أفكار وآراء

نقطة البدء الصناعية

13 سبتمبر 2017
13 سبتمبر 2017

مصباح قطب -

لا يغيب عن كثيرين أن الاهتمام بالصناعة والتصنيع هو جهاد أكبر لأي دولة ، او أي مجتمع يتطلع الى التقدم والرفاه والرقى المستدام ! ، لكن الذهن ينصرف دائما عند ذكر الصناعة الى الصناعات التي تسمى ثقيلة أو استراتيجية ، ولذلك ترى المواطنين في كل بلد عربي تقريبا يسألون حكوماتهم : لماذا لا نصنع سياراتنا بأيدينا وطائراتنا وقطاراتنا وسفننا وهكذا؟. سؤال يعبر عن طموح كامن وتطلع مشروع ، لكنه يفتقد روح السائل المشارك ، أي المهموم حقا بتصنيع بلده ، والمدرك لدوره هو نفسه في هذه العملية وانه ليس مجرد مشاهد أو مشجع !، فالمواطن هنا يسأل وكأن من سيقوم بالتصنيع آخرون لا يعرف أين هم؟ ولا أين المواقع التي يعملون بها ولا الجامعات أو مراكز التدريب التي صقلتهم وأهلتهم؟ ولا الخامات والمدخلات التي يحتاجونها ، ولا الأسواق التي سيتحركون فيها سواء داخلية أو خارجية ؟ ولا طبيعة المنافسة في هذه الصناعة أو تلك مما يريد المواطن السائل لبلده ان تقتحمها ؟ ولا المديرون والباحثون الذين يمكن ان يحركوا منظومة صناعية ويدفعونها قدما كل يوم بنجاح ؟ والى آخر علامات الاستفهام .

إن ما أريد ان أناقشه اليوم هو ما يمكن تسميته نقطة البدء في الصناعة او أي استراتيجية صناعية . قد يبدو ما سأطرحه وكأنه الطبيعي لكن إدراكه وتمثله صعب على كثيرين.

فمن بين المواطنين الذين طرحوا الأسئلة السابقة أناس يعرفون مثلا كيف بدأت هيونداي كورشة محدودة أو سوني أو كروب أو. أو (لم تكن صدفة ان المصانع كانت تسمى عادة “معامل”  حتى منتصف الخمسينات) ، وقد يكون أيضا ممن قرأوا عن بدايات فيس بوك او امازون او ابل المتواضعة ، وكيف نما كل منها وتطور- كصناعة وان كان لها طابع خاص - ، لكنه لا يريد ان يتعرف الى الأسباب الحقيقية للتقدم وكيفية الانطلاق من نقطة صغيرة الى عمق صناعي وتصنيعي أبعد واشمل والى قاعدة صناعية متكاملة واكثر اتساعا ، كما يغفل، او نغفل معه، عادة ، البيئة المحيطة بكل قصة نجاح من تلك القصص.

وقد نبهني الى كل ذلك مقال منذ أيام بمجلة ثقافية اجتماعية تصدرها إحدى كبريات الشركات الصناعية في مصر، وهى شركة لها مصانع في ألمانيا !!، خلافا للصورة المعروفة أي شركة في ألمانيا لها مصانع في مصر . المهم ان المجلة التي تعد هي الأخرى منتجا متميزا يكاد ينفرد به هذا الكيان الصناعي أفردت مساحة لمقال طالب فيه كاتبه وهو رئيس الشركة الدكتور مهندس نادر رياض - عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات المصرية ورئيس لجنة المواصفات والجودة بالاتحاد -  بقليل من التروي عند الحديث عن صناعة صغيرة ، او تبدو للناظر صغيرة ، وكثير من الاحترام لمن يفكرون بشكل سليم في نهضة الصناعة بالابتداء من إنتاج سلع بسيطة جدا لكنها تلبي متطلبات أساسية ليس للمواطنين فحسب بل وأيضا لأي نهوض صناعي مرغوب .

تحدث الكاتب عما اسماه “مسألة الأستيكة المصرية” (الممحاة) فقال انه ساءه كما ساء غيره ما تناولته بعض الأقلام المتعجلة من الاستخفاف بإعلان وزير الصناعة المصري عن بدء إنتاج أول “أستيكة” مصرية  ، والتهوين من أن إعلان هذا الخبر كإنجاز يصرح به الوزير بنفسه .

وأكد الدكتور نادر ان الصناعة كل لا يتجزأ وأن وجود قلم رصاص جيد وأستيكة عالية الجودة في يد كل طفل أمر له أهميته في العملية التعليمية ، وعليه ليس مقبولاً أن يعوق استيعاب الطفل رداءة الأستيكة أو القلم الرصاص. وضل الكاتب مثلا بيوم أن شرع الرئيس جمال عبد الناصر في التخطيط لتحويل مصر من دولة زراعية إلى دولة صناعية أيضاً، واستقدم عام 1957 أحد أقطاب النهضة الصناعية الألمانية وهو البروفيسور شاخت ، وطلب منه إعداد خطة صناعية لإنتاج الطائرات المقاتلة والصواريخ القابلة للتوجيه والتي تعمل بالوقود السائل، فأجابه شاخت بسؤال: هل تصنعون الطائرات التجارية نزولاً للسيارات والموتوسيكلات وأدوات المائدة من شوك وسكاكين ومعالق والأساتيك وأقلام الرصاص والبرايات؟ . فكانت الإجابة من وزير الصناعة المصري وقتها بـ لا على جميع الأسئلة ، ورد شاخت : فلتبدأوا بالقلم الرصاص والأستيكة صعوداً إلى آخر المنظومة الصناعية. وهو ما حدث حيث تم تطوير مصانع الحديد والصلب ودعمها بمعهد الفلزات ليكون سنداً لها في البحوث والتطوير للارتقاء بمنظومة الصلب في مصر، وأنشئت صناعة أدوات المائدة والحلل “البريستو” ، وأنشئت هيئة التوحيد القياسي وجودة الإنتاج وكذا مصلحة الرقابة الصناعية وبالتوازي معها المعهد القومي للجودة ليمدها بالمستجدات في منظومة الجودة العالمية الآخذة في التطور.

وأنشئ لقيادات تلك المصانع من مهندسين أكفاء مركز لإعداد القادة الصناعيين وذلك لمدهم بعلوم الإدارة الصناعية من علوم المحاسبة والتكاليف وقوانين العمل ومنظومة الإدارة الحكومية ولوائح الاستيراد والتصدير وعلوم التدريب والتنمية البشرية.

ينقصنا في اللحظة الراهنة إذا بكل ظروفها ، واستخلاصا مما سبق كما يرى د. نادر دعم صناعات الدواء والغزل ، والصلب ،  دون أن نغفل أن مصر لازالت لا تصنع الحبال والفؤوس والمواسير انتهاء بالأستيكة والقلم الرصاص المصري الصنع الجيد والمثلث والمنقلة والبرجل والمسطرة ناهيك عن كل أدوات القياس ومعدات الفك والرباط من مفاتيح وشواكيش بكافة أنواعها مستوفاة للمواصفات العالمية .

وكل ذلك من منطلق أن الصناعات مهما تعددت وتنوعت هي كل لا يتجزأ وفي تنوعها دعم من بعضها للبعض وإرساء لقواعد متينة تسمح لها بالتوسع الهرمي الذي ترتفع قمته كلما اتسعت قاعدته .

انتهى الاقتباس المطول ، وأعود الى المشاهدات الحية للتدليل على أهمية ما سبق، فقد غاب عن الأدب وربما عن الصحافة بشكل عام ما كان شائعا حتى ثلاثة عقود مضت ، إلا وهو رصد مشاعر المواطنين ذوي الثقافات المختلفة والتباينات الاجتماعية ، حيال التكنولوجيا والمعدات الحديثة التي يطالعونها لأول مرة ، والأفكار التي تدور في أذهانهم في لحظات المشاهدة الأولى . وربما يكون الأمر غاب في بلادنا فقط ، فحين يزور المرء متحف “ايرو سبيس ميوزيم” في واشنطن” يرى بنفسه الزحام الشديد من الجمهور وبخاصة الطلاب من المراحل العمرية المختلفة للتأمل في معدات الفضاء والطيران وأجزائها الدقيقة ومراحل تغيرها وتطورها، والتوقف عند خصائصها وجمال الإبداع الصناعي المعقد في كل منها.

في بلد كمصر مثلا من النادر ان يفكر احد في زيارة متحف السكة الحديد او متحف الطيران ، وقد نهضت في المحروسة منذ اكثر من ثلاثة اعوام دعوة لإحياء الاهتمام بالمتاحف التي أسميت “ المنسية” من هذا النوع ، وتعريف الأجيال الجديدة بها وهي متاحف ليست تكنولوجية فقط ، ولكن ايضا تراثية وثقافية وفنية ( كمتحف البريد ومتحف أم كلثوم ومتحف النسيج الخ ) . أقول ذلك لأشير الى ان المرء يدرك في حال مشاهدة معدات متقدمة مفككة كما يحدث في المتحف مدى أهمية كل عنصر فيها ، وبالتالي كيف تقوم الصناعة بالفعل على تراكم معقد من أجزاء صغيرة ولكن تم تصنيعها بدقة وبمواصفات لا تقبل الخطأ ، ولا تتم أجهزتها إلا بعد اختبارات بلا حصر.

بصفة شخصية أعجبتني معدات آلات المناجم التي تدهم الجبل وتحافظ على علاقة متوازنة معه فى نفس الوقت بحيث تستخلص منه الخام المطلوب وتمرره خلفها مع الحفاظ على بنية النفق دون انهيار ...كباشاتها عجيبة حقا وكل سن فيها يدعو للتأمل ..كيف تناطح الصخر ولا تبلى ؟ . أتوقف أيضا كثيرا عند مسامير البرشام التي تقوم بتربيط الطائرات أو الكباري القديمة الضخمة التي تعبر النيل او غير ذلك . افهم جيدا ان أي خلل في أي قطعة صغيرة يمكن ان يؤدى الى كارثة . من هنا تقبلت بفرح مقال الدكتور نادر رياض وهو الذي قضى عمره في الصناعات الهندسية وعمل فترة في بداية حياته المهنية بمصانع الصواريخ المصرية. من لا يصنع مفتاحا أو مفكا أو صامولة أو ترسا أو فأسا أو منجلا أو منقلة بجودة لا يمكنه ان يصنع ما هو أبعد بل وأكاد أقول ان ليس من حقه الحلم بذلك .

أهل اليسار قديما كانوا يتحدثون عن نظرية اسمها “حرق المراحل” أي بدلا من المرور بمراحل التطور الاجتماعي التاريخية من المشاعية الى العبودية الى الإقطاع ثم الرأسمالية فالاشتراكية يمكن حرق مرحلة او اكثر صعودا الى أعلى وقد ثبت بيقين عدم نجاح ذلك في اي بلد رغم نبل الهدف او الفكرة . الأمر ذاته في الصناعة ، وحتى لو اردنا إنشاء جزيرة من التقدم الصناعي داخل محيط متخلف - حتى تعمل كحفاز لباقي المناطق وهذا مشروع - فلا بد لها من ان تكون بمثابة بنيان متكامل بهرمية متسقة ومنسجمة قاعدتها الأوسع إتقان وإجادة وإنجاز بمعايير لكل ما هو صغير او جزء وقاعدتها الأعلى سيارات وطائرات أو ما شئت.

 

[email protected]