الملف السياسي

التوافق الدولي .. يؤسس لواقع جديد

28 أغسطس 2017
28 أغسطس 2017

طارق الحريرى -

,, بعد التغيرات الجوهرية للأوضاع العسكرية وتغير الخريطة بدرجة كبيرة لصالح الجيش السوري أصبحت الفرصة متاحة لتقبل أطراف الصراع بالدعم السياسي الخارجي وهنا أدت مقتضيات الأوضاع إلى تراجع مطلب أكثرية دول الغرب بضرورة رحيل بشار الأسد مما يعني بدء التوافق الدولي بين الأطراف الفاعلة ,,

بدأت الحرب السورية تأخذ منحى جديدا نحو إمكانية للحل السياسي أصبحت في واقع الأزمة- بعيدا عن قعقعة السلاح- أقرب من أي وقت مضى بعد سنوات من الصراع والتشرذم تكبد فيها الشعب السوري قدرا هائلا من المعاناة والآلام، وكادت بنية الدولة بمفهومها السياسي تتعرض للانهيار، وقد لعبت القوى الدولية ومن قبلها القوى الإقليمية دورا جسيما في مجريات أحداث ما تم على الأرض من صراع لكن القوى الدولية كانت هي اللاعب الرئيسي في الوصول بالأزمة إلى وضعها الحالي الذي تلوح في آفاقه فرص واعدة للحل السياسي لم تكن متاحة من قبل في ظل أوضاع كانت بالغة التعقيد.

أدى الواقع السياسي الدولي إلى تحولات جذرية في مسار النزاع سواء في تجاذبات المشهد الدولي أو في الداخل السوري، وبصفة عامة يمكن رصد الأطراف الدولية الفاعلة في ملف الأزمة في كل من الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي، برز من بينها الدور الروسي الذي تجاوز المحافل السياسية إلى الانخراط المباشر في الحرب السورية مما أسفر عن أوضاع على الأرض غيرت موازين القوة وحسمت كثيرا من مجريات الصراع الدائر وقد ساعد الروس على الإقدام على هذه الخطوة عدة عوامل هي:

أولا: أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن مستعدة للانزلاق بقواتها في حرب جديدة في الشرق الأوسط بعد تورطها في أفغانستان والعراق، في ظل إدراك الإدارة في واشنطن لمخاطر التمدد خارج الأراضي الأمريكية، وما نتج عن هذا من خسائر كبدت خزانة الدولة ثمنا باهظا وتوافق هذا المنحى مع ما كان يتبناه الحزب الديمقراطي من توجهات خلال فترة حكم الرئيس السابق باراك أوباما.

ثانيا: كان الاتحاد الأوروبي رغم الميراث الاستعماري لدوله في المنطقة العربية غير مستعد للدخول بقوة على مسار الأزمة نتيجة التحديات المتزايدة التي تهدد ولو من بعيد كيانه نتيجة المشكلات الداخلية إضافة إلى الأعباء الاقتصادية وعدم الرغبة في فتح جبهات أخرى من الحرب الباردة مع موسكو والتركيز على الأزمة الأوكرانية التي يعتبر الأوروبيون أن السكوت عنها يمثل خللا استراتيجيا لأمنهم.

ثالثا: لم يكن من المتاح في ظل المناخ الدولي السائد استصدار قرار أممي عن طريق مجلس الأمن يفرض قيودا ملزمة على أطراف الصراع توطئة لجمع هذه الأطراف على مائدة واحدة في مفاوضات مباشرة وقد فاقم من عدم تحقيق هذه الفرصة التي اختبرت من قبل في حروب مماثلة التعدد الزائد عن الحد للأطراف التي تحارب بعضها البعض وتحارب النظام وقيام الكثير منها بخوض حرب بالوكالة عن قوى إقليمية ترضخ لأجندة قوى دولية أو تستطيع الضغط على بعض هذه القوى في إطار تشابك المصالح.

كان للروس حسابات دقيقة جعلتهم يقومون بالتدخل عسكريا في سوريا، أهمها أن البيئة الدولية فيما يخص الحرب السورية لم تكن أطرافها المؤثرة معنية باهتمام جدي بتداعيات الصراع الدائر كما أن القوى الإقليمية المتورطة في الأزمة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ليس من بينها من يمكنه أن يتخذ رد فعل يضر بموسكو، كما أن النظام السوري الذي يحظى بشرعية في المحافل الدولية ولدية تمثيل دبلوماسي في الأكثرية من بلدان العالم وفر الذريعة السياسية والقانونية عندما طلب من الروس المعاونة العسكرية في مواجهة تفاعلات الأزمة.

في واقع الأمر فإن الروس كانوا يهدفون إلى حماية مصالحهم الاستراتيجية في المياه الدافئة لأن سقوط النظام كان سيفقدهم قاعدتهم البحرية في طرطوس ومعنى هذا أنهم سوف يواجهون خللا جسيما في دوائر أمنهم القومي لأن البحر الأبيض المتوسط سوف يتحول إلى بحيرة مغلقة لحلف الناتو ومن ناحية أخرى فإن روسيا الوريث الفعلي للاتحاد السوفييتي السابق فقدت كل عناصر قوتها السابقة في المنطقة العربية عدا سوريا التي يمكن أن تكون مستقبلا بوابة لاستعادة مكانة أو دور يسمح لها بأن تستعيد هيبة ومصالح بل ومكاسب.

أنهى التدخل العسكري الروسي الغموض الذي كان يسيطر على الأوضاع الناتجة عن تشرذم القوى الداخلية وصحح المعادلة في دحر عناصر التنظيمات الإرهابية التي لم يقو الجيش السوري وحلفاؤه على هزيمتها في كثير من المواقع وكانت معركة حلب نقطة تحول قلبت رأسا على عقب توازنات القوة فوق الأرض، ومن ناحية أخرى قدمت عمليات الاستطلاع التي قامت بها القوات الجو فضائية والأقمار الصناعية الروسية، أدلة دامغة على زيف القصف الجوى الذي يقوم بها التحالف الدولي ضد عناصر داعش، كما كشفت عن الدعم اللوجستي الذي يتلقاه التنظيم والتغاضي عن حرية حركة عناصره، مما تسبب في فرض طوق حقيقي على هذا التنظيم.

أدرك الأمريكيون، بعد النجاح الكبير للقوات الروسية، أنهم أصبحوا في حاجة ماسة لاقتحام الملف السوري حتى لا ينفرد الروس بالهيمنة على عملية التسوية السياسية للأزمة لذلك قامت وحدات الأسطول الأمريكي في البحر الأبيض المتوسط بإطلاق العشرات من صواريخ توما هوك على قاعدة الشعيرات الجوية للجيش السوري، كإعلان وجود رمزي للدور الأمريكي، وفى الوقت نفسه كانت عناصر من الجيش الأمريكي ومهندسيه تقوم بعملية تدشين لقاعدة جوية بالقرب من سد الطبقة في الشمال السوري، كما قامت بعض دول التحالف الدولي (بريطانيا وإيطاليا وألمانيا وفنلندا) بالمساهمة، ولو شكليا تحت العباءة الأمريكية، بإنشاء قواعد أرضية وجوية في سوريا وكردستان العراق لتقديم الدعم التسليحي واللوجيستي لقوات سوريا الديمقراطية، بعد فشل برامج تدريب معارضة موالية كبدت واشنطن تكاليف مالية ضخمة لأن فصيل قوات سوريا الديمقراطية يتمتع بالجاهزية والكفاية العددية. ورغم أن هذا القرار أغضب تركيا، عضو الناتو، ووتر علاقاتها مع أمريكا، إلا إن الأخيرة رأت أن خيارها يضمن لها موقف أقوى في ترتيبات حل الأزمة لاسيما أن قوات سوريا الديمقراطية هي التي تقوم بتحرير الرقة معقل داعش الرئيسي في سوريا.

بعد التغيرات الجوهرية للأوضاع العسكرية وتغير الخريطة بدرجة كبيرة لصالح الجيش السوري، أصبحت الفرصة متاحة لتقبل أطراف الصراع بالدعم السياسي الخارجي، وهنا أدت مقتضيات الأوضاع إلى تراجع مطلب أكثرية دول الغرب بضرورة رحيل بشار الأسد، مما يعني بدء التوافق الدولي بين الأطراف الفاعلة. وكانت هناك عوامل أخرى أدت لظهور هذا التحول تمثلت في رغبة أوروبا في الحد من مشكلات الهجرة غير الشرعية، واستمرار تدفق مئات الآلاف من سوريا ويسعى الغرب الى بناء استقرار في سوريا للسيطرة على موجة الإرهاب العارمة التي يتعرض لها من تنظيم الدولة الإسلامية حيث كانت سوريا ملعبا كبيرا لاجتذاب وتدريب عناصر أجنبية من كثير من بلدان أوروبا أصبحت قنابل موقوتة في الحاضر والمستقبل لذلك جاء القبول بفكرة مؤتمر أستانا الذي عقدت منه خمس جولات جرت في العاصمة الكازخستانية وشارك فيها كل من الدول الضامنة الثلاث (روسيا وتركيا وإيران) والحكومة السورية وممثلين عن فصائل المعارضة السورية المسلحة والمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا إضافة إلى وفدين من الولايات المتحدة والأردن بصفة مراقبين، وقد أسفرت جولات أستانا عن تخفيف حدة التوتر بدرجة كبيرة في كثير من المناطق السورية.

وفى إطار السيطرة على الاشتباكات نجح الاتفاق الروسي الأمريكي الأردني في إيقاف العمليات العسكرية في جنوب سوريا، في مناطق درعا والقنيطرة والسويداء، ويكشف هذا الاتفاق عن جدية التعاون بين واشنطن وموسكو في ملف الأزمة. وعلى صعيد آخر بذلت جهودا للتهدئة شاركت فيها مصر في ريف دمشق ومن المتوقع النجاح في المدى القريب بدعم دولي في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية وبعد تقلص جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) واقتصار وجودها في محافظة إدلب، بذلك يصبح الوقف الشامل لإطلاق النار في جميع أرجاء سوريا إمكانية مؤكدة بضمانات دولية وقدرة على الحسم ضد أي فصيل مناوئ.. من هنا يصبح الطريق ممهدا أمام مؤتمر جنيف كي يجني ثمار التطورات الإيجابية في ملف الأزمة على طريق إنهاء حرب مريرة وقاسية وبداية سوريا جديدة تنعم بالسلام والاستقرار.