحالة المتعلقة بالفرد ذاته، عندما يتبنى هذا الخطاب ويصبح جزءا من شخصيته، فيهب مآسيه ومعاناته حتى الى أقرب الناس إليه، ومن هنا يأتي الفهم على أن خطاب الكراهية حالة فطرية يتفوق بها الإنسان عن غيره من الكائنات، التي؛ وإن مارست كراهيتها لبني جنسها فلا يخرج ذلك الكره عن تلبية نداء الغريزة لا غير، لأنه عند الإنسان يأتي توظيفها وفقا للمصالح الخاصة بعد ذلك، بغض النظر؛ إن كان هذه التوظيف يقتلع مصالح الآخرين من جذورها، أو يهلكهم في صور كثيرة من المعاناة، أو حتى يبيدهم عن بكرة أبيهم، فجشع الإنسان عندما يستشري لا يدع أخضر ولا يابسا، إلا الفتات، وهذا الفتات المتبقي منه هو الذي يجري أذيال الخيبة لدى الأنفس الطامحة للارتقاء والسمو.

يدرج هذا النوع من الخطاب تحت تصنيف «الأنانية» المفرطة؛ وهي الأنانية التي تجر وراءها الكثير من التداعيات الخلقية، فالإنسان بفطرته ينشد الأمن لنفسه ولا يريده لغيره، لأن الأمن حالة مستقرة، فيها الكثير من الهدوء، وفيها الكثير من الترقي، وفيها الكثير من السعادة، وفيها الكثير من الفرص للتفكير الواعي، وفيها الكثير من الفرصة لإنجاز المهام الصعبة، ولذلك عندما تقابل الآخر بهذا النوع من الخطاب، فإنك بلا شك تربك فيه هدوءه، وتعقله، واستقراره، واستحكامات ملكاته، وهذا القلق يبعده عن التفكير العقلاني، ويظل مشتت الاتجاهات، لا يدري أيهما يسلك، ولذلك نرى تبادل خطاب الكراهية اكثر ما يكون في المؤتمرات العالمية بين الفرقاء، حيث تنتفخ الأوداج، وتتشنج العضلات، وتحمر الوجوه، ويعلن السباب العلني، وعندها يكون كل وفد قد أعلن التهيئة العامة للانقضاض على الطرف الآخر، قرب هذا الفعل -زمنيا- أو ابتعد، فوق ما يضيفه ذلك من تعبئة نفسية حاضرة، تنتظر لحظة الانطلاق لهلاك الآخر.

يعيش الإنسان حالة «فصام شخصية» مستمرة، سواء على مستواه الفردي، كعضو في مجتمع، أو على مستوى الجمع، كعضو في منظمات، وحالة الفصام هذه هي التي توجه دفته شرقا وغربا، إما جريا وراء مصالح خاصة مباشرة، أو مؤازرة لفريق أيضا تربطه به مصالح خاصة مباشرة أو غير مباشرة، ومن المضحك المبكي في هذا المعنى هو إقدام المجتمع البشري على إنشاء منظمات، وهيئات، وفرق عمل، وبرامج يذهب من خلالها الى تجفيف منابع هذا الخطاب، والعمل على جعل الإنسانية حالة من التقارب والتواد والتراحم، ومساعدة بعضها بعضا للوصول الى الغاية الأسمى من كل ذلك وهي الاستقرار والعيش بسلام لجميع أفرادها، وهذا هو التوجه العام في جانبه الإنساني، وفي الوقت نفسه، نفس هذا التكتل الدولي ينجر وراء تفعيل هذا الخطاب في مواقف أخرى، مما يربك كل القناعات التي تؤمن بالوحدة وبالتعاضد والتآزر، متيقنة من أن اعتناق خطاب الكراهية يؤدي الى هلاكها وعدم استقرار أفرادها، ولذلك نرى مؤسسات المجتمع الدولي، كالجامعة العربية، كمؤسسة إقليمية، أو منظمات الأمم المتحدة، كمؤسسات دولية، أو حتى على مستوى الدولة الواحدة، كحال المؤسسات البرلمانية، أو كحال المؤسسات الإعلامية، كل هذه المنظومات صغيرها وكبيرها يندس فيها هذا الخطاب البغيض بين بعض أفرادها، فيشوه الكثير من صورها النقية، وهي الصور التي قامت عليها والمبادئ التي بنيت عليها، والأنظمة والقوانين التي وضعت لتسييرها، والتناقض أكثر يبدو في سلوك الأفراد نحو تأجيج خطاب الكراهية على الرغم من عضويتهم في هذه المؤسسات ؛ وهي الذاهبة بمبادئها وأنظمتها الى غير ذلك تماما، شيء غريب حقا.

نعايش منذ نعومة أظفارنا خلق التسامح بين مؤسساتنا الأسرية الصغيرة، والأسرة جزء لا يتجزأ من المجتمع، وقد حرص الوالدان على تأصيله في أنفسنا، لذلك تكثر عبارات: «هذا اصغر منك؛ سامحه»، «هذا أكبر منك؛ احترمه»، (هذا عمك، هذا خالك، هذا جارك، هذا ابن جارك، هذا في مقام أبوك، هذا أخوك الأكبر، هذا أخوك الصغير) وغيرها من العبارات التي تكبح جماح هذه النفس عن التعدي على الآخر، سواء هذا التعدي بالقول، أو بالفعل، حيث يمنع التجريح بأي أسلوب كان، والنفس تواقة الى القضاء على الآخر -سبحان الله- وتكبر الأنفس ويشتد عودها، ولا يخيم عليها خلق التسامح بصورة مطلقة، وإنما يراوح نفسه في حالات، ولا يلبث عن أن يتوارى في حالات كثيرة، ويظل خطاب الكراهية هو الآخر ماثلا في كثير من محطات الالتقاء بالطرف الآخر، نعم يخفت قليلا، ولكن لا يلبث حتى يعود، وكأن كل ذلك التاريخ من التدريب، والتعليم لخلق التسامح؛ يتوارى خجولا عندما يحل هذا المارد المربك لكل القناعات.

لا أحد ينكر ان هناك عوامل من شأنها أن تفعل من خطاب الكراهية، ويقاس عليها مدى حضور هذا الخطاب في أجندة شعوب دون أخرى، أو دول دون أخرى، أو أسر دون أخرى، ويأتي في مقدمة هذه العوامل العوامل الاقتصادية، والكثرة العددية «القوة البشرية» فالاستقرار الاقتصادي وقوته يعليان من قيمة التمرد والبطر، والتكبر والاستعلاء، لأن الفقر، وقلة العدد معروف عنه يجلب الضعف، والاستسلام للأقوى، وهذا الأقوى هو أول من يؤجج صور خطاب الكراهية، ولا يعير أدنى قيمة لمختلف القيم التي من شأنها أن تعلي من سقف الإنسانية، إلا بعد أن يحقق مصالحه الخاصة، ويلبي «شهوة» الغرور فيه، تجده لا يمانع أن يتحدث عن القيم والأخلاق، وبالتالي فالاستقرار الاقتصادي لا يعول عليه أكثر في شأن استقرار القيم، فهو عملة ذات وجهين، وكلاهما شر، حتى على مستوى الفرد نفسه، عندما يمارس بطره وجبروته على الأقرب منه الأضعف، ففي كل هذه الممارسات المؤلمة للطرف الآخر، هي صور مختلفة لخطاب الكراهية البغيض.

يعول كثيرا على التشريع واثره وقدرته على كبح جماح تأجيج هذا الخطاب بين البشرية جمعاء، ولذلك حرص الإنسان نفسه على تقنين هذا الخطاب، والتقليل من آثاره المؤلمة، وتجفيف منابعه قدر الإمكان، ولذلك فاتحاد المؤسسات الحديثة كالمنظمات الدولية، والبرلمانات، والمساجد، وقبلها المدارس، لعلها تترك أثرا أكثر مهادنة، وأقرب ودا، ولكن مع ذلك؛ فالإنسان ظل كما هو، ولم تفلح جل هذه المؤسسات في تقنين الخطاب، وكلما أنجزت البشرية مستوى متقدما في ذات السياق، إلا وجاء فرد، أو أفراد فيزعجون أنظمة بحالها، أو يأتي نظام، أو أنظمة ديكتاتورية؛ فتزعج المجتمع الدولي كله، ليبقى عمق المأساة قائما.