randa
randa
أعمدة

عطر :ماتت أمي مات من يحبني

06 سبتمبر 2017
06 سبتمبر 2017

رندة صادق -

الموت حق وحقيقة، الموت سر نتخيله ونجتهد لندرك ماهيته، الموت انتقال من عالم الفوضى الى عالم الكمال الإلهي، الموت لا نختاره بل هو من يختارنا،هو قسوة الواقع التي توصف بالرحمة، هو بساطة الحقيقة التي لا مفر منها، ولكننا نبالغ في فلسفتها، هو لا يباغتنا بل نحن الذي نتناساه لنتمكن من العيش، من التنفس، من متابعة مسرحية الحياة،من إضاءة شمعة وسط الظلام،رغم معرفتنا ان الموت بجانبنا وان رنة هاتف مع فجر ندي أو اتصال يشق صمت ليل الحالمين قد تتغير معادلة الاطمئنان والسكينة التي ننتحلها علنا ننجو من تجربة الموت.

يأتي الموت متعاليا صادما لا تنفع معها حيل التخفي، أواستبدال الهوية أو اتجاه السير، يأتي أحيانا بمقدمات ومؤشرات نراها ونلمسها وأحيانا مُفاجئا خاطفا، يمد يده لينتقي من يشاء، وفي كلتا الحالتين يأتي مرا برهبته وطقوسه وتفاصيله، حين تخرج الروح تتغير المسميات، فهذا الإنسان بات الجثة أو الميت أو المرحوم، ينسلخ منه الاسم ليصبح صفة حالته، لذا حين رن الهاتف في الصباح الباكر علمت أن أمي ماتت وباتت الجثة المرحومة، يا إله الكون يا أرحم الأرحمين، انتقلت أمي من دار الفناء الى دار البقاء انتقالا كان مخاضه طويلا وعمرا لا يستهان به، كان مرحلة من عمري الذي تقاطع مع عجزها ومرضها وحاجتها لوجودي، مرت سنوات كنت أشعر أني أنا أمها وهي طفلتي التي أخاف عليها، انتهى الخوف من الفراق، فقد أصبح واقعا مفروضا لا قدرة لي على تغييره، في هذه اللحظة قلبي له صوت صراخ يمزق وجداني ، شريط طويل مر بذاكرتي رافقته دمعة حارقة وابتسامة جارحة: أيها الكون ماتت يدا هدهدت سريري جففت دمعي وربتت على كتفي، أيها الكون الغامض، أنا لا أنعي أمي بل أنعي نفسي، ماتت أمي مات من يحبني، مات من كنت أنا أمله وحلمه وفخره واعتزازه، ماتت أمي فأضاءت السماء نجمة واحتفلت بملاك يعبر فضاءها الواسع، ماتت شعلة الحنان والبركة في أيامي، مات انشغال الوقت فلن أسابقه بِرا بها، تخطى الحزن كم الزمن، فأنا حزينة منذ أن نال منك المرض وأقعدت جسدك الشيخوخة، أمي لا تصدقي أنك رحلتي، فأنتِ ستبقين في وجداني لنموت معا يوم أغادر هذا الكون الملهاة،حينها سنغمر شوقنا ونستريح فنحن ندرك إنا لله وإنا إليه راجعون.

اليوم المطلوب مني أن أرتدي الحزن، ولكن قدسية الحزن أنه شديد الخصوصية كما عرفوه: ”جمرة لا تحرق إلا مكانها” لذا الحزن مُلكي وحدي أنا أعلمه وهو يعلم بروحي، بيني وبين الحزن علاقة غريبة مُربكة تفيض دمعا وحياة حتى وان نعتها الغافلون بالموت، أنا لا أغمض عيني إلا لأستعيد خفقة واحدة من خفقاتك ففي عالم نبضه من جليد وملمسه من عوسج، كنت آخر حلم لروح تنسحب من هيكل إنسان كان الموت والحياة يصارعانه يمزقانه وسر من أغرب الأسرار.

كان العالم يتابع حياته السخيفة حين كنتِ أنتِ في دائرة الألم وحيدة، غالبا لا تنتظر من أحد ان يضمد جرحك، أغرز خنجرك بصدرك ولا تتوقع من أحد ان يمسح دمعك، حلق بعيدا عن الألم وانهض كطائر الفينيق لتحلق فوق الجراح، فالحزن سيد اللحظة والفراق ليس باختيار، لقد تعلمت ان الحزن في كل تفاصيله ألم ومع هذا ما زالت ابتسامتي تنتصر على دمعي. ابتسم لوجهك أمي وأبكي لرحيلك وبينهما لا أملك إلا الدعاء لك بالرحمة فالأمهات لا يمتن، يعشن بعاداتنا بكلماتنا، بطريقة أكلنا واختياراتنا أمي لن أقول لك وداعا بل الى اللقاء.

[email protected]