أفكار وآراء

الانتحالات العاطفية .. والتسويق الرخيص

17 سبتمبر 2017
17 سبتمبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

ان «الانتحالات العاطفية» ليست ظاهرة اجتماعية حديثة، فهي قديمة بقدم ممارسات الإنسان الخاطئة، وأحاديث كبار السن في عمر مضى، تؤكد أن الغوايات الشيطانية مسلطة على بني آدم، ولكن الأمر الجديد هنا مستوى الوعي الموسوم بالخلل.

استخدم مصطلح «الانتحالات» هنا استخداما مجازيا؛ وهو مصطلح أدبي ربما أكثر منه اجتماعي، ليقيني الجازم، أن الانتحال وهو وضع الشيء في غير موضعه، او الاستحواذ على حق غير حقه، او الجلوس على كرسي غير كرسيه، كل ذلك لتبقى له الصدارة على المشهد، أيا كان عنوان هذا المشهد، اجتماعي، ثقافي، سياسي، اقتصادي، المهم أنه يظهره أمام الآخرين بالصورة الاحتفالية المزهوة بالإنجاز الظاهر أمام الناس، بغض النظر عن الحقيقة ذاتها، وهي الحقيقة ـ في هذا الموقف ـ غالبا ما تكون مؤلمة الى الحد الذي يتوارى عنها كل من يحمل ذرة عقل في رأسه، وذرة ضمير نابض بين جوانحه، وذرة أدب في معنى القيم التي يؤمن بها، ذلك أن التربع على عرش الصدارة ليس يسيرا، ومن لم تتحقق عنده مؤهلات التصدر والتميز، ويأتي ليسلبها من الآخرين بطرق غير مشروعة، وأخرى ملتوية، فذلك ليس فقط قمة الأنانية؛ بل تنصل تام عن الالتزام بالقيم الإنسانية المتعارف عليها في أي وسط كان، وذلك يعكس أيضا منتهى السخف الذي يكون عليه من يسلك هذا السلوك المشين.

تزخر المجتمعات الإنسانية؛ قديمها وحديثها بظاهرة «الانتحالات العاطفية»، ولذلك ترتبك القيم فيها الى حد التصدع، وفقدان الهويات التي تنتمي إليها هذه المجتمعات، ولذلك فهي مكروهة، ومعابة، وأكثر ما تقع فيها المرأة بحكم العاطفة – كطرف ضعيف مغلوب على أمره في أغلب الأحيان – ولذلك فأي خطأ ترتكبه المرأة في المجتمع، هو الجريمة النكراء، وفي المقابل يعذر الرجل، ويجير فعله بمسوغات عدة، وقد لا يتعرض للعقاب القيمي الذي ينادي به المجتمع في حالات الاسترخاء، وإن تعرض للعقاب القانوني، عندما تصل القضية الى منصات المحاكم، وهذه «الانتحالات العاطفية» قديمة قدم الزمان، وليست جديدة العهد، ولكن تتطور صورها بتطور الوسائل المتاحة في كل عصر على حدة، ولذلك تتعمق نتائجها أكثر، وتتعقد حلولها أكثر مع كل فترة زمنية تمر، ويظل أطرافها من الجنسين إما مغلوب على أمره، وإما متقصد بالفعل، مع سبق الإصرار والترصد، وهذه إشكالية كبيرة في عمر الوعي الإنساني في التعامل مع اجتماعيته التي تظل مهزوزة دائما بسلوكيات أفرادها المخيبة للآمال.

تمثل مناخات «الانتحالات العاطفية» ـ وهي كثيرة - أحد أهم العوامل المساعدة في نموها، واستمراريتها، وهذه المناخات هي التي تبصر المقدم على الفعل في اتخاذ الوسائل والأساليب المختلفة، بمكر وبخديعة متناهيتين في الذكاء والممارسة، فبيئات العمل الحديثة واحدة من المناخات المهمة لهذه الممارسات، وأشدها قسوة وخديعة تلك هي مشروعات التوظيف الوهمية في أغلبها، ويندرج تحتها كذلك مجمل الممارسات التي تتم في بعض المكاتب؛ حيث تضم المكاتب الجنسين، ويتم أحيانا إزالة كل الحواجز الاجتماعية تحت مظلة الزمالة والصداقة، وبعدها تبدأ العواطف تتسلل عبر طرق ووسائل كثيرة، تمارس من خلالها كل الألاعيب بالعواطف، وفي أغلب الأحيان تغلف هذه الألاعيب بغطاء مشاريع الزواج القادمة، ومشاريع الترقي والدورات المميزة، والسفر لحضور الاجتماعات الدولية، ولكن ما يحدث أن مجمل مشاريع الزواج لا تكتمل، تحت ذريعة عدم الاستعداد في الوقت الحاضر، وينحى مشروع الزواج؛ بالانتقال به الى مفهوم الصداقة في المرحلة الأولى، وقد يستمرئ الطرفان هذه الحالة الـ «مسلية» لفترات طويلة بتنازل احدهما للآخر عن كثير من المحددات، وعن كثير من المعززات للبقاء على الكمال دون المساس بأي شيء يمس الأخلاق التربوية، والخلقية، والنفسية، ولذلك نسمع بصورة مستمرة عن مآسي في هذا الاتجاه؛ تدفع ثمنه المرأة اكثر من الرجل، وهناك حالات تظهر الرجل على أنه مستعمر بقوة الأسلحة التي يستخدمها حيث ينضم تحت لوائه عدد غير قليل من النساء، في صورة تضرب قيم المجتمع بسيف حاد لا يترك ثلمة تنبئ عن تخبط في قدرته على احتواء هذا العدد الكبير، حتى يقع الفأس على الرأس كما يقال، ويحدث ذلك بعدش أن يدفع الثمن عدد غير قليل من الطرف المغلوب على أمره.

سهلت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة أمر «الانتحالات العاطفية» بصورة أكبر من المتوقع، وانزوى تحت تأثيرها كل الأعمار من كلا النوعين؛ في صورة شمولية مخيفة، فحتى الأطفال لم يسلموا من ذلك، حيث يمارس عليهم المهاجمون الجدد مختلف وسائل الاصطياد، في صورة حدت بالجهات المعنية بأمن المجتمع بأن تبادر عبر برامج معينة ـ كالمحاضرات- الى أخذ هذا الأمر مأخذ الجد، انطلاقا لما وصل إليه الحال من خطورة كبيرة، وشديدة الحساسية، وفي ظني ان هذا لا يكفي، أن تبادر جهة واحدة، وإن كانت هي أقرب الى أمن المجتمع، لأن تتصدر لهذا الأمر المخيف لوحدها، فاليد الواحدة لا تصفق، فلا بد أن تتعاون كل المؤسسات المعنية، فكل المؤسسات معنية بأمن المجتمع النظيف: من إعلام، ومن مؤسسات المجتمع المدني، ومن الجهات المعنية بالصحة العامة، ومن الجهات ذات العلاقة المباشرة بالخدمات الاجتماعية، لأن الأمر فعلا مخيف، ويقتضي هذه المساهمة الجماعية الشاملة للحد من استفحال الأمر، ووصوله الى مستويات يصعب عندها الحل بعد ذلك، لأن الوسائل اليوم تتيح هذا الهجوم المباشر، وغير المباشر لأصحاب النوايا السرطانية الخبيثة، فهؤلاء تجردوا من إنسانيتهم الحقيقية، واصبحوا اقرب الى الغريزة الحيوانية منها الى العاطفة البشرية السوية التي ترى الحلال وفق ضوابط الشرع والقانون.

وانعكاسا لهذه التداعيات كلها والناتجة عن «الانتحالات العاطفية» ليس مستغربا أن تبين الإحصائيات الرسمية أن هناك نموا في حالات الطلاق في المجتمع، مع أن معظم حالات الطلاق هذه هي ما بين وسط المتزوجين حديثي الزواج، أي عمر زيجاتهم في الخمس سنوات الأولى، مع أن معززات بقاء الزيجات، وخاصة في مجتمعنا؛ على سبيل المثال؛ أكبر من عدم الاستمرار، فكل هذه الأعمار هم أعمار الشباب، ومداخيلهم المادية جيدة، وواقع سكنهم اكثر من جيد، وتأتي الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الحكومة لعامة السكان الى حد ما ممتازة، أي لم تنزل الى المستوى الذي يقوض بناء المجتمع من عيشة الضنك، إذن ليست المشكلة مادية بحتة، وإنما هناك عامل جديد «سوسة» تنخر هذه العلاقات الزوجية فتؤدي بها الى الهلاك والانهيار، والسبب توظيف هذه «الانتحالات العاطفية» توظيفا سيئا يؤدي الى هدم البيوت، وزلزلة أركان الأسر، وقض أمن المجتمع وضربه في الصميم، وللأسف أبطال هذه المنظومة شباب لا ينقصهم الوعي، ولا هم أغبياء عن قيم المجتمع وأعرافه، ولا هم حديثو عهد بحقيقة المجتمع الذي يعيشون بين جنباته، فكثير منهم ايضا أصحاب أسر ومعيلون، ولكنهم ذئاب بشرية نهمة، تستعذب اكل اللحم الطري بالطرق غير المشروعة.

أجزم جيدا، بحكم العمر وتجربة الحياة الطويلة، والحمد لله، أن «الانتحالات العاطفية» ليست ظاهرة اجتماعية حديثة، فهي قديمة بقدم ممارسات الإنسان الخاطئة، وأحاديث كبار السن في عمر مضى، تؤكد أن الغوايات الشيطانية مسلطة على بني آدم، ولكن الأمر الجديد هنا مستوى الوعي الموسوم بالخلل، فالإنسان الجاهل في مرحلة سنية معينة، ربما لا يستحضر وقع الإثم، على نفسه أولا، وثقل الجرم على المجتمع ثانيا، وتعاظم المأساة على أمن الأسر المستقرة ثالثا، ولذلك هناك من يؤوب الى الرشد في عمر متقدم، ويكفر عن سيئاته، ويدرك، وإن كان متأخرا، مستوى الإساءة التي مارسها على أمر ليس له فيه حق، ولكن الأمر الأخطر عندما يستمر البعض؛ مع سبق الإصرار والترصد في مواصلة الفعل المشين، ويدفع ثمن هذا كله شابات أو شباب في عمر الزهور، لا يدركون الكثير من حقائق الحياة الخاصة والعامة على حد سواء، وعندما تصدمهم المأساة تكون وجوههم معفرة بتراب المعصية، ونذالة الممارسة، ويبقى ذلك كله غصة في الحلق، وندبة على الجبين، لا تزيلها الأيام ولا السنون، حيث يحملها صاحبها الى آخر لحظة له في الحياة، والسبب نزوة؛ لم يدر بخلد صاحبها أنها نكاية الدهر كله، فليتق الله كل من له ذرة عقل، ونبضة قلب سليم، فالدائرة، ليس مستبعدا، أن تكون عليه مع دورة الزمن التي لا تتوقف.