أفكار وآراء

لغة اقتصادية جديدة

06 سبتمبر 2017
06 سبتمبر 2017

مصباح قطب -

منذ أربعة عقود وهناك لغة واحدة تسيطر على الخطاب المعني بالتوجه الاقتصادي لكل بلد وللعالم كله تقريبًا، لغة تدخل عليك حجرة نومك ومكان عملك أو راحتك، تلاحقك في صحوك ومنامك، إلا وهي لغة اقتصاد السوق والمرادفات المرتبطة بها مثل تحرير الاقتصاد، وإصلاحه، وتحرير الأسعار والأسواق والعملات، والخصخصة، وحرية التجارة، وهكذا، وقد تم زف هذا التوجه في عباءة تلك اللغة إلى البشر في كل موقع باستخدام مؤاثرات دينية تعكسها كلمة إصلاح، وأخرى ثورية تترجمها كملة تحرير، وكلنا يذكر كيف أن الكلمة الأخيرة كانت عنوانا على العصر الذي سمي عصر حركات التحرر الوطني  والمنظمات التي ارتبطت به وسبق اسم كل منها كلمة تحرير كأن يقال حركة تحرير كذا أو كذا من البلدان والمناطق، ولا أظن أن دعاة العولمة الذين ابتكروا لغة تحرير الاقتصاد قد فعلوا ذلك بالصدفة، والمهم أن كيانات غربية بلا حصر وتحت مسميات مختلفة وعبر منح ومساعدات بذلت جهودًا خارقةً ومراوغةً لجعل هذه اللغة هي ليست فقط السائدة في العالم ولكن أيضا: الوحيدة، حيث تم تهميش وإقصاء أي خطاب آخر حتى، ولو كان ليبراليا حقيقيًا مادام لا يستخدم نفس البروبجندا، بل وقد حدث في وقت من الأوقات أن أصبحت الليبرالية تهمة، وهي ذاتها، أو هكذا نفترض، هي التي انبثقت عنها مفاهيم الحرية الاقتصادية والمبادرة الفردية وأهميتها، في مقابل لغة العولمة ذات الأيديولوجيا الكثيفة هذه حاول مفكرون ليبراليون ويساريون ديمقراطيون إنقاذ سمعة الليبرالية وإنقاذ العالم من اللغة الأحادية المفروضة عنوة هذه، ولكن دون كبير جدوى، وكلنا يذكر أولئك الذين دعوا إلى عولمة بديلة أو إلى عولمة رحيمة أو جعل الإنسان قبل السوق والقيم قبل الربح أو حتى معه، كما نذكر أيضا كبار اقتصاديي البنك الدولي الذين استقالوا احتجاجا على هذا التوجه ولعل أشهرهم عندنا هو “استجليتز”، لكن محاولات الإنسانية لم تذهب سدى، فقد بدأت قبيل وأثناء الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨، بالذات، محاولات جادة لإيجاد تصويب جوهري لنمط النمو الرأسمالي الحالي الذي اثبت انه يمكن أن يقود مئات الملايين في لحظة إلى البؤس والخسارة الفادحة، بل ويقضي على أعداد هائلة من الأصول الإنتاجية أو الخدمية المملوكة للقطاع الخاص نفسه بما يعني في النهاية خسارة للاقتصاد القومي لأي بلد، أن واحدا من أهم مظاهر الخلل في العولمة الأيديولوجية التي أشرنا إليها كان هيمنة الدولار، على مجمل عمليات تسوية المدفوعات في العالم تقريبًا بما منح الولايات المتحدة امتيازًا لم يحصل عليه سواها من القوى المتنافسة في العالم، كانت تلك الميزة قد برزت بعد الحرب العالمية الثانية، وظلت مقبولة عالميًا طالما تخدم التبادل المتكافئ والنمو العالمي لكنها تحولت شيئًا فشيئًا إلى ميزة للولايات المتحدة وعبء على العالم، ومن هنا بدأ التفكير في بدائل، وكانت تلك بالضبط اللحظة التي تخمرت فيها تمامًا فكرة تجمع البريك من الهند وروسيا والصين والبرازيل ولحقت بهم بعد فترة جنوب إفريقيا ولذا أعيد تسميته بالبريكس. كان الهم الأول لهذا التجمع هو التمهيد لإقامة نظام مالي ونقد عالمي جديد أكثر عدالة وأكثر تلبية لمتطلبات التنمية في مختلف بلدان العالم، ومن تلك اللحظة بدأنا مثلا نسمع عن اتفاقات دفع بالعملة المحلية، أو اتفاقات تشبه ما كان يسمى بالصفقات المتكافئة، ولنلاحظ هنا أن تلك الدول ذات اقتصادات مفتوحة إلى حد بعيد وأنها لا تبشر بأي نظرية جديدة في النمو الاقتصادي والتوزيع ولَم ينطق احد من قادتها في أو لحظة كلمة الاشتراكية، فكل همهم هو إصلاح عطب النظام الحالي البادي للعيان والذي بات يؤذي حتى أولئك الذين أطلقوه ويضر من قبلهم ومعهم أمما وشعوبا بلا عدد. وجرت في مياه النهر أمواه وأمواه وصولا إلى اللحظة الراهنة والتي انعقد فيها اللقاء التاسع لقادة دول بريكس في إحدى المدن الصينية، منذ أيّام، وكان أول ما لاحظه جمهور المتابعين ومع تدفق الكثير من المعلومات والبيانات الاقتصادية حول دول هذا التجمع، هو أن نصيبها من الناتج المحلي العالمي والذي يقترب من الربع يتناقض مع ما تتمتع به من قوة تصويتية في كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فالحصص التصويتية لدوله أقل بكثير من مجموع مساهماتها في الناتج العالمي، على الرغم أيضا من أن ما تملكه من احتياطيات دولية يصل إلى نصف الاحتياطيات العالمية، انه خلل يقول بأوضح لغة إن الذين سيدوا اللغة العولمية ذات الطابع الإيديولوجي والتي أشرت إليها لا يلتزمون بموازين المنافسة السليمة مع أنهم يبررون دعواتهم الصاخبة إلى تحرير الاقتصاد والخصخصة وفتح الأسواق وإزالة الحواجز بضرورة كل ذلك من أجل المنافسة والتنافسية، ومن البادي لكل ذي عينين أيضا أن هذا العوار لن يستمر طويلا، وسيأتي يوم قريب يتم فيه إيجاد علاقة ارتباط منطقية بين قوة كل دولة اقتصادية وبين قوتها التصويتية في المنظمات الدولية التي يفترض أنها تقوم على هذا المعيار في منطلقاتها وأعمالها التشغيلية، وقد لاحظت أيضا أن البيان الذي صدر عن اجتماع قادة دول البريكس ركز بشكل لافت على أهمية إقامة نظام نقد ومالي متوازن وتيسير تمويل التنمية في الدول الناشئة والتخلي عن المشروطيات المتبعة في برامج التمويل التي يتبناها البنك والصندوق وغيرهما كما حث على إجراء المزيد من التبادلات بالعملات المحلية وذهب إلى ما هو أبعد فتحدث عن إصدار سندات تمويل يكتتب فيها الأعضاء وبالعملات المحلية أيضا، وفي تطور آخر فقد بدأت تتبلور في خطاب تجمع البريكس وبلا مواربة ملامح لغة تنموية جديدة، لغة تتحدث عن العدالة والإنصاف والندية في التجارة والاستثمار والمعونات عبر الحدود،  وتشدد على أهمية الارتباط بين التنمية والاستقلال، وترفض الإجراءات ذات الطابع الأحادي سياسيا أو اقتصاديا التي تتخذها بعض الدول قصد إيجاد ميزة لها أو حرمان منافسيها من العمل في أجواء تنافس شريف، وقد أثار الدهشة أكثر تكرار التأكيد على الوقوف ضد الحماية والقيود على تدفق التجارة والاستثمار، فقد تعودنا أن نسمع ذلك من الدول الغربية الكبرى لكن أن نسمعه من الصين وروسيا والهند ...، فذلك غريب حقا وكاشف لما يجري في زماننا حيث يحاول من أطلقوا العولمة وحولوها إلى معبود أيديولوجي، أن يتنصلوا منها الآن، وأن يغلقوا الأبواب ويقيموا الأسوار والجدران!، ويبقى أن أشير إلى النهج الذكي الذي اختطته حكومة الصين في تجمع هذا العام حيث دعت خمس دول من خارج البريكس، منه مصر، لحضور اللقاء، تمهيدًا لتوسيع إطار هذا التجمع، وقد عقد الرئيس عبدالفتاح السيسي على هامش مشاركته لقاءات مع قادة روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا، تحدث فيها عن خطة مصر ٢٠٣٠، والإصلاحات الجارية الآن للنهوض بالاقتصاد والفرص الاستثمارية الضخمة في البلاد، لكن المغزى الأهم هو مشاركة مصر في تغيير اللغة الأحادية التي هيمنت بلا منطق اقتصادي أو إنساني سليم، فلمصر اهتمامات حقيقية بقضايا الأمن والسلم الدوليين والرخاء الاقتصادي العالمي، وقد شاركت بقوة في مراحل تطور اقتصادي اجتماعي سياسي مهمة للبشرية، حديثا، منها مساهمتها في صياغة ميثاق الأمم المتحدة، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية،  وأخرجت مع غيرها إلى الوجود مفهوم عدم الانحياز، وحوار الجنوب/‏‏‏جنوب، ومبادرة الـ٧٧ وهكذا، ومن المهم اليوم أن تكون مع التيار البازغ في التوجهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذا العالم. الآمال كبيرة هذه المرة في الوصول إلى حلم العولمة العادلة أو الرحيمة أو الإنسانية، سمها ما شئت.