المنوعات

ملحمة «موبي ديك» الشهيرة تم تأليفها في قلب غابة أمريكية

28 سبتمبر 2017
28 سبتمبر 2017

يتسفيلد «د.ب.أ»:- لعل من بين الأشياء التي تثير الدهشة بشأن رواية «موبي ديك» للكاتب الشهير هيرمان ميلفيل أن تلك الملحمة الأدبية التي تتناول الصراع بين الإنسان والحوت في إطار فلسفي عميق قد تم تأليفها في أعماق الغابات بولاية ماساشوسيتس الأمريكية، على مسافة تزيد عن 200 كيلومتر من أقرب محيط.

ومازالت منطقة «بيركشايرز» الجبلية الهادئة التي يغلب عليها الطابع الرعوي عند جبال «أبالاشيا» تعتبر من المقاصد السياحية الشهيرة حتى يومنا هذا، وفي أواخر الصيف ومطلع الخريف، تكتسي الغابات باللونين الأحمر والذهبي بسبب أوراق الأشجار المتساقطة.

ولا تزال المناظر الطبيعية الخلابة في تلك المنطقة تجتذب الكتاب والرسامين. وجدير بالذكر أن ميلفيل لم يكن أول كاتب يتوجه إلى بيركشايرز، حيث سبقه إلى المعيشة هناك أدباء مثل أوليفر وينديل هولمز وناثانيال هاوثورن.

ولد هيرمان ميلفيل عام 1819 في أسرة من المهاجرين الأسكتلنديين في مدينة نيويورك الأمريكية، وكان ترتيبه الثالث بين ثمانية أطفال، وكانت عائلته تعاني من الفقر، وهو ما اضطره للعمل في سن مبكر.

وفي مطلع الأربعينات من القرن التاسع عشر، حصل ميلفيل على فرصة عمل على متن سفينة لصيد الحيتان، ولكنه هرب من السفينة وسقط في قبضة السكان الأصليين على جزر ماركيساس في منطقة بولينيزيا الفرنسية. واستطاع ميلفيل الهروب وعاد إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة بعد أن عبر تاهيتي وهاواي وأمريكا الجنوبية، وقام فيما بعد برحلة إلى أوروبا.

وبعد كل هذه المغامرات، استقر ميلفيل عام 1850 في منطقة بيركشايرز الهادئة ذات الطابع الرعوي.

وتقول جمعية التاريخ في بيركشايرز إن هذا القرار كان «وليد اللحظة»؛ حيث كان ميلفيل يبحث عن مكان هادئ منعزل يتيح له إمكانية التأليف، بعد أن توافرت لديه مادة جيدة للكتابة من كثرة رحلاته.

وعندئذ تذكر ميلفيل مشهد جبل جرايلوك، وهو أعلى قمة جبلية في ماساشوسيتس والتي كان قد استمتع بمشاهدتها خلال زيارة إلى منزل أحد أعمامه.

وفي عام 1850، اشترى ميلفيل مزرعة بجوار منزل عمه يرجع تاريخها إلى القرن الـ18 وأطلق عليها اسم «أروهيد» أي «رأس السهم» في إشارة إلى إحدى المقتنيات الخاصة بالسكان الأصليين التي عثر عليها بالمزرعة.

وعاش ميلفيل في مزرعة «اروهيد» طوال 13 عاما، وكانت هذه أكثر فترة مثمرة في حياته حيث قام خلالها بتأليف روايات مثل «بيير ومواطن الغموض» و«بارتلبي الكاتب العمومي» و«إسرائيل بوتر: سنواته الخمسون في المنفى» و«حكايات بياتزا»، وأخيرا بالطبع تحفته الفنية «موبي ديك، وقد تم تأليف هذه الروايات وغيرها على مكتب داخل مكتبته في الطابق الثاني من المنزل.

وفي وسط الغابات التي تطل على جبل جرايلوك، استرجع ميلفيل تجاربه السابقة بشأن المحيطات.

وكتب ميلفيل في ‏ديسمبر عام :1850 «يتملكني هنا في الريف الشعور الذي يخامرني في البحر، وبخاصة الآن وقد اكتست الأرض كلها بالثلوج».

وأضاف: «إنني اتطلع من نافذتي في الصباح مثلما كنت أنظر من نافذة غرفتي على متن سفينة في المحيط الأطلسي».

وتقول جمعية التاريخ في بيركشايرز إن غرفة الكتابة لابد أنها كانت هي الأخرى ملاذا للهروب من «شؤون المنزل الكثيرة المشوبة بالفوضى».

ولم يكن ميلفيل يعيش وحيدا، بل انتقل في البداية إلى المزرعة بصحبة زوجته ليزي وابنه الصغير، ثم أنجب في وقت لاحق ثلاثة أطفال آخرين في مزرعة «أروهيد». وفي وقت لاحق، انتقلت والدة ميلفيل وأخواته الثلاثة للحياة معه في المزرعة، فيما كان كثير من الأقارب ينتقلون للإقامة معه لفترات مؤقتة.

وفي عام 1863، باع ميلفيل المزرعة إلى شقيقه وعاد إلى نيويورك، وأوشكت نقوده أن تنفد حيث أن جميع الكتب التي ألفها لم تلق رواجا في حياته.

بل أن رواية «موبي ديك» التي ينظر إليها اليوم باعتبارها تحفة فنية تتناول الصراع الأبدي بين الانسان والطبيعة في إطار من المغامرات المركبة، لم تنل حظها من الشهرة، حتى أعاد مجموعة من الباحثين في مجال الأدب في نيويورك اكتشافها في مطلع القرن العشرين.

ومن الممكن زيارة منزل ميلفيل الخشبي في أروهيد المطلي باللون الأصفر الذي تحيط به أشجار القيقب والدردار، خلال جولة سياحية في فصلي الصيف والخريف، واشترت جمعية بيركشايرز التاريخية المنزل وقامت بترميمه عام .1975

وساءت أحوال هيرمان ميلفيل بعد أن ترك بيركشايرز. ونظرا لأن كتاباته لم تدر عليه أموالا كافية، فقد اضطر للعمل كمفتش جمارك، وتدهورت صحته بشدة في وقت لاحق، وأقدم اثنان من أبنائه على الانتحار.

وتوفي ميلفيل عام 1891 عن عمر يناهز 72 عاما، ودفن في منطقة برونكس في مدينة نيويورك، ولم يتجاوز عدد النسخ التي بيعت من رواية «موبي ديك» آنذاك أكثر من عدة آلاف نسخة.

ولم يستعد ميلفيل غزارة انتاجه مرة أخرى منذ أن ترك مزرعة «أروهيد»، وهي الفردوس الخاص به بعيدا عن البحر.