الملف السياسي

تحديات الدولة الوطنية .. أوضح ما تكون في سوريا

18 سبتمبر 2017
18 سبتمبر 2017

بشير عبد الفتاح -

,, بينما لم تنقطع تصريحات كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والاستخباراتيين في المنطقة والغرب بشأن تقسيم سوريا واستحالة عودتها إلى الوضع الذي كانت عليه قبل العام 2011، بدأت تظهر بكثافة طروحات ومقترحات شتى بشأن تقسيم سوريا ,,

برغم أزماتها البنيوية المزمنة، ومآزقها الهيكلية المعقدة، وانعطافاتها المصيرية المثيرة، التي تخيم عليها منذ تحديد معالمها الأولية بموجب اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ، ثم إعلان تأسيسها في أعقاب الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي مع انقضاء الثلث الأول من القرن المنصرم، لم تشهد الدولة الوطنية العربية تهديدا وجوديا مباشرا وحقيقيا كذلك الذي يتربص بها منذ اندلاع ما كان يعرف إعلاميا بـ «الربيع العربي» في مطلع العام 2011، والذي امتدت فعالياته المربكة وتداعياته الخطيرة لتدرك الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو في عام 2016 ، بكل ما تثيره من تساؤلات بشأن مصير تلك الدولة الوطنية العربية مع احتدام الجدل الاستراتيجي العالمي حول أفول حقبة تلك الاتفاقية، التي وضعت أسسا للعديد من الدول العربية، لاسيما في المشرق العربي، وما يتمخض عنه ذلك الأفول من حاجة ماسة وملحة إلى بلورة آلية سياسية وقانونية دولية جديدة لإعادة هندسة المنطقة جيواستراتيجيا، وفقا لاعتبارات إثنية وطائفية، وعلى النحو الذي يكفل حماية مصالح القوى العالمية الكبرى وحلفائها الإقليميين في المنطقة .

وبالحديث عن الحالة السورية التي نحن بصدد التركيز عليها خلال السطور التالية باعتبارها تحمل في ثناياها كل التهديدات والتحديات الممكنة للدولة الوطنية العربية، يبدو جليا أن الدولة السورية التي تأسست على قاعدة اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916، والتي شكلت رسميا بدورها وقتذاك، المجالين البريطاني والفرنسي للنفوذ في الشرق الأوسط، وأفسحت المجال للانتداب الفرنسي على كل من سوريا ولبنان، والذي استمر بين عامي 1923 و1946، تتعرض هذه الأيام، شأنها في ذلك شأن دول عربية شتى، لتهديد وجودي لافت، تتجلى أبرز ملامحه في تحد بارز وخطير في آن، وهو ذلك المتمثل في أن مستقبل الوحدة الترابية واللحمة الوطنية لهذه الدولة السورية قد أمسى على المحك، وذلك في ضوء انبلاج تطورين مزعجين: تمثل أولهما في تنامي احتمالات تقسيم تلك الدولة، وفق صيغ شتى وبموجب تفاهمات مختلفة، إلى عدة كانتونات أو دويلات ما بين كردية وعلوية وسنية ..إلخ ، بينما تجلى ثانيهما في إصرار إسرائيل على استبقاء هضبة الجولان السورية المحتلة تحت السيادة الإسرائيلية المطلقة والأبدية، برغم الرفض الدولي العارم، وبغض النظر عن مآلات الأزمة السورية الراهنة.

وفيما يتصل بالتطور الأول تحديدا، ورغم أنه قد عصفت بالدولة السورية خلال سنين الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن المنقضي صراعات ممتدة وأزمات متكررة، إلا أن أيا من تلك الصراعات والأزمات لم يبلغ المستوى الذي من شأنه أن يطرح على نحو جدي ومثير فكرة تقسيم تلك الدولة مثلما هو الحال مع الأزمة الراهنة التي اندلع أوارها منذ العام 2011 ولا يزال مشتعلا حتى يومنا هذا. فعلاوة على تغير معالم الجغرافيا السياسية لسوريا بشكل جعلها أقرب إلى التقسيم الفعلي بين قوى وأذرع ومليشيات تتنازع السيطرة على الأرض، بعدما بات من شبه المستحيل توافق الآراء بين قوى فاعلة في الأزمة السورية ولديها رؤى متباينة ومختلفة بشأنها كالولايات المتحدة وتركيا والسعودية وبعض دول الخليج، وروسيا وإيران والأسد وحزب الله، كما بعض الأذرع الشيعية الأخرى، فضلا عن الدور غير المباشر للكيان الصهيوني، إضافة إلى الفشل في إسقاط النظام السوري رغم المعارك الضارية التي تستنزفه على مدى ست سنوات، وعدم تمكن الحراك الثوري في ذات الوقت من تحقيق تطلعات الشعب السوري للحرية والديمقراطية في دولة واحدة تستوعب كل الأطياف السياسية والأيديولوجية والطائفية، من شأن ذلك كله أن يغذي بعض القناعات لدى الأطراف الداخلية والإقليمية المتناحرة داخل سوريا بضرورة تقسيم ذلك البلد.

لذلك، اقترح الكاتب بصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، بريت ستيفنز، تقسيم سوريا، معتبرًا أن 17 مبادرة لحل مشكلة الحرب الأهلية هناك لم تسفر إلا عن المزيد من القتل والتشريد. ويرى ستيفنز أن «خيار التقسيم هو الخيار الأفضل، لسوريا وإن كان لن يحل مشكلاتها بالكامل إلا أنه سيعمل على تخفيضها إلى مستوى يمكن من خلاله السيطرة عليها، فوجود دويلة علوية على شاطئ البحر المتوسط في المستقبل قد يؤدي إلى نجاة حكم عائلة الأسد واستمرارها، وستكون دولة كردية مرتبطة بكردستان العراق منطقة إثنية آمنة، خاصة لو حصلت على ضمانات أمنية من روسيا، وستكون ملجأ للمدنيين لو توفرت لها الحماية الأمريكية . وفي ذات السياق، أوردت صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية تقريرا بعنوان «التقسيم هو الحل الأفضل لإحلال السلام في سوريا »، أكدت فيه أن «التقسيم هو الحل الوحيد الواقعي الذي تراه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون ومنهم بريطانيا وفرنسا، فهو كفيل بوضع مجموعة من القوانين في ظل مشاركة الحكم ثم نشر قوات لضمان تطبيق التقسيم».

وبينما يروق لبعض الخبراء الاختلاف مع هذا الطرح استنادا إلى أن الخصوصية الجيواستراتيجية للدولة السورية والمتمثلة في تموضعها بقلب الشرق الأوسط القديم والجديد ربما تجعل من المستحيل إنجاح مشاريع تقسيمها، ويستشهد أصحاب هذا الطرح في هذا الصدد بفشل محاولات سابقة لتقسيمها إلى أربع دويلات صغيرة إبان حقبة الاحتلال الفرنسي، تلوح في الأفق لمراقبين كثر إشارات لقرب تقسيم سوريا إلى ثلاث مناطق، بين السنة والشيعة والأكراد، بمباركة من نظام الأسد الذي أنجز على الأرض الجزء الأكبر من المهمة بمساعدة قوى دولية كروسيا وأطراف إقليمية كإيران.

وبينما لم تنقطع تصريحات كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والاستخباراتيين في المنطقة والغرب بشأن تقسيم سوريا واستحالة عودتها إلى الوضع الذي كانت عليه قبل العام 2011، بدأت تظهر بكثافة طروحات ومقترحات شتى بشأن تقسيم سوريا، أبرزها: اقتراح من جمشيد وكارول تشوكسي بجامعة إنديانا الأمريكية بشأن ما يسمى «خطة تقسيم محايدة» لسوريا، تتضمن تعميم وقف إطلاق النار، مع التقسيم على أسس عرقية بكل ما يتطلبه ذلك من عمليات نقل للسكان. وبموجب هذا الاقتراح، سيحصل معظم العرب السنة على المحافظات في الوسط والشمال، بينما ينتزع الأكراد الشمال الشرقي، فيما سيحافظ العلويون والشيعة على المقاطعات الساحلية المتوسطة، ويبقى المسيحيون، والدروز، واليهود في الجنوب الغربي والجنوب، في حين ينال الإيزيديون جيبا على الحدود السورية العراقية. وفي هذا الاتجاه، ظهرت خرائط تشير إلى إمكانية تقسيم سوريا إلى خمس دويلات، الغربية «الساحل حتى دمشق»، والكردية، والشمالية «إدلب وحلب»، والشرقية «الرقة ودير الزور والحسكة»، والخامسة هي الجنوبية وتضم درعا والقنيطرة والسويداء.

وقد برز في هذا السياق أيضا ما يعرف بـ «السيناريو الأسوأ» المتعلق بتفكيك سوريا، والذي ينطلق من بقاء نظام الأسد مدعوما بالعلويين وكثير من المسيحيين السوريين وبعض من النّخبة السُنية القديمة، مما سيجعلهم قادرين على الاحتفاظ بسيطرتهم الحالية على منطقة دمشق وضواحيها ومُعظم المنطقة الساحلية المُطلّة على البحر المتوسط، بمساندة إيران وروسيا. ووفقا لهذا السيناريو، يتوقّع أن يُسيطر السُنّة السوريون على مساحة مُماثلة من أراضي سوريا، تمتد من الشمال الغربي وحتى الحدود مع العراق، بما في ذلك شمال حلب، وستحظى المنطقة بمساندة دول كالسعودية وقطر وتركيا، فيما قد يحاول أكراد سوريا السَّعي للاستقلال في الشمال الشرقي أو تشكيل تحالُف مع أكراد شمال العراق، مستفيدين من الدعم الأمريكي الكبير المقدم لهم.

وبالتزامن مع تصريح جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي ايه) ، بأن هناك احتمالات تشير لإمكانية تقسيم سوريا والعراق، معربا عن عدم ثقته في إمكانية إنشاء حكومة مركزية في كلا البلدين قادرة على إدارة الأمور فيهما بشكل عادل، جاءت تصريحات بعض المراقبين والخبراء بأن «العدوان» الروسي على سوريا وإصرار بوتين على بقاء الأسد يعجل من تقسيمها، مضيفين أن الصراع الدولي والإقليمي لن يترك سوريا دون تقسيم.