الملف السياسي

قراءة في خبرة ربع قرن من الصراع

11 سبتمبر 2017
11 سبتمبر 2017

د.صلاح ابونار -

جاء اقتحام أزمة الأسلحة النووية الكورية القوي لمسرح السياسة الدولية مع بدايات 1992. قبل ذلك كانت حاضرة، لكنه ليس حضور الخطر او الأزمة. ومنذ هذا التاريخ تحولت تدريجيا الى أزمة تدق من حولها طبول الحرب.

وعندما نرصد تطوراتها عبر هذا المدى الزمني الذي يصل لربع قرن، يمكننا رصد أربعة خصائص أساسية، يتعين إبرازها من اجل فهم مساراتها الراهنة والمحتملة.

تبدو الخصيصة الاولى في اصرار كوريا على المضي في برنامجها النووي ، في وجه كل التهديدات والعقوبات والحصار والعزل الدوليين . خلف هذا الاصرار سنجد عقدة الحرب الكورية الاولى، والتي هددت وجود كوريا الشمالية نفسه، لولا التدخل العسكري الصيني. خلال سنوات الحرب قذفت الولايات المتحدة كوريا، بأكثر مما قذفت به المحيط الهادي خلال سنوات الحرب العالمية الثانية كلها. ومن خبرة هذه الحرب ، عبر تفاعلها مع خبرة الحركات والنظم الشيوعية في شرق آسيا خلال العقد الأول للحرب الباردة، خرجت القيادة الكورية بقناعة حتمية امتلاك للسلاح النووي كضمانة أساسية لبقاء دولتها.

ثم دخلت عوامل اخرى لتضيف الى الايمان بضرورته لبقاء الدولة، وضرورته لبقاء سلطة الحكم الراهنة. ماهي تلك العوامل؟. الفشل الاقتصادي الصارخ الذي انتهت اليه السلطة، وسط اقليم «المعجزات الآسيوية»، وفي مواجهه خصمها الجنوبي العملاق الذي كان حتى الستينات أدنى تطورا منها بمراحل. والتحول المريع في نظام الحكم، من نظام تأسس على التقاليد الستالينية، الى نظام شمولي ينقل السلطة من الجد للابن للحفيد. وانفجار المعسكر الشيوعي وتحلل رموزه، لتصبح كوريا المتمسكة بقناع الشيوعية، بلا محيط سياسي حيوي قادر على دعمها وإغاثتها، وبلا تيار سياسي عام قادر على تجديد شرعيتها في وجه فشلها الاقتصادي. ولم يبق من عالم الحرب الباردة القديم سوى الصين. الصين التي ترفضها كنظام اقتصادي وتزدريها كنظام سياسي، لكنها تريدها كدولة مانعة لوحدة شبه الجزيرة الكورية، وفقا للنموذج الكوري الجنوبي. وليس في هذا النموذج ما يزعجها في حد ذاته، فما سيزعجها فيه الحضور الامريكي السياسي والعسكري الذي سيأتي حتما في ركابه، بينما تنتظرها معركة امريكية - صينية اقتصادية ضارية قادمة في الطريق.

وتبدو الخصيصة الثانية في طابع الكر والفر، الذي يميز محاولات ضبط او تجميد او نزع السلاح النووي الكوري الشمالي . ثمة شيء هنا يذكرنا بمغامرات توم وجيري، حيث القط الضخم يطارد الفأر الصغير مطاردة متواصلة. وفي كل مرة يمسك القط بالفأر، ينجح الفأر في الافلات من قبضته ليعاود استفزازه ، لتعود المطاردة سجالا. والفأر هنا هو كوريا الشمالية، ويتناوب على اداء دور القط وكالة الطاقة الذرية، والولايات المتحدة واجتماعات الدول الست وبريطانيا والامم المتحدة.

اكثر من مرة توافق كوريا الشمالية على التفتيش الدولي لمواقعها الذرية، ثم ترفض دخول المراقبين او تنهي عملهم بعد بدايته ، او لا تتعاون معهم خلال عملهم. واكثر من مرة تقرر كوريا الانسحاب من المعاهدات والتنظيمات والاجتماعات الدولية، ثم تعلن تراجعها عما قررته بعد حين، ثم يستأنف الطرفان ما انقطع حبله. واكثر من مرة تتخطى كوريا الخطوط الحمراء اوتخرق التزاماتها، لتتعرض لعقوبات اقتصادية، ثم يشرع الطرفان في تخفيف العقوبات والتوافق على التزامات جديدة، لتتخطاها كوريا الشمالية مجددا. واكثر من مرة توافق كوريا على تجميد نشاطها النووي، وتفكيك منشآتها النووية الأساسية، في اطار صفقة سياسية واقتصادية. ثم تتخلى عن التزامها، لتلتزم من جديد بصفقة جديدة.

وفي غمار هذا الكر والفر على مدار ربع قرن، تمكنت كوريا الشمالية من انجاز تفجيرها النووي الاول في يوليو 2006، لتعقبه خمسة تفجيرات على مدى احد عشر عاما فقط ، وتصغير لحجم الرؤوس النووية بما يمكنها من تركيبها على صواريخها، وانجاز اختبارات لإطلاق الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى ، وصلت خلال الستة عشر شهرا الاخيرة فقط الى 30 اختبارا. وكانت امريكا تصعد بدورها، عبر نشر الانظمة الصاروخية ، وتكثيف وجودها البحري، وتوسيع مناوراتها العسكرية مع كوريا الجنوبية .

تتوزع مسؤولية الكر والفر على الطرفين معا. ولا تنحصر مسؤولية الكوريين في ايمان السلطة بضرورة السلاح النووي، فهناك عوامل اخرى تتحمل مسؤوليتها السلطة. منها طبيعة المجتمع المغلق الذي أسسته، الذي يجعل معرفة الخارج بما يدور فيه امرا شديد الصعوبة ، وهو ما يوفر للسلطة مجالا للمناورة والخداع، ومنها الطبيعة الاستبدادية للسلطة التي تجعلها قادرة على اتخاذ قرارات، مثل تلك التي تعرف انها ستعرضها لعقوبات اقتصادية ، مهما كانت تكلفتها الشعبية باهظة. ولكن الطرف الآخر يتحمل ايضا مسؤوليته. لم تمتلك القوى الدولية سياسة صحيحة تجاه المشكلة منذ البداية. سياسة تقر بوجود الهاجس الامني الكوري الشمالي ، و الاقرار بوجود شيء لا يعني حتما صحته، وتعالجه في اطار نسق من الضمانات الدولية الجازمة. ولم تضع الخطر النووي الكوري الشمالي في حدوده الواقعية، ولم تحاول قياسه على مجمل خبراتها خلال الحرب الباردة . وفضلت ان تخوض معركتها ضد كوريا الشمالية كمعركة صفرية، وهو توجه لا يلائم على الاطلاق الحالة الكورية الشمالية . وفشلت في حساب الدروس التي يخرج بها الآخرون من معاركها الفاشلة والمماثلة السابقة مثل حربها ضد العراق . ولكن الاخطاء ليست محض اخطاء حسابات سياسية. فهذه القوى ايضا عانت من تناقضات الاطر التنظيمية للتفاوض، وتناقضات المواقف فيما بينها، الامر الذي منح كوريا الشمالية مجالا للمناورة.

وتبدو الخصيصة الثالثة في التناقض، بين حجم الخطر الحقيقي العسكري الكوري الشمالي ، وحجم الضجة الدولية المثارة حوله.

من المنظور العسكري التقليدي، تعاني قوات الشطر الشمالي رغم ضخامتها وحسن تدريبها، من تخلف تقني نسبي وضعف في البني التحتية والاقتصادية المساندة . لكنها تمتلك سلاح مدفعيه قوية، وقدرات صاروخية كثيفة وان كانت دقتها التصويبية منقوصة، وترسانة كيماوية وجرثومية واسعة من الاسلحة. بينما يمتلك الجنوب جيشا افضل تدريبا وتنظيما وتسليحا، يمكنه الانتصار على الشمال في مواجهة عسكرية . لكنه انتصار باهظ التكلفة . فسوف يحتاج الجنوب لهزيمة الشمال لفترة ما بين 30- 60 يوما، سيدفع خلالها الجنوب ثمنا بشريا واقتصاديا باهظا. قدر خبير عسكري امريكي، ان مدفعية الشمال المحصنة لا تبعد عن سيول سوى اربعين ميلا فقط ، بمقدورها ان تسوي بها الأرض.

ومن المنظور الذري انجزت كوريا الشمالية ستة تفجيرات نووية ناجحة ، ونجحت في انتاج رؤوس نووية مصغرة .الا ان صواريخها متوسطة وبعيدة المدى لا تزال في مراحلها الاولى. فنسبة فشل تجارب الاطلاق لا تزال مرتفعة للغاية قياسا على معدلها الطبيعي. وتفتقد صواريخها للتقنيات المتقدمة، الخاصة بدقة التوجه والتصويب، والتأمين ضد الانفجار الذاتي خلال طيرانها. الا ان هذا النقص لا يسلبها قدراتها التهديدية بالكامل. فهو يسلبها تلك القدرة اذا صوبت الى جزيرة جوام البعيدة مثلا، لكنه لن ينتقص جذريا منها اذا وجهت الى اليابان او كوريا الجنوبية المجاورتين. وحتى الآن لا يزال التهديد النووي الكوري الشمالي اقليميا صرفا، وبعيدا تماما عن الولايات المتحدة . ولن يكون قادرا على المدى المتوسط على تحقيق ذلك. ومهما تمكن من تجسير هذه الهوة، سيخلقها التقدم التقني الامريكي المضاد مجددا.

وفيما نعتقد تبالغ الضجة المثارة حول الاسلحة الكورية في امرها. وعند رصد علة تلك المبالغة ، سنجد مصدرها في السياقات السياسية المحيطة بها ، وليس الابعاد الحقيقية للخطر العسكري الكوري نفسه. كيف ذلك؟

ظهر الخطر في شرق آسيا، حيث اليابان قوة العالم الاقتصادية الثالثة، والصين قوته الثانية وكوريا قوته الحادية عشرة. وأدناهم سنجد مجموعة النمور الآسيوية المرشحة للمزيد من الاتساع والسطوة. هنا توجد قوة الاقتصاد العالمي الضاربة، المتحولة تدريجيا الى مركزه العصبي. وهنا سيصبح وجود قوة من النمط الكوري الشمالي ، أمرا مثيرا للاضطراب والذعر، مهما كان حجمها الحقيقي.

وظهر الخطر تحت سيطرة سلطة تفترسها ذهنية المحاصر المهدد من العالم الخارجي، وتحكم بنظام بلا ضوابط او قيود ، وتستند الى نخب منتفعة مذعنة، وتسيطر على شعب خضع لتنميط سياسي عميق على مدى نصف قرن ، الامر الذي يجعلها طليقة اليد، قابلة للخضوع للأهواء وخطل الحسابات، ويصعب التنبؤ بتصرفاتها.

وظهرت المرحلة الأخيرة للخطر في ظل قيادة امريكية جديدة، متحمسة وتنقصها الحنكة الدولية، و قد تبحث عن معارك خارجية تستعين بها على مواجهة مشكلاتها الداخلية.

وتبدو الخصيصة الرابعة، في انتقال الأزمة منذ نهاية العقد الاول من القرن الجديد، من طور الترقب النووي الى الحشد العسكري الميداني الدائم، لتكتسب كامل سمات مواجهات الحرب الباردة. كان التصعيد النووي الكوري هو المدخل لهذا التحول. وجاء التصعيد الأمريكي في صورة توسيع المناورات مع كوريا الجنوبية ، والتدريب في إطارها على عمليات خاصة مثل استهداف مواقع كوريا النووية واغتيال كبار قادتها، ونشر نظام الدفاع الصاروخي «ثاد» ، ونشر نظام دفاع صاروخي متقدم في جوام عام 2013 قبل عامين من موعده ، وإعاقة التطور الصاروخي الكوري الشمالي عبر تخريب سيبرناطيقي او تقليدي، وتوسع مطرد في الحصار الاقتصادي.

ولم يكن الامر مجرد رد فعل للتصعيد الكوري الشمالي . بل تطور للحشد السابق الناتج عن نتائج الحرب الثانية العسكرية وترتيباتها السياسية . وبدرجة ما شكل هذا الحشد المسبق ، احد العوامل المؤججة للتصعيد الكوري النووري. اذ اعتبرته كوريا الشمالية تأكيدا عمليا، لتصوراتها عن نوايا امريكا العدوانية المبيتة ضدها ، وتأييدا حركيا للإعلان القانوني الدولي بان الحرب الكورية لم تنته بعد، بل ما زالت في حالة الهدنة