الملف السياسي

تجنب فتح أبواب الجحيم .. والعودة إلى مائدة المفاوضات !!

11 سبتمبر 2017
11 سبتمبر 2017

د. عبد الحميد الموافي -

في الوقت الذي ادخل فيه التفجير النووي الكوري الشمالي في الثالث من شهر سبتمبر الحالي ، الأزمة الكورية في مرحلة جديدة ، اكثر تحديا واكثر خطرا ايضا ، خاصة بعد إعلان بيونج يانج عن قدرتها على القيام بتفجير قنبلة هيدروجينية ، وهي تمثل مستوى أعلى واكثر تطورا في مجال التقنية النووية ، لأنها تقوم على نظرية الاندماج النووي ، وليس نظرية الانشطار النووي التي تقوم عليها القنبلة النووية التقليدية ، انه ليس من المبالغة في شيء القول بأن الرئيس الكوري الشمالي « كيم جونج اون « يستثمر، الى أبعد مدى ، سمات المرحلة العمرية له ، ومحدودية الخبرة السياسية ، وسمات السلوك السياسي للنظم الشمولية في العالم الثالث ، لحماية نظامه في المقام الأول ، وبكل السبل الممكنة ، ووفق رؤيته وحساباته هو ، بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى ، محلية او إقليمية او دولية، بما فيها معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية ، التي يتوقع العالم الالتزام بها من جانب مختلف الدول ، بما فيها كوريا الشمالية بالطبع . ولعل هذا هو من اهم الأسباب وراء حالة الصدمة ومن ثم موجة الإدانة الواسعة لكوريا الشمالية ولتجربتها النووية الهيدروجينية ، وتصويرها وكأنها هي المارق الوحيد في عالم الدول ، وأنها هي التي تفتح أبواب الجحيم ، أو أنها الشيطان الوحيد في عالم من الملائكة ! . والمفارقة هي ان كوريا الشمالية ، اختارت السير على نفس الطريق ، الذي سارت عليه واشنطن وموسكو في أربعينات القرن الماضي ، وإسرائيل في السبعينات ، والهند وباكستان في التسعينات ، والبقية في الطريق بالتأكيد .

ولعله من الأهمية بمكان المسارعة الى التأكيد على إدانة السلوك التصعيدي من جانب بيونج يانج ، عبر التفجير النووي ، والاستمرار في تجارب الصواريخ الباليستية ، والاستماتة من اجل الوصول الى امتلاك القدرة على نقل القنابل النووية ، بالصواريخ الباليستية الكورية الشمالية ، الى المحيط الجغرافي لها، ووصولا الى الأراضي الامريكية بشكل أو بآخر ، وامتلاك قدرة على التصويب والتوجيه الدقيق لتلك الصواريخ لتصيب أهدافها بأكبر قدر من الدقة والكفاءة ، ليس من اجل الدخول في حرب نووية مع أمريكا او اليابان او كوريا الجنوبية بالتأكيد ، فهي تدرك أنها الخاسرة حتما وبكل المعايير، ولكن فقط من اجل حماية النظام ، وضمان البقاء، والشعور بقدر من الاطمئنان في مواجهة الهاجس القوي والعميق ، الذي يصل الى حد الفوبيا في بيونج يانج ، والمتمثل في الخوف من التعرض لمؤامرة لاغتيال الرئيس الكوري الشمالي وإنهاء نظامه بشكل أو بآخر. ثم تسخير كل موارد الدولة لإحباط ومنع هذا الاحتمال ، والاحتماء بالرادع النووي، بغض النظر عن المعاناة التي يعيشها الشعب الكوري الشمالي من ناحية ، وتعريض الأمن والاستقرار في شرق و جنوب شرق آسيا ، والسلام في العالم كله لمخاطر حقيقية من ناحية ثانية .

في هذا الإطار، فإن مطلب ضمان البقاء وعدم التعرض للتهديد ، كقيادة وكنظام وكدولة ، يعد في الواقع الدافع الأساسي للموقف والسلوك الكوري الشمالي ، وتسهم المعطيات السياسية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية ذات الصلة بكوريا الشمالية ، محليا وإقليميا ودوليا ، في تقوية القناعة بذلك داخل اوساط النظام في كوريا الشمالية . وبغض النظر عما يمكن ان يجنح اليه البعض في تقييم السلوك الكوري الشمالي او الحكم الاخلاقي عليه ، من منطلقات مختلفة ، لا علاقة لها بالتفكير الكوري الشمالي ، فإنه يمكن القول ان المدخل القادر على التأثير في هذا الموقف ، بل وتفكيك التحدي الكوري الشمالي ، إنما يبدأ من طمأنة القيادة الكورية الشمالية على نفسها وعلى بقائها ، والتعامل المسؤول مع مخاوفها الذاتية ، التي تصل الى حد الفوبيا ، دون استهزاء أو استهانة على اي نحو . ومن هنا فإن هناك حاجة ماسة ، وحقيقية لإعادة بناء الثقة ، ليس فقط بين شطري كوريا ، ولكن ايضا بين بيونج يانج وواشنطن ، بغض النظر عما ساد ويسود الإعلام من انتقادات وحملات متبادلة ، تصل الى حد التشويه ، بل والتشكيك احيانا في الكفاءة العقلية والسياسية ، على هذا الجانب او ذاك . واذا عدنا قليلا الى الوراء لتذكرنا تصريحات لوزير الخارجية الامريكية « تيلرسون « اكد فيها ان الولايات المتحدة لا تنوي الإطاحة بالرئيس او النظام في كوريا الشمالية ، وذلك في اعقاب حديث بيونج يانج عن مؤامرات للمخابرات الامريكية بهذا الشأن .

وفي ضوء ذلك ، فإن المأزق الذي تواجهه الولايات المتحدة ، وكوريا الجنوبية واليابان ايضا، يتمثل في ان لجووئها - على المستويين الفردي والجماعي - الى التعامل بأسلوب فرض العقوبات على بيونج يانج ، وتشديد تلك العقوبات ، الى حد الخنق الحقيقي للدولة والشعب الكوري الشمالي ، وهو ما تضمنه مشروع القرار الامريكي في مجلس الامن امس (الاثنين)، لا يتناسب ، ولا يخدم هدف العمل على إرساء قدر من الثقة يسمح بفتح الطريق للسير نحو الحل ، بل إنه يزيد المخاوف الكورية الشمالية . والموقفان الصيني والروسي وتصريحات الرئيس الروسي بوتين كانت على جانب كبير من الاهمية ، في الايام الاخيرة ، برغم ان كلا من بكين وموسكو ليست سعيدة بالتفجير الكوري الشمالي ، ولا بسلوك بيونج يانج ، الذي تتزايد مخاطره الإقليمية والدولية ، ولكن لا مفر من العمل على الاحتواء المرن لها بشكل او بآخر. وبغض النظر عما سيؤول اليه مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن الدولي لتشديد العقوبات على كوريا الشمالية ، فإن التأكيد الكوري الجنوبي ، والياباني ايضا ، بشأن عدم اللجوء الى الخيار العسكري ، وان الحل السلمي وعبر الحوار هو وحده القادر على حل الأزمة وتفكيك التحدي ، وكذلك الإدراك الأمريكي للمخاطر الجمة للخيار العسكري ، يجعل من التلويح بالخيار العسكري من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، و استخدامه الفاظا مثل « النار والغضب» و » الخيار العسكري بما في ذلك السلاح النووي « ، بمثابة أدوات ضغط وتحذير، اكثر منها نوايا او احتمالات عملية ، لأن مخاطر اللجوء اليها يصعب على أي طرف تحديد المدى الذي يمكن ان يصل اليه إقليميا ودوليا ، وهو أمر ليس في صالح أي طرف بالتأكيد . صحيح ان البنتاجون ، ورئاسة الأركان الأمريكية جاهزة لمختلف الخيارات ، ولكن الصحيح أيضا ان القيادة والمؤسسات الأمريكية تملك من العقل والمسؤولية ما يمنعها من الانجرار الى فتح أبواب الجحيم بأيديها ، خاصة وان عالم اليوم ليس عالم هيروشيما وناجازاكي عام 1945 من ناحية ، وانه لا يزال هناك متسع من الوقت بالنسبة لكوريا الشمالية ، التي لم تتمكن حتى الآن على الأقل من صنع عبوة نووية يمكن ان يحملها صاروخ باليستي يصل مداه الى تغطية المحيط الجغرافي لها في كوريا الجنوبية واليابان وجوام الامريكية ، والوصول بدقة الى الهدف المحدد له من ناحية ثانية . ولعل هذه المساحة الزمنية تكون فرصة لبحث سبل الحل السلمي لهذا التحدي الخطر ، دون هلع او تهويل مصنوع للوصول الى نتائج محددة .

ومع الوضع في الاعتبار المقترحات الروسية والصينية ، بما فيها مقترحات التجميد المتبادل ( التجميد مقابل التجميد ) للتجارب النووية والصاروخية الكورية الشمالية من جانب ، والمناورات العسكرية الامريكية الكورية الجنوبية ونشر منظومات صواريخ « ثاد « الامريكية في كوريا الجنوبية من جانب آخر ، فإن خيار العودة الى المفاوضات بين كوريا الشمالية من جانب ، وبين الدول السبع ( الدول دائمة العضوية في مجلس الامن الدولي بالاضافة الى اليابان وكوريا الجنوبية ) من جانب آخر، والتي عقدت جولات عدة لها منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، وادت من قبل الى وقف التجارب النووية الكورية الشمالية ، هو الخيار الذي ينبغي العمل من اجل استئنافه مرة اخرى ، تحقيقا لمصالح كل الاطراف المعنية وللسلام الاقليمي والدولي ايضا ، خاصة وان صفقات السلاح الامريكي المتطور لليابان وكوريا الجنوبية - حسبما اعلن قبل ايام - لن تحل المسألة، وأنها تؤدي فقط الى مزيد من مبيعات السلاح الامريكي لكلتا الدولتين الحليفتين لواشنطن ، فهل ستتمكن بكين وموسكو وسيول من التهيئة للعودة الى مائدة المفاوضات مع بيونج يانج ، ونزع مخاوفها الذاتية ، وفوبيا القلق على وجودها ، قبل نزع قدراتها النووية بشكل او بآخر؟ .

على صعيد آخر، فإنه من الأهمية بمكان الإشارة الى حقيقة ان ما يجري الآن بالنسبة لكوريا الشمالية، ونجاحها في فرض وجودها كقوة نووية ، قادرة على الاقل على حماية وجودها ونظامها ، خاصة عندما تعبر المساحة الزمنية المتبقية امامها للنجاح في تحميل ونقل قنابلها النووية الى الاهداف التي تحددها بدقة ، اذا اضطرت الى ذلك ، يحظى بالمتابعة الدقيقة والمستمرة من جانب قوى وأطراف اقليمية ودولية اخرى ، للاستفادة من دروس التحدي الكوري الشمالي الراهن ، خاصة في ضوء الجدل الواسع النطاق ، امس واليوم وغدا بالتأكيد ، حول مدى قدرة معاهدة حظر تجارب الاسلحة النووية على الحد من الانتشار النووي في العالم ، والأكثر من ذلك انه ثبت ان المعيار الغربي المزدوج في التعامل مع الاطراف القادرة على الولوج الى مجال التقنية النووية المدنية والعسكرية ، والسير على طريق إمكانية امتلاك القدرات النووية العسكرية ، هو معيار معوج ولن ينجح ، لأنه يقوم على جعل الثقة في قيادة الدولة التي تقوم بذلك ، هي معيار المعارضة من عدمها ، كما حدث مع اسرائيل ويحدث مع كوريا الشمالية الآن ، ومسألة الثقة في حكمة القيادة بالنسبة للقضايا النووية هي اقرب الى صك الغفران ، يتم منحه للبعض ، وحجبه عن البعض الآخر بسبب سياساتهم او مواقفهم غير المرضي عنها من جانب الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بشكل محدد ، و لكن عندما يكون المعيار موضوعيا ويمكن تطبيقه على الجميع ، وعندما تختفي التهديدات الوجودية التي تتعرض لها بعض الدول ، ويتم التوقف عن التلاعب بأمنها الداخلي وتوظيف الإرهاب ، فان الأمر سيكون مختلفا ، و عندئذ تتضاءل الحاجة لامتلاك قدرات نووية ، مكلفة ماليا وخطرة امنيا ، لمجرد تحقيق توازن قوى ، او ضمان وجود لقيادة او لنظام او لدولة ما . وعندما يتم ادراك ذلك على المستوى الغربي فإن أشياء كثيرة ستتغير، لأن العالم سيكون اكثر أمانا ، او على الاقل افضل مما هو عليه الآن .