أفكار وآراء

مفاتيح الحل في كوريا .. بأيــدي واشنـطـن وبكيــن

23 سبتمبر 2017
23 سبتمبر 2017

طارق الحريري -

مفاتيح الحل تقتصر على لاعبين اثنين فقط في ملف هذه الأزمة، هما الولايات المتحدة والصين، وقدرتهما على الوصول إلى نقطة التقاء هي الفرصة لحل الأزمة جذريا

تتفاقم تداعيات الأزمة الكورية الشمالية في الوقت الراهن بمعدل فاق التوترات السابقة في هذه المعضلة الاستراتيجية، التي يمكن وصفها بالمزمنة و التي تكشف في جانب آخر منها جسامة المفارقة بين طرفي الأزمة الرئيسيين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية، حيث تتبدى طبيعة الصراع عند مقارنة أوجه القوة في إطار الاستراتيجية الشاملة كما لو كانت بين ديناصور وقط صغير شرس، ومع هذا فإن الطرف الأقوى غير قادر على الحسم، ودون مبالغة تعتبر هذه الأزمة في ظل التصعيد الحالي الأخطر بين الأزمات كافة في الساحة الدولية، وتهدد في حالة الإقدام على خطوات أو ردود أفعال غير محسوبة بأوضاع كارثية في محيط الإقليم وعالميا.

تشكل كوريا الشمالية آخر نظام شيوعي حديدي مغلق في العالم، مما يصعب معه محاولة اختراقها من الداخل ومعرفة نواياها وإعطاء توقعات حول ما تضمره بيونج يانج أو تخطط له في مجال مشروعيها النووي والصاروخي وسيناريوهات رد الفعل في حالة تعرضها لضربة عسكرية أو فرض عقوبات رادعة، ويقتصر الحصول على المعلومات لأي جهة خارجية على أجهزة الرصد من أقمار صناعية ومستشعرات أرضية، وقد استطاعت كوريا الشمالية إظهار قدرة كبيرة على تطوير مشروع صناعتها العسكرية سواء في مجال الأسلحة التقليدية أو الأسلحة الاستراتيجية فائقة القدرات من رؤوس نووية تتطور باستمرار في إمكانياتها التدميرية وقدرة تصغير حجمها، وهذا يتيح سهولة استخدامها عملياتيا في حالة التحول إلى نزاع مسلح على نطاق واسع وبجانب الأسلحة النووية هناك التهديد من الصواريخ الباليستية التي يتجاوز مدها 5500 كيلومتر وتدرج في خانة الصواريخ العابرة للقارات التي تتصف بسرعتها الأعلى من الصواريخ الباليستية الأخرى ذات المديات الأقل مما يعنى صعوبة التصدي لها بوسائل مضادة.

يتصاعد خطر النزاع حاليا بسبب الحسابات الحرجة للخبراء العسكريين الأمريكيين لإمكانية توجيه ضربة أمريكية عسكرية قاصمة للمشروع الاستراتيجي الكوري الشمالي في بعديه النووي والباليستي باستغلال آخر فجوة متوقعة لدى الجانب الكوري في بناء منظومة صواريخ عابرة للقارات قادرة على حمل رؤوس نووية ما يتيح الوصول إلى الشاطئ الغربي للولايات المتحدة وليس فقط كوريا الجنوبية واليابان وتزايد احتمال الوصول إلى العمق الأمريكي فيما بعد، صحيح أن الولايات المتحدة تمتلك 6800 رأس نووي متطور منها 1800 رأس قيد المناوبة القتالية بينما تمتلك كوريا الشمالية في أفضل الأحوال 30 رأسا نوويا بدائية احتمال أن يكون المتطور منها في حدود ثلاثة رؤوس فقط وليس لديها أي رؤوس قيد المناوبة القتالية فما هي الفجوة الحالية التي يمكن استغلالها من قبل الولايات المتحدة لتوجيه ضربة عسكرية ؟

إجابة هذا السؤال هي أن كوريا الشمالية أجرت تجربة ناجحة لإطلاق صاروخ بعيد المدى لكنها لم تتمكن بعد من التغلب على صعوبات في توجيه الصاروخ وضبطه لضرب أهداف محددة بدقة وفي توقيت مواز نجحت بيونج يانج أيضا في الثالث من سبتمبر الحالي في إجراء تجربة نووية أقوى بعشرة أضعاف من سابقتها والدمج بين هذين النجاحين هو مكمن الخطر، لكن من غير المؤكد أن كوريا الشمالية قد أتمت بعد بناء منشأة نووية تدخل فيها الصواريخ بعيدة المدى حيث مكن تقليل حجم الرأس النووي من تحميله كرأس حربي للصاروخ، وهذا أمر طبقا للمؤشرات بات قريبا وبذلك يكون فارق التوقيت القصير وصولا إلى الصاروخ العابر للقارات المحمّل برأس نووي هو الفرصة الأخيرة التي يمكن فيها للولايات المتحدة توجيه ضربة عسكرية.

هنا علينا تذكر تصريح لوزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس (أول مسؤول من أصول عسكرية يتولى هذا المنصب منذ عقود) عقب اجتماعه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمناقشة تجربة كوريا الشمالية النووية الأخيرة حيث قال «أي تهديد للولايات المتحدة الأمريكية أو أراضيها أو حلفائها سيقابل برد عسكري ضخم مؤثر وساحق» واستطرد في عبارة لافتة «لا نبحث عن تدمير شامل لتلك الدولة التي تُدعى كوريا الشمالية رغم قدرتنا على ذلك لكني أقول أن لدينا العديد من الخيارات العسكرية لنتخذها»..تصريحات وزير الدفاع الأمريكي على حدتها لا تعكس في واقع الأمر توجها متفقا عليه بين مؤسسات الإدارة الأمريكية وبالقياس فإنه في وقت سابق عندما كانت قدرات بيونج يانج ما زالت هزيلة في إنتاج الصواريخ الباليستية وبينها وبين اختبار أول جهاز نووي سبعة أعوام حدث في عهد الرئيس بيل كلينتون وتم التراجع عن توجه قويّ وقتها بتوجيه ضربة عسكرية شاملة ضد كوريا الشمالية بعد أن خلص تقرير للبنتاجون إلى أن الخسائر المتوقعة لهذه العملية تصل تقديراتها إلى أكثر من مليون شخص في الكوريتين واليابان وخسائر مادية تزيد عن تريليون دولار وبناء عليه تم الإلغاء فما بال أن توجه ضربة أمريكية بعد التحولات الهائلة في ترسانة بيونج يانج كما ونوعا.

لاشك في أن الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى في العالم عسكريا لكنها لم تعد القطب الأوحد كما كان الوضع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، إلا أنها ما زالت بلا ند يتساوى معها في إطار مقومات الاستراتيجية الشاملة، وفي الحالة الكورية فإن المعادلة تصبح محكومة بتوازنات لا يمكن تجاهلها بالنسبة للصين وروسيا اللتين تتفقان قلبا وقالبا على رفض الحل العسكري ورفض فكرة إعادة صياغة بنية جديدة لمنظومات الأسلحة المضادة للصواريخ وتحديدا المنظومة «ثاد» ونشرها في كل من كوريا الجنوبية واليابان إضافة إلى تعزيز الأسطول البحري الأمريكي في المنطقة بذريعة مواجهة كوريا الشمالية مما يخل باستقرار التوازن العسكري على حساب كل من الصين وروسيا ..

ولكل منهما مصالح استراتيجية في الإقليم، لهذا يرفضان استغلال أزمة كوريا الشمالية لزعزعتها، فعلى أعلى مستوى سياسي أعلن الرئيس بوتين في تلميح دال «إن الدخول في هستيريا عسكرية لا معنى له إطلاقا لأنه يقود إلى كارثة عالمية»، ومن اللافت أن الرئيس الصيني شي جين بينج تجاهل في خطابه أمام قمة بريكس التطرق للأزمة الكورية، وفي تطور لاحق أبلغ الرئيس الأمريكي في اتصال بينهما عزم بكين على حل أزمة برنامج كوريا الشمالية النووي من خلال المفاوضات من اجل التوصل الى تسوية سلمية . وتكشف لغة الرئيس الصيني البعد الحقيقي لجوهر صمود دولة صغيرة فقيرة تعتمد على المعونات الخارجية، فبكين هي مانحة قبلة الحياة لكوريا الشمالية وليس هناك من بين دول العالم من هو على استعداد لخسارة التنين الصيني في دهاليز هذا الصراع بسبب كوريا الشمالية. وفي الواقع فإن مفاتيح الحل تقتصر على لاعبين اثنين فقط في ملف هذه الأزمة هما الولايات المتحدة والصين، ولا شك في أن قدرتهما على الوصول إلى نقطة التقاء حول هذه الأزمة تمثل الفرصة لحل الأزمة جذريا، وبقاء الوضع على ما هو عليه لا يتسبب في خسارة لأي منهما، بل على العكس يمكن أن تجنى مكاسب استراتيجية من ورائه.