أفكار وآراء

النفوذ العالمي ينتقل إلى آسيا

29 سبتمبر 2017
29 سبتمبر 2017

ناتالي نُوجْيارَيْد – الجارديان -

ترجمة قاسم مكي -

في عام 2012 أصدر محللو شركة «مكنزي للاستشارات» خارطة مدهشة تؤرخ للكيفية التي انتقل بها مركز جاذبية اقتصاد العالم بداية من العام الأول لميلاد المسيح. نعم منذ أن كان عمر السيد المسيح عاما واحدا. واستخدموا في ذلك بيانات من جامعة جرونينجن. مطالعة هذه الخارطة تنعش ذاكرتنا الآن حول السرعة التي يتم بها تحدي مكانة أوروبا العالمية. الاستيقاظ على هذا الواقع هو ما يبرر وجوب الحفاظ على وحدة الصف والعمل من أجل ازدهار المشروع الأوروبي وليس ذبوله. دعونا نلقي نظرة سريعة على ما تكشف عنه تلك الخارطة. لقد استغرق انتقال مركز الجاذبية من آسيا إلى أوروبا (مقيسا بالناتج المحلي الإجمالي) قرنا من الزمان، من 1820 إلى 1913 . وبعد الحرب العالمية الثانية تحرك مؤشر الجاذبية مرة أخرى ولكن عبر المحيط الأطلسي إلى الولايات المتحدة. وفي أعوام الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات ظل هذا المركز في الجزء الغربي من النصف الشمالي للكرة الأرضية. ثم حدث تسارع يصيب بالدوار. فخلال عقد واحد فقط (في الفترة من 2000 إلى 2010) ارتد مركز الجاذبية عائدا إلى آسيا، قالبا أو عاكسا بذلك تقريبا كل اتجاهاته في حقبة الألفي عام السابقة. لقد ظللنا منذ فترة نتواءم ذهنيا مع هذا التحول. فالكتب تؤلف حول الكيفية التي سيكون بها هذا القرن الحادي والعشرين «قرنا آسيويا.» كما تذكرنا هذه الأيام باستمرار عناوين الأخبار عن كوريا الشمالية والصين، هذا إذا لم نذكر ميانمار، إلى أي حد يعتمد أمن العالم (حكمه والقيم الديمقراطية الليبرالية التي يحافظ عليها أو تهمل) على ما يحدث في جزء من العالم يبدو بعيدا لمعظم الأوروبيين. أن الكثير جدا من الجدل يدور في منطقتنا حول المساواة والعدل الاجتماعي والتنوع والهجرة والانتخابات الألمانية وخطط إيمانويل ماكرون للإصلاح وفوضى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. هذا إذا لم نذكر القلق بشأن ردة بولندا والمجر عن الديموقراطية ، واستعراض روسيا لعضلاتها العسكرية في الشرق الأوسط . لذلك يمكن مسامحتنا على نسيان أين صار مكاننا في العالم. إن أوروبا هامة. ولكن كثيرا ما يبدو أنها أقل أهمية مما نريد. ونحن لا نحتاج حتى إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كي ندرك أن القارة العجوز صارت تحظى باهتمام أمريكي أقل من اهتمام الأجيال السابقة بها. أذكر أن مسؤولا في إدارة أوباما أخبرني عام 2012 إبان أزمة اليورو كيف أن أوروبا تبدو «مضجرة» وآسيا «مثيرة للاهتمام». إن هذا كله له أثره النفسي. فالدراسات تظهر أن الناس في البلدان الآسيوية الصاعدة يميلون إلى التفاؤل بنسبة تزيد كثيرا (58%) عن الأوروبيين (24%). وتشعر الطبقات الوسطى الجديدة في آسيا بالثقة من أن أطفالها سيكونون أوفر حظا من الناحية المالية. فالمستقبل بالنسبة لهم مشرق جدا. أما الأوروبيون فيصعب عليهم الإحساس بالتفاؤل. ومع وضعنا هذا في البال، يجب أن يكون تغيير تصوراتنا للأشياء جزءا رئيسيا من جهود إنعاش المشروع الأوروبي. إن علاج قضايا حصص الهجرة أو الدعوة إلى إعداد موازنة لمنطقة اليورو لن يحققا ذلك بمفردهما. صحيح ربما لا تجد أنجيلا ميركل مشكلة في ترويج الاتحاد الأوروبي للناخبين الألمان حين تعلن أن «أداء ألمانيا يمكن أن يكون جيدا في الأجل الطويل فقط حين يكون أداء أوروبا جيدا.» لقد حاول ماكرون مؤخرا رفع الروح المعنوية حين ألقي خطابا قويا حول أوروبا والديموقراطية في أثينا. فقد قال إن إخفاقات أوروبا في الماضي أدت إلى تآكل ثقة شعوبها. ودعا إلى إعادة اكتشاف الثقافة الثرية التي تتمتع بها القارة كوسيلة للتقريب بين بلدانها. وهو يخطط لتدشين عملية تشاورية على المستوى الشعبي في عام 2018 كي يشارك المواطنون بطريقة أفضل في تقرير مستقبل القارة. صحيح لا تزال أوروبا تلعق جراح أزماتها العديدة وربما أن المزيد من هذه الأزمات يتبدى في الأفق. ولكن ماكرون على حق في محاولة تصوير جهوده كمشروع طموح للتجديد يتطلب نفس ذلك النوع من الهمة التي اتصف بها الآباء المؤسسون لأوروبا في أعوام الخمسينات من القرن الماضي. ربما أن حجة ماكرون الأكثر إقناعا ليست جديدة تماما. ولكنها تستحق أن نذكرها هنا مجددا. فهو يرى أن أيا من تحديات اليوم لا يمكن معالجتها بطريقة لها معنى بواسطة بلدان تتصرف بمفردها. فأوروبا يمكن أن تكون قوية فقط حين تضم صفوفها. هذه حقيقة تؤكدها باستمرار متاعب بريطانيا الحالية. وإذا لم يؤسس الاتحاد الأوروبي نفسه «كقوة» حقيقية سينتهي به الأمر إلى الخضوع لأحكام وضغوط فاعلين خارجيين. أن نفوذ الصين له حدود قليلة (تحد من تمدده). هل يجب أن نقلق من طريق حريرها الجديد؟ هذا السؤال يعود بنا مرة أخرى إلى موضوع الصورة العالمية. فما يميز أوروبا عن مناطق العالم الأخرى هو في النهاية شيء بسيط. إنه يوجد في الجمع الفريد بين الديموقراطية الليبرالية والحريات الفردية واقتصاد السوق الذي يعني برفاهية المجتمع مع التأكيد على التضامن وتجميع السيادات الوطنية في سيادة (أوروبية) واحدة. أنت لا تجد ذلك في أي مكان آخر. ومهما كان تضعضع ثقة أوروبا بنفسها ستظل منطقة متميزة جدا مقارنة حتى بمجتمعات تفوقها كثيرا في معدلات نمو ناتجها المحلي الإجمالي. إن باقي العالم كثيرا ما يفوقنا في إدراك هذا (التميز الأوروبي). وأنا لا أشير هنا فقط إلى المهاجرين واللاجئين الذين جعلت هجراتهم (إلى أوروبا) تلك الحقيقة واضحة جدا. بل علينا أن نقرأ نتائج نشرت مؤخرا لأول استطلاع أوروبي «يورو باروميتر» للرأي العام حول نظرة المناطق الأخرى وتحديدا آسيا إلى أوروبا. فما يزيد عن ثلاثة أرباع الصينيين والهنود الذين استطلعت آراؤهم يصفون أوروبا بأنها «منطقة استقرار في عالم مضطرب». ويملك أكثر من 80% من الصينيين والهنود «صورة إيجابية عن الاتحاد الأوروبي». إنه رقم يزيد كثيرا مقارنة بالأوروبيين أنفسهم (69%). وبحسب هذا الاستطلاع يحدد الآسيويون 3 «أصول» تملكها أوروبا وتتمثل في، أولا قوتها الاقتصادية والصناعية والتجارية، وثانيا مستواها المعيشي، وثالثا احترامها للديموقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون. ربما أن هذا القرن سيكون قرنا آسيويا ولكن أوروبا لديها أوراقا يمكن أن تلعب بها. وهي أوراق جيدة أيضا.

• الكاتبة معلقة الشؤون الخارجية بصحيفة الجارديان البريطانية ومديرة تحرير سابقة لصحيفة لوموند الفرنسية.