أفكار وآراء

السياسة الخارجية للسلطنة ... نموذج يحتذى!!

19 سبتمبر 2017
19 سبتمبر 2017

عوض بن سعيد باقوير -

صحفي ومحلل سياسي -

السياسة الخارجية لأي دولة لا تعني فقط مجموعة القيم والمعايير والمثل التي تؤمن بها، ومواقف سياسية تتماشى مع مصالحها الوطنية، ولكن تعد هذه السياسة الخارجية محصله لعوامل وثوابت راسخة قوامها التاريخ والجغرافيا ومسار القيادة السياسية التي رسمت الخطوط العريضة لهذا التوجه السياسي تجاه مختلف القضايا وتعاملها مع الأحداث وسلوكها السياسي مع الدول شرقا وغربا على حد سواء.

ولا شك أن النموذج العماني في السياسة الخارجية يعد نموذجا فريدا في إطار العلاقات الدولية ليس فقط من خلال فلسفة المسار السياسي ونسج العلاقات الخارجية مع الدول ولكن الأهم من ذلك هو ثبات الركائز الأساسية التي اختطها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - منذ بزوغ فجر النهضة المباركة يوم 23 يوليو 1970

إن تلك المرتكزات والنهج كان واضحا وتواصل على مدى 47 عاما حتى الآن ، رغم التقلبات والعواصف السياسية والحروب التي اشتعلت في المنطقة والإقليم بشكل عام والأزمات التي تلتها وآخرها الحرب التي يتعرض لها اليمن الشقيق ، المحاذي لحدود السلطنة غربا ، وهي الحرب التي أدت الي مآس انسانية كبيرة .

عاملا الجغرافيا والتاريخ وفكر القائد

لايمكن تحليل اي سياسة خارجية دون الرجوع الى دلالات جيوسياسية تتمثل في التاريخ والجغرافيا والسمات الفكرية للقائد ، فالسلطنة بلد تاريخي عريق وذو حضارة انسانية موغلة في القدم، تمتد لآلاف السنين وهناك اسهام عماني مهم في مناطق عدة من العالم ، ولا تزال الشواهد الحضارية تتحدث عن نفسها على سواحل شرق افريقيا وعدة مناطق في شبه القارة الهندية والصين والجزيرة العربية والخليج وبلاد فارس وهي ايران الحالية ، من خلال التماس والتواصل الحضاري مع هذه المناطق في العالم ومن هنا فان التاريخ وشواهده يلعبان دور الملهم لرسم اي سياسة خارجية موضوعية ، كما ان الجغرافيا تعد متغيرا اساسيا في فهم السلوك السياسي للدول حيث ان السلطنة تقع في منطقه جغرافية حساسة واستراتيجية ، بحكم اطلالتها الاستراتيجية على ممر مائي دولي وهو مضيق هرمز، حيث تنقل الطاقة عبره الى الشرق والغرب كما ان السلطنة تقع على بحار مفتوحة كبحر العرب والمحيط الهندي وبحر عمان والخليج العربي، مما جعل موقع السلطنة فريدا ومميزا للتجارة العالمية، وقد انعكس ذلك الموقع الجغرافي على رسم السياسة الخارجية، وفق تلك المعطيات الجيوسياسية، ومنذ اللحظات الاولى لتولي جلالة السلطان المعظم مقاليد الأمور في البلاد . ومن هنا فان السلطنة وسياستها تعد ذات منهجية مستقلة ، وهذا يعود الى تاريخها العريق وموقعها الجغرافي المميز والسمات الشخصية المتفرده لقائدها المفدى - حفظه الله ورعاه .

ازمات كبرى ومواقف مشهودة

خلال الأربعة عقود الاخيرة شهدت المنطقة حروبا وازمات سياسية طاحنة لايزال بعضها متواصلا، والمتتبع للمواقف الدبلوماسية العمانية يدرك بأن السلطنة دوما ما تضع مصلحة امن واستقرار المنطقة في سلم اولوياتها ، وجلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه - وفي كل خطبه وكلماته يركز على اهمية المنطقه وضرورة الحفاظ على امنها وتعاونها في كل ما من شأنه تجنب المخاطر من خلال اللحمة القوية بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ، وايضا ايجاد علاقات متوازنة مع مختلف دول الاقليم من حولها .

ولعل من الخطوات المبكرة لاستشعار هذه الأهمية لأمن المنطقة هو الاجتماع الذي دعا اليه جلالته لوزراء الخارجية لدول الخليج العربية، علاوة على وزيري الخارجية في كل من ايران والعراق حيث عقد هذا الاجتماع برعاية جلالة السلطان المعظم في مسقط عام 1976 بهدف ايجاد منظومة للتعاون والأمن الاقليمي لدول المنطقة.

ان المواقف السياسية العمانية في مختلف ما شهدته المنطقة من كوارث ابتداء من الحرب العراقية-الايرانية 1980-1988 والاجتياح العراقي لدولة الكويت عام 1990 وحرب الخليج الاولى عام 1991 لتحرير الكويت ، والغزو الامريكي للعراق عام 2003 ، علاوة على الدور المحوري للسلطنة اثناء الحصار الاقتصادي على العراق ، حيث كان مشروع النفط مقابل الغذاء واحدا من الاسهامات العمانيه المشهودة، داخل اروقة الامم المتحدة في ذلك الوقت ، كما لا بد من الاشارة الى الدور البارز للدبلوماسية العمانية والدور المميز لجلالة السلطان المعظم – ابقاه الله - في مسألة نزع فتيل احدى الكوارث المحتملة في منطقة الخليج من خلال القيام بالدور المحوري في التوصل الى اتفاق تاريخي في الملف النووي الايراني مع الدول الغربية بعد مفاوضات شاقة وصعبة وسرية لعدة سنوات.

ان استحضار هذه الرؤية العمانية الحكيمة في مجال السياسة الخارجية لبلادنا وفي هذه المرحلة الحساسة من الاوضاع المتدهورة في المنطقه والعالم العربي ، يأتي لبيان اهمية هذا النموذج العماني في معالجة القضايا بشكل موضوعي ومتوازن وهي سياسة تعد بالفعل نموذجا جنب السلطنة وشعبها والمنطقة وفي محطات عديدة كوارث وحروبا كادت ان تقع خاصة بين ايران والغرب بتحريض من الكيان الصهيوني، ومن هنا فان المواطن العماني يفخر ويعتز بهذه المحطات المضيئه من سياسة بلاده الخارجية والتي رسمها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - صاحب مبادرات السلام وقيم التسامح ، والذي يدعو دوما الي لغة الحوار كوسيلة واداة حضارية لحل المشكلات والنزاعات السياسية والعسكرية ، مما جعله قائدا وزعيما متفردا في هذا العالم الذي يموج بالكراهية والصراعات وعدم قبول الآخر .

مكانة السلطنة واحترام العالم

ان ثبات السياسة الخارجية للسلطنة طوال سنوات النهضة المباركة هي عملية تحتاج الى حكمة القيادة، والى القراءة الصحيحة للاحداث، ولكل المواقف السياسية ، لمواجهة تلك الصراعات الكبرى ، على اساس من التقدير الصحيح للموقف، وللموضوع ، وعبر النظر الي المستقبل بفكر استراتيجي لمجرى وتحولات تلك الاحداث . ومن هنا اكتسبت السلطنة احتراما اقليميا ودوليا واسع النطاق ، من خلال التقدير الكبير لجلالة السلطان ومنحه عددا من جوائز السلام من اكبر الجامعات والمراكز البحثية ، من دول العالم كما اصبح المواطن العماني يحظى بالتقدير في سفره وترحاله في اصقاع العالم المختلفة ، واصبحت السياسة الخارجية للسلطنة مقترنة بالمثل الاخلاقية الرفيعة ، وبالاتزان وعدم التهور، فضلا عن عدم التدخل في شؤون الآخرين ، وايضا عدم السماح بالتدخل في شؤون السلطنة .

ان سياسة سلطنة عمان يجب ان تكون منهجا ومثالا يحتذى رغم موقع السلطنة الجغرافي الحساس ، ورغم ذلك عبرت القيادة السياسية بالبلاد ومن خلال الفكر المستنير والخبرة الاستراتيجية والعسكرية لجلالته الى بر الأمان ، واصبحت السلطنة من اوائل الدول في العالم من حيث الاستقرار والأمن، ولم يشارك مواطنوها في موجات الارهاب الذي يضرب العديد من الدول في المنطقة وخارجها ، وبذلك سجلت مرتبة متقدمة من خلال المؤشرات الدولية ذات الصلة بذلك. كما اصبحت عمان هي البلد التي تستشار من قبل مختلف القوي الدولية في عدد من الملفات الساخنة ، وكان للدبلوماسية العمانية ، التي لا تعتمد على الضجيج الاعلامي ، هي من الاعلى انجازا في مجال العلاقات الدولية، خلال الاربعة عقود الاخيرة .

ان هذا النموذج العماني لهو جدير بالدراسة واظن ان هذه السياسة الفريدة ، وسط الصراعات، لا بد ان تكون جزءا من الدراسة والمنهج في الجامعات والكليات في السلطنة حتى يتعرف الجيل الجديد على واحدة من اهم سمات النهضة المباركة ، كما ان هذه السياسة ومثلها النبيلة، لا بد ان يتم تقديمها على نطاق اوسع خارجيا ، خاصة من قبل الاعلام والخارجية ، لأنها ومن خلال الاحداث التي تمت الاشارة الي بعضها ، هي سياسة نموذجية بامتياز ، ونموذج يحتذى بها .