أفكار وآراء

حب الحياة.. يهزم الإرهاب في مدن الخراب

16 سبتمبر 2017
16 سبتمبر 2017

د. عبد العاطى محمد -

رغم قتامة المشهد العربي، هناك من الأخبار التي تبعث على الأمل. ومع أنها لا تلقى اهتماما من الإعلام تحت تأثير الأحداث الساخنة، إلا أنها تؤكد من مثال إلى آخر أن إرادة الحياة أقوى من كل معارك الخراب الدائرة في منطقة أو أخرى. فالمواطنون البسطاء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في معارك الكبار يتشبثون بحب الحياة وكراهية الموت ولأنهم كذلك يبادرون من تلقاء أنفسهم بالتحصن بكل ما هو ممكن من أجل البقاء وتغيير المشهد الكئيب.

لقد شاءت الأسابيع الماضية أن تقدم بعض النماذج الدالة على استمرار التمسك بحب الحياة أو بلغة الظروف الراهنة رفض الإرهاب والتطرف. وإن كان من رسالة توجهها هذه النماذج فهي مهما كانت وطأة الأحداث الدامية وما يرافقها من خراب وتدمير للعمران، فإن الأمل في الخلاص من هذا المشهد لا يزال قائما وممكنا استنادا إلى أن الاتجاه الأعم هو الانتصار لحب الحياة.

والمعلوم من الخبرات التاريخية للشعوب التي تقدمت وازدهرت في كل المجالات أنها تحب الحياة وتكره الموت. وتفعيلا لهذا المبدأ انتصرت هذه الشعوب للتسامح والاعتدال واحترام الآخر وتوفير الحرية المسؤولة للجميع دون تمييز أيا كان شكله ومضمونه. وفي القلب من هذه القيم جاء اهتمامها الشديد بالتعليم بحكم أنه الطريق الأفضل الذي يوفر كل الأدوات لحب الحياة. بينما في المقابل تشير التجارب نفسها إلى الاختيار الآخر السيئ ألا وهو كراهية الحياة وهنا يصبح من الطبيعي والسهل أن يكون الاقتتال الأهلي هو السمة الغالبة في مسار التطور، وينسحب ذلك على الموقف من المبادئ السابقة حيث مقاومة التسامح وشيوع البغضاء بين الناس. ودلت التجارب على أن من يسلكون هذا الطريق لا يهتمون بالتعليم وإن لجأوا إليه لاستغلاله في الحصول على مصادر مختلفة لتدمير الآخر، وبالنتيجة يظلون في ذيل الأمم بمقاييس التحضر الإنساني. والملفت أن إسلامنا وحضارتنا العريقة في أزمان القوة والازدهار انتصرا للعلم وللعمران أي إلى حب الحياة.

مؤخرا وبرغم الوضع المأساوي في الرقة بسوريا بسبب الخراب الذي أحدثه تنظيم «داعش» الإرهابي، بادر معلمون وبشكل تطوعي إلى إعادة افتتاح مدرسة في قرية السلحبية الشرقية بريف الرقة الغربي، والملفت أن المدرسة تحمل اسم مدرسة ابن رشد الابتدائية، وما أدراك بابن رشد المفكر والعالم الفيلسوف صاحب التاريخ المضيء في حضارتنا الإسلامية. مدير المدرسة كان قد فر إلى ألمانيا بعد سيطرة «داعش» على الرقة، ومؤخرا عاد إليها مجددا بعد انحسار التنظيم هناك أو هزيمته، وسارع بجمع المعلمين الذين كانوا معه في السابق وأعادوا افتتاح المدرسة بمبادرة فردية وبعمل تطوعي. ولو وسعنا دائرة النظر فسنجد أمثلة مشابهة ولكن مع الفارق الذي يدلل على تلاقي الأطراف التي تكره الحياة وتحب الموت في ضرب التعليم لأنه ضد منهجهم ورؤيتهم للحياة حتى وإن كانوا على خلاف سياسي فيما بينهم. فرغم الحالة المعيشية الصعبة ودوي القنابل والانفجارات التي عاشتها حلب عام 2013 تطوع البعض أيضا ممن يحبون الحياة بإعادة فتح مدارس دمرتها الهجمات المختلفة وحافظوا على مدارس أخرى لم تطلها يد التدمير. في المثالين كان من تقدموا الصفوف من معارضي النظام و«داعش» المسؤولان عن الدمار الذي حاق بسوريا وكل له مبرراته ودوافعه، ولكن المواطن البسيط الذي يشكل القاعدة الصلبة للتطور، رأى أنه لا علاقة له بهذا الصراع وكل اهتمامه منصب على إدامة نمط الحياة الإنساني الذي يحقق البقاء الحضاري في وجه حالات الخراب والتدمير. ولهذا لجأ إلى أبسط الإمكانيات لإنقاذ أجيال من الطفولة من الجهل وبالأحرى الإنقاذ من التطرف والإرهاب، وكان له ما أراد برعم قسوة الظروف.

وهناك مشاهد أخرى أكثر إثارة وإعجابا ودلالة على رفض الحالة العبثية المؤلمة التي عرفتها أكثر من مدينة عربية ممن يمكن أن نطلق عليها مدن الخراب في هذا الزمان العربي التعس. فكم كانت فرحة السوريين عارمة عندما شعروا أن منتخبهم الوطني لكرة القدم قد اقترب من التأهل لمونديال كأس العالم 2018 بروسيا. وما هو ذو مغزى أن بعضا من لاعبي هذا المنتخب معارضون للنظام ويعيشون خارج سوريا وغير مسموح لهم بدخولها، والبعض الآخر من مؤيدي النظام!. هكذا جمعتهم كرة القدم برغم ما بينهم من خلافات لأسباب بسيطة لا تخرج بدورها عن أهمية دور التعليم- كما سبقت الإشارة- في حب الحياة. فكلاهما مرتبط بالهوية الوطنية وتعزيزها بين أبناء الوطن الواحد بغض النظر عن التنوع في الدين أو الجنس والعرق، وهي ذاتها مصدر فخر للجميع ومصدر قوة لتحقيق التقدم والازدهار، وكلما تحقق في أي منهما إنجاز مهم كان ذلك مصدر سعادة واستمتاع بالحياة. هذا الاستمتاع بالحياة هو الذي يجمع ولا يفرق مهما كانت وطأة الظروف.

وعندما يحدث ذلك في بلد بعيش تحت أصوات المدافع ولكنه يرفض الانصياع لهذه الحالة العبثية ويصر على أن يلجأ الى الملاذات الآمنة الجالبة للسعادة والفرحة، فإن ذلك دليل قوي على أن الأمل لا يزال حيا وتبديل حالة البؤس ممكن وإن طال الزمن.

ولا ننسى أن الرياضة تقوم على التسامح والتنافس الشريف وكلاهما من المبادئ المهمة لترسيخ قيمة حب الحياة التي قامت عليها نهضة الأمم التي حجزت مكانتها المشرفة في سجل الحضارة الإنسانية.

لم يحدث هذا في سوريا وحدها بل تكرر في كل من العراق وليبيا وكلاهما نكبتا بالإرهاب والتطرف. فمن يتابع الدوري الكروي العراقي يجد المدرجات ممتلئة بالجمهور مع أن أصوات الانفجارات لم تتوقف على مدى السنوات الأخيرة، فرغم قرب الموت المروع هناك إصرار على استعادة التمتع بالحياة مهما كانت المخاطر. ومعروف أن العراق أحرز تقدما في مجال كرة القدم لا ينكر برغم ظروفه القاسية.

وأما ليبيا فبدورها مثال مثير يستحق التوقف، فهي من الناحية الأمنية أكثر سوءا من غيرها لأسباب لا تخرج عما هو قائم في العراق وسوريا، ولذلك فإن منتخبها الوطني يلعب دائما مبارياته في الخارج وغالبا في تونس، ومع ذلك، أي اللعب خارج الأرض دائما ومن ثم الحرمان من الجمهور الوطني المؤازر، فإنه حقق نتائج طيبة في التنافس على التأهل للمونديال، كما أن جانبا من الجمهور لا يفارقه بالمعنى الكامل حيث يذهب وراءه أينما حل، وهذا دليل على الشوق إلى الوحدة الوطنية والخلاص من حالة العيش تحت سيف الإرهاب، ومرة أخرى هو حب الحياة الذي لا يزال يتفوق على الإرهاب.

للأسف لا يعبأ الإعلام بمثل هذه المشاهد، وإن حدث وأبدى اهتماما فإنه يكون عابرا وسرعان ما ينتقل لما اعتاد عليه طيلة السنوات الماضية، وهو التوقف عند وقائع القتل والحروب والتهجير ومشاهد المدن المدمرة الخاوية من البشر، وكذلك الجولات المتتالية من التحركات السياسية والدبلوماسية والبيانات والتصريحات الساخنة المتضادة بين الأطراف المتصارعة هنا وهناك، وكلها تدفع إلى المزيد من العنف المتبادل وتوسيع دوائر الخلاف وكأنها تسد أبواب الأمل أمام شعوب أشقاء شاءت الصراعات السياسية وخصوصا خلافات الكبار أن تضعهم في وضعية الخراب والدمار مع أن أهم حقوقهم أن يتمتعوا بأبسط متع الحياة.

وكم تبدو المهمة شاقة كل يوم أمام هؤلاء ممن بيدهم زمام الأمور في أن يتمكنوا من توصيل المساعدات الإنسانية للمتضررين من هذه الأوضاع المأساوية. ولكن يبقى مع كل هذا نور في نهاية النفق يتمثل في البسطاء الذين يتطوعون لإعادة فتح المدارس أو الذين يدخلون البهجة إلى النفوس من خلال كرة القدم. هذه الأعمال على محدوديتها تبنى قاعدة مجتمعية مضادة للإرهاب ورافضة لاستمرار الاقتتال الأهلي وصامدة في وجه الخراب والدمار.

والقاعدة تتسع مع الزمن لأنها تستند إلى ما استقر في النفس البشرية من رغبة جامحة لحب الحياة والعمل من أجل التمتع بهذا الحب. وعندما تسكت المدافع فإن هذه القاعدة المجتمعية التي لم تتلوث بكوارث السياسة هي التي تكون الأساس المتين لإعادة الإعمار، تحمل معها رؤية للمستقبل قوامها التسامح والتراضي المجتمعي واستنكار الصراعات السياسية أيا كان لونها. الإرهاب ينكسر تباعا مع احتضان كل من يؤمنون بهذا التوجه. وكلما تعاظم دور المتطوعين لتحقيق هذا الهدف تسارعت وتيرة القضاء على الإرهاب. المهم أن يجدوا من يشد أزرهم.