abdullah
abdullah
أعمدة

رماد : حقيبة سفر

13 سبتمبر 2017
13 سبتمبر 2017

عبدالله بن محمد المعمري -

وجهته إلى المطار لم تكن عبثا، ربما كانت تحمل مقاصد عدّة، تشبه إلى حدٍّ كبير ما يحمله في حقيبته، وتشبه تفاصيل ملامح وجهه التي دخل بها إلى صالة المغادرون في المطار، صورة تعكس تفاصيل ما تكنّه نفسه من محاولة الهرب من واقع ظنّا منه أنه ستغيره بسفره.

حقيبة سفره لم تكن تحتوي على ملابس رحلته، بل حملها بعضا من كتب الشعر، وليس أي شعر، بل شعر الغزل الذي يحفظ بعضه، وقرأ بعضه الآخر على مسامع من يحب، هذا إلى جانب بعض من قصاصات جرائد تحوي ما كتبه قلمه تعبيرا عن وصف ما عايش أو سمع أو مرّ به من تجارب الحياة بأسلوب رمزي أشبه ما يكون بصور فنان تشكيلي يخفي الغموض تارة، ويظهر صفات الذات البشرية تارة أخرى.

لم تكن هذه فقط هي محتويات حقيبة سفره، بل كان هنالك ألبوم صور لحياة مضت تعلو وجوه أصحابها ابتسامة فرح لم يعتقد يوما أنها ستنتهي، لكنه يكتشف اليوم أنها كغيرها من صور الحياة، تنتهي، وبتغير زماني أو مكاني، لأرواح رحلة بلا عودة، أو غادرت حيّزه المكاني إلى أمكنة أخرى عند آخرين. ألبوم يعيش به ذكريات ميّته ببوحها، حيّة بنظراته إليها، تتصفحه ذاكرته أكثر من تصفحه بيديه وعينيه، فقلبه لا يزال ينبض بحنين تلك الذكريات، لهذا حقيبة سفره تحتوي على ذلك الألبوم.

حقيبة سفره بلونها الأسود، على ما يبدو هي ذاتها غايات سفره، سفر ما بين الذاكرة، وهروب من واقع ملّ العيش به، سفر يحاول من خلالها أن يقطف بعضا من ثمار الغربة، ويغتسل بأنهارها، ويرتشف الحب من ديَم طقسها المزدحم بالرذاذ والمكسو بالخضرة، لعله يريح نفسه كما يقال برؤى الماء والخضرة والوجه السن.

مرّت حقيبة سفره على أجهزة المطار، وكل جهاز تمر عليه، كان الضوء الأحمر حاضرا، ليجبره على فتح حقيبته أمام رجال الأمن، ليُعرِّي ذاته المكتظّة بالحزن، ويكشف تفاصيلها لما تحتوي عليه الحقيبة، ومع أنه في كل مرة يعبر بها جهازا كان يمر بسلام، إلا أن نظرات الانكسار ترافقه بين كل محطة عبور وأخرى، لما يرى على وجوه رجال الأمن من شفقة وكأنه البائس الوحيد في هذا العالم.

عند وصوله إلى آخر محطة في سفره، وبعد أن اكتفى بالبوح، والكتابة، والتعايش مع ذاته بفرح يخالطه الشوق والحنين للتفاؤل الذي يقوي به روحه، فرغّ جميع محتويات حقيبة سفره، وأخلى معها ذاكرته من محتوياتها البائسة، ليعود إلى موطنه بنفس راضية مطمئنة.

[email protected]