1113052
1113052
إشراقات

الخروصي: الهجرة النبوية الشريفة لم تكن فرارًا من الاضطهاد.. ولكنها مرحـلة تأسـيسية لانطـلاق الدعـوة الإسلامية من المدينة المنورة

21 سبتمبر 2017
21 سبتمبر 2017

أودع الحق سبحانه وتعالى فيها جملة من الحكم والأحكام والأسرار لعباده المؤمنين -

متابعة: سالم بن حمدان الحسيني -

أوضح فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة أن الهجرة النبوية الشريفة لم تكن فرارًا من الاضطهاد.. بل هي مرحلة تأسيسية أرادها الله تعالى وسعى لها الرسول الأكرم لتكون المدينة المنورة منطلقًا للدعوة الإسلامية.. موضحًا أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤسس لمرحلة جديدة يكون بناؤها قائمًا على التراضي، حيث كانت مهمته صلى الله عليه وسلم نشر هذا الدين إلى الناس كافة.. مؤكدًا أنه من الخطأ أن يتصور أن الهجرة كانت فرار من الاضطهاد ومن ظلم قريش واضطهادها للمسلمين. وأشار إلى أن حادثة الهجرة هي من أعظم الدروس التي ينبغي للمسلمين اليوم أن يأخذوا منها العبرة والعظة مما يحتاج إليه القائد إلى ملازمة تقوى الله عز وجل والإكثار من ذكره مع حسن التخطيط بكل أنواعه سواء كان هذا التخطيط تخطيطًا سياسيًا أو إداريًا أو أمنيًا.. مؤكدًا أن هذه الحادثة أودع الحق سبحانه وتعالى فيها جملة من الحكم والأحكام والأسرار لعباده المؤمنين فلم يرد لها أن تكون خارقة للعادة في ذاتها وحدوثها وإنما تكون وفقًا لنواميس ثابتة أمر العباد أن يأخذوا بها.. جاء ذلك في لقاء فضيلته في برنامج سؤال أهل الذكر الذي جاء تحت عنوان: «الهجرة النبوية.. الدلائل والمعاني» نقرأ المزيد مما جاء في هذا اللقاء في السطور التالية:

قبل الهجرة نجد أن القرآن الكريم يأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بالصبر والذكر والتسبيح وأن تكون علاقتهم بالله سبحانه وتعالى متصلة بهذه الأمور.. هذا النوع من الجوانب الروحية ما أهميته في بناء الشخصية المسلمة واستعدادها للقادم؟

إن الله -تبارك وتعالى- أمر عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره والتهيؤ الإيماني الروحي في كل أحوالهم وعند مواجهة مختلف الظروف والأحوال إنما هو غذاء للعقيدة الإيمانية الراسخة في نفوسهم، فإن العقيدة التي ملأت قلوب المؤمنين بحاجة إلى مدد يجددها بحيث يبقي هذا المدد صلة وثيقة بالله تعالى الذي هو مسبب الأسباب ومهيئ الظروف والأحوال بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، ولذلك فإن الله تبارك وتعالى نجد أنه يأمر عباده المؤمنين في مواضع كثيرة من كتابه الكريم باللجوء إليه ذكرًا وتذكرًا حتى في أشد الساعات حلكة، فالله سبحانه وتعالى يقول على سبيل المثال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ويقول سبحانه مخاطبًا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم موجهًا جماعة المؤمنين.. (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)، فالذكر هو من أقوى الأسباب المعنوية اللازمة لصياغة شخصية المسلم، ثم أن الذكر هو سبب صلاح الأفراد، فإذا أريد للجماعة أن ينتظم أمرها وأن يتحقق لها النصر والظفر فإن ذلك لابد أن يكون باستقامة أفرادها ولا استقامة للأفراد إلا بهذا الزاد الروحي الإيماني الذي يصلون إليه بالإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، كما أن الثبات على مواجهة الشدائد يستدعي ثقة في الله تبارك وتعالى وفي وعده لعباده المؤمنين الصابرين بالنصر وفي استشراق المستقبل المغيب عنهم الذي ما علموه إلا من خلال الوحي الذي أتاهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكل ذلك لا يتأتى لمن كان قلبه غافلا عن ذكر الله عز وجل، أما الذي يملأ قلبه ذكرًا لله تبارك وتعالى فأنه يستحضر هذه الحقائق الإيمانية الغيبية فيكون ذلك سببًا لثباته ولقدرته على تملك أسباب الصبر ثم الاعتراف لله عز وجل بالفضل حينما يؤتيه ما وعده به جل وعلا من عنده تحقيق وعده له بالنصر، إذن هذه هي الأسباب التي نجد أن الله تبارك وتعالى من أجلها يدعو المؤمنين دائمًا إلى الإكثار من ذكره وإلى التحلي بالقيم الإيمانية وفي صدارتها الصبر لأن هذه المواقف التي ينتظروها تستدعي منهم قوة أنفس وشخصية قادرة على التغلب على اللأواء والضنك وعلى مواجهة غلواء الحياة وغلواء أهل الشرك والظلم والطغيان وعلى مدد موصول بالله تبارك وتعالى وعلى صلاح في أنفسهم وتزكية لقلوبهم وابتغاء لما عند الله تبارك وتعالى، وهذا كله لا يتحقق إلا بالإكثار من ذكر الله عز وجل.

وأضاف: إن حادثة الهجرة هي من أعظم الدروس التي ينبغي للمسلمين اليوم أن يأخذوا منها العبرة والعظة فيما يتعلق بفنونها وشرائطها وأركانها وهذا مما يحتاج إليه القائد إلى ملازمة تقوى الله عز وجل والإكثار من ذكره مع حسن التخطيط بكل أنواعه سواء كان هذا التخطيط تخطيطًا سياسيًا أو إداريًا أو أمنيًا.. وكل هذه الأنواع وجدت في حادثة الهجرة فهذا من أعظم الدروس التي ينبغي أن يسلط عليها المسلمون اليوم أنظارهم لاستشفاف ما يحتاجون إليه لإصلاح أوضاعهم لاسيما في قضية القيادة.

علامة فارقة

هل الاحتفاء بهذا اليوم المجيد الذي يحتفل به العالم الإسلامي سنويًا هو نوع من الاحتفال أم أن الهجرة تعني شيئًا عظيمًا بالنسبة للمسلمين؟

ليست الهجرة احتفالًا وإنما الهجرة حدث تاريخي فارق في تاريخ هذه الأمة الإسلامية وفي تاريخ الإنسانية جمعاء ولذلك فإن إحياء هذه الذكرى المتجددة بأخذ الدروس والعظات واستلهام العبر والحكم والأحكام أمر بالغ الأهمية للمسلمين وذلك لأن هذه الحادثة كانت علامة فارقة إذ بهجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة مع أصحابه الكرام رضوان الله -تبارك وتعالى- عليهم تغير تاريخ الحياة، فتلك القلة المستضعفة المعذبة المضطهدة في المجتمع المكي تحولت من مرحلة دعوة فقط إلى مرحلة تأسيس دولة، وقد قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عامًا صابرًا محتسبًا، صبر معهم أصحابه الكرام- رضوان الله تعالى عليهم- احتملوا التعذيب والاضطهاد والظلم في انفسهم وفي أموالهم وأولادهم وأعراضهم حتى آذن الله تبارك وتعالى تلك النفوس التي صيغت صياغة ربانية في مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم- بأن تنطلق إلى متنفس جديد بأن تنطلق رسالة الحق إلى العالمين ولنشر رسالة السلم والسلام والرحمة والهدى إلى آفاق رحبة جديدة وهذا ما حصل ولذلك فان كثيرًا من المحبطين اليوم هم بحاجة إلى أن يتأملوا في دروس الهجرة نجد أن كثيرًا من شباب المسلمين اليوم للأسف الشديد تأسرهم ظواهر الأحداث والمصاعب التي تمر بها أمتهم، والتهم التي تكال على دينهم فيورثهم ذلك قدرًا غير يسير من اليأس والقنوط.. هؤلاء هم أشد الناس حاجة إلى أن يتأملوا في حادثة الهجرة.. فلم يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع صاحبه أبا بكر، وقد وصف ربنا تبارك وتعالى ما الذي كان يمكر به أعداء هذا الدين وأعداء محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).. وحينما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار وكانت حشود الظلم والطغيان تبحث عنه في كل مكان حتى وصلت إلى فم الغار يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وهذا ما نجده في كتاب الله عز وجل حينما قال: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، ففي مطلع هذه الآية الكريمة يؤذننا ربنا تبارك وتعالى أن الهجرة نصر من عند الله عز وجل لعبده صلى الله عليه وسلم ولهذا الدين ولهذه الدعوة.. فهذه المعية المذكورة في هذه الآية الكريمة هي باعث آخر بعد تحقق أن هذه الحادثة هي نصر من عند الله عز وجل فإن هذه المعية لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه الصديق رضي الله عنه التي نصت عليها هذه الآية الكريمة.. (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) هي معية للذوات، فهي ليست لسبب آخر فربنا جل وعلا يقول في كتابه الكريم.. (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).. هذه المعية مسببة فسببها التقوى والإحسان، أما هذه المعية في هذه الآية الكريم فهي لذوات هذين الصاحبين وهما في الغار، وفي هذا مما يبعث الأمل ويجدد في نفس المؤمنين أن الأسباب كلها بيد الله تبارك وتعالى ما عليه إلا أن يطيع ويمتثل لأمر ربه جل وعلا ويثق في نصره وفي وعده سبحانه وتعالى فمع أخذه بهذه الأسباب يأتي المدد من الله تبارك وتعالى، لذلك كانت حادثة الهجرة سببًا ليؤرخ المسلمون بها تقويمهم فحينما تشاور أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن ما يمكن أن يسندوا إليهم تاريخهم ما وجدوا حدثا أفضل من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يكون مرجعا لتاريخهم.

وأضاف: لا ريب أن هناك من العلماء من يقول أن القرآن الكريم يشير إلى ذلك في قوله سبحانه وتعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) قالوا أن أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم استأنسوا من هذه الآية الكريمة مع علمهم وإدراكهم لكون الهجرة مرحلة فاصلة انتقلوا بها من مجرد مرحلة دعوة إلى مرحلة دعوة وتأسيس دولة.. مرحلة دعوة بفتح آفاق جديدة حيث تسامعت بهم القبائل ووجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جوارا وحماية من الأنصار في المدينة المنورة وبدأ يتعامل مع غير المسلمين من سكان المدينة من اليهود ومن الأعراب المشركين يتعامل معهم تعامل القائد، تعامل رئيس الدولة وهم يشكلون نواة دولة جديدة.

امتحان عملي

وأضاف: إن حادثة الهجرة هي امتحان عملي لإيمانهم بالله تبارك وتعالى، فالله عز وجل هو الذي ينوع هذه الابتلاءات على عباده، هذا جانب، أما الجانب الآخر فلأن ربنا تبارك وتعالى أودع في حادثة الهجرة جملة من الحكم والأحكام والأسرار لعباده المؤمنين فلم يرد لها أن تكون خارقة للعادة أن تكون خارج الإمكان في ذاتها وفي حدوثها وإنما أريد لها أن تكون وفقًا لنواميس ثابتة أمر العباد أن يأخذوا بها ولذلك نجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطط لها تخطيطا دقيقًا، يخطط لها تخطيطًا سياسيًا فقد كان يعرض نفسه على القبائل وأفخاذ القبائل يطلب منهم الجوار والحماية فما استجاب له إلا الأنصار من الأوس والخزرج الأبطال البهاليل فكانت بيعة العقبة الأولى ثم الثانية ثم بيع العقبة الكبرى وهذا في الحقيقة إجراء سياسي سابق على هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة؛ لأنه في بيع العقبة الكبرى أخذ وأعطى، أخذ منهم عهدًا بأن يحموه مما يحموا منه نساءهم وأطفالهم وأن يوفروا له الجوار والحماية، وأعطاهم ثمنا أوحاه إليه ربه جل وعلا وهو الجنة.. هذا هو التدبير السياسي ثم نجد جملة من التدابير الأمنية من إخفاء المسير ثم إنه اتخذ تدبيرًا أمنيا آخر باستئجار عبدالله بن اريقط دليلًا للطريق وأن يلاقيهم بعد ثلاث في غار ثور، وغير في الطريق، حيث إنه لم يأت من الطريق المألوفة وأمر من يأتيه بالأخبار ومن يأتيه بالزاد والطعام ومن يمحو الآثار كل هذه إجراءات احتياطية احترازية من التخطيط الأمني والعسكري مما لا مزيد عليه لذلك كانت الهجرة ترجمة حقيقية للأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تبارك وتعالى، وفي ذلك لا ريب تعليم لهذه الأمة في الاقتداء والتأسي به عليه الصلاة والسلام في التخطيط لشؤونهم جميعا لا سيما في الأمور ذات الشأن التي تكون أمورًا فارقة يرجع أثرها على الأمة بأسرها وعلى حركة الأمة وعلى الدعوة نفسها وعلى قوة الدولة في كل شأن من الشؤون نجد أن حادثة الهجرة تعطي هذا الدرس لتكون كما تقدم قدوة وأسوة للمؤمنين ثم إنها حجة من الله تبارك وتعالى على عباده إنه مهما اشتدت الظروف واحلولك الظلام فان على المسلم دائما أن يتعلق بالأمل والرجاء وان يبحث عن آفاق جديدة وأن يبحث عن متنفس جديد للدعوة إلى الله تبارك وتعالى.. كل هذه الأسباب تؤكد لما لم تكن حادثة الهجرة خارقة للعادة ومع ذلك فإن وجوه إمداد الله جل وعلا لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- ولجماعة المؤمنين بمدد من عنده ظاهرة جلية في حادثة الهجرة بمعنى انه متى ما أخذ العباد بالأسباب فان الله تبارك وتعالى يضاعف لهم النتائج التي وعدهم إياها.

مرحلة تأسيس

يطرح الدعاة مصطلح الدولة كحق من حقوق الداعية الذي يؤمن بأن الأرض لله وعلى البشرية أن تذعن لكن حادثة الهجرة تدل على خلاف ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكابر قريش ولم يقصيهم عن ريادة الحياة أو قيادة المجتمع إنما فضل أن يهاجر.. متى يتشكل مفهوم الدولة في مسار الدعوة إلى الله تعالى؟

هذه المسألة في الفقه الإسلامي مسألة واضحة لكن طائفة من المتصدرين للدعوة والوعظ والتفقيه يفوتهم للأسف الشديد ان يتنبهوا.. ففي ما تقدم من إشارات ما نحتاج إليه مرة أخرى.. هنا أمران اثنان المسلمون في المجتمع المكي كانوا قلة فلأنهم كذلك فمن مقتضيات الحكمة ألا يقدموا على أمر يمكن أن تكون فيه هلكتهم لأنهم قلة مضطهدة ليس لها من العتاد والقوة ما تستطيع به أن تواجه جبروت قريش.. ثانيا: هذه المرحلة هي مرحلة تأسيس صناعة للنفوس وترسيخ لمعاني الإيمان وتزكية لهذه الثلة المؤمنة بحيث تمتحن في حلومها وأخلاقها وفي ثباتها وصبرها وفي رجائها وتعلقها بالله تبارك وتعالى فلابد ان تمتحن هذا الامتحان الذي يمكن أن يؤهلها من بعد حينما تتاح لها الفرصة، أما الأمر الثاني فهو أمر البيعة فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بايع الأوس والخزرج أهل المدينة الأنصار بايعهم ثلاث بيعات كان آخرها البيعة الكبرى وفي هذه البيعة كما يطلق عليها فتح الفتوح هي التي وعدوه فيها بالنصرة والحماية وان تكون المدينة منطلقا للدعوة الإسلامية، إذن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤسس لمرحلة جديدة يكون بناؤها قائما على التراضي، هذا هو معنى البيعة فهي عقد تراض لا أكراه فيه ولا أجبار وهذا لا يتأتى في مكة المكرمة لأنهم كانوا قلة مستضعفين وكانت الغلبة والسيادة والأمر لأهل مكة ولذلك نجده صلى الله عليه وسلم بعث بعض أصحاب إلى الحبشة في هجرات متوالية، حيث إن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولى أن ينشر هذا الدين إلى الناس كافة ولذلك من الخطأ أن تصور الهجرة على أنها فرار من الاضطهاد وهذا مما يقع فيه بعض المتحدثين من الوعاظ والخطباء أنهم يصورون أن الهجرة أنما كانت فرارًا من ظلم قريش واضطهادها للمسلمين، فهم لم تكن فرار بل كانت مرحلة أرادها لهم الله تبارك وتعالى وسعى لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث كان يعرض نفسه على القبائل ويطلب منهم الجوار والحماية ويطلب منهم أن تكون مدينتهم منطلقا للدعوة الإسلامية فوجد ذلك عند أهل المدينة.