أفكار وآراء

«الشعبوية» .. ومخاطر محتملة على المجتمع الأمريكي!!

26 أغسطس 2017
26 أغسطس 2017

د. عبدالعاطي محمد -

لقد شهدت الولايات المتحدة أحداثا مؤسفة في عدة ولايات خلال الفترة الأخيرة من عهد أوباما نفسه، وقعت على خلفية التعسف من بعض أفراد الشرطة مع بعض أفراد من السود كانوا هم الضحايا في كل حال. وأثارت في أوقاتها استياء رسميا وشعبيا وحرص أوباما على احتوائها. وقد تم النظر لمثل تلك الأحداث على أنها استثناءات ولا تشكل تيارا يتزايد ثقله مع مرور الوقت، وانحصرت أبعادها في كونها أخطاء من رجال الشرطة يجري تجنبها بإعادة تأهيل من يرتكبون هذه الأخطاء وتطييب العلاقة بين الفئات الغاضبة من السود ورجال الشرطة، فضلا عن تطوير أساليب التعامل مع الجريمة من جانب المؤسسات الأمنية المعنية.

إلا أن الأمر اختلف مع بدايات الحملات الانتخابية الأخيرة التي انتهت بوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. لم يعنِ هذا أن العنصرية كانت قد هلت بوجهها مجددا في هذه الحملات، ولا أن ترامب نفسه طرح نفسه على خلفية عنصرية، لأن القضية ذاتها أصبحت جزءا من الماضي الذي لا يريد الأمريكيون عودته. ما حدث هو أن الخطاب الشعبوي كان قد أوجد لنفسه منصات للتأثير في الحياة السياسية الأمريكية، وتزعم ترامب وفريقه من ناحية، واليمين المتطرف من ناحية أخرى هذا التوجه، باعتباره مسارا يضمن تحقيق مكاسب سياسية أكثر من غيره وله جاذبية عند قطاع لا يستهان به من الأمريكيين في السنوات القليلة الأخيرة.

وقد نشأ هذا الخطاب بفعل عدم ارتياح الأمريكيين لأداء المؤسسات التي تصنع وتدير القرار في واشنطن، مما سمح بظهور الشعبوية كتيار سياسي يتجاوز المؤسسات تماما ويتفاعل مباشرة مع الجمهور خاصة أنه يطرح نفسه كمنصة تعكس مطالب هذا الجمهور وتسعى معه إلى تحقيقها وليس باللجوء إلى المؤسسات المعتادة. ولأن الجمهور ليس كتلة واحدة محددة المعالم وإنما جماعات وقوى اجتماعية وسياسية متنوعة ولا يمكن أن تلتقي جميعها على المصالح نفسها، فإن دعاة الشعبوية، خصوصا من اليمين المتطرف ركزوا على الجماعات والقوى السياسية التي تشعر بأنها الأحق بالرعاية أو أنها ضحية دائما للقواعد والقيم السائدة وتؤمن بأن عليها دورا يتحتم القيام به لفرض مطالبها، هي دائما تبحث عن منقذ بعيدا عن المؤسسات المعتادة لأنها لا تثق في هذه المؤسسات.

من الطبيعي وسط المناخ السياسي الذي أشاعه الشعبويون في الولايات المتحدة أن يحدث الانقسام المجتمعي وأن تتجدد الخصومات القديمة بين فئات مجتمع هو بطبيعته متعدد الأعراق، وفي القلب من هذا لم يكن مفاجئا أن تتشجع الجماعات العنصرية على إحياء دورها والتأثير على مجريات الأحداث السياسية في الولايات المتحدة.

جماعة كلو كلوكس كلان واحدة من الجماعات العنصرية سيئة السمعة في التاريخ الأمريكي، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وارتبط ظهورها بميراث الحرب الأهلية آنذاك بين الشمال والجنوب وهي ليست ضد السود وحدهم، بل أيضا ضد وجود اليهود والعرب والمسلمين وأي أجناس أخرى غير البيض. وهي تمثل أيضا ما يطلق عليه القوميون المتطرفون أي الذين يريدون نقاء عرقيا للوطن، وتلك نظرة مذمومة بالطبع لمفهوم الوطنية. وفي الوقت المعاصر لا وجود لهذه الجماعة بالشكل الذي ظهرت به في الماضي البعيد، وإنما أصبح المسمى ينسحب على جماعات شتى من اليمين المتطرف، بعضها لا يزال يحمل الاسم نفسه والبعض الآخر بأسماء أخرى.

ما حدث أن النسخة المعاصرة من هذه الجماعة قررت تنظيم تظاهرة كبيرة في مدينة تشارلو توسفيل بولاية فيرجينيا من البيض المتعصبين، احتجاجا على قرار من مجلس المدينة بإزالة تمثال للجنرال روبرت لي الذي كان من دعاة الإبقاء على العبودية خلال الحرب الأهلية. ولكن مظاهرة مضادة تصدت لها من المناوئين للعنصرية جمعت أمريكيين من البيض والسود معا. ولأن الجماعة المذكورة تؤمن بالعنف مع خصومها إلى حد التنكيل بجثثهم، فقد وقعت اشتباكات دامية بين الطرفين وضح فيها تماما عنف هذه الجماعة وأنصارها من اليمين المتطرف بينما كان الضحايا من الجانب الآخر.

كان من الممكن أن تمر الواقعة كغيرها من وقائع شهدت شبهات عنصرية في السابق، ولكنها أحدثت ردود فعل واسعة النطاق على المستوى السياسي المعاصر في الولايات المتحدة لأنها أشارت مجددا للانقسام الذي ضرب الحياة الأمريكية سياسيا وشعبيا أيضا وما شهدته من عنف وما مثلته من إحياء لماضٍ بغيض وخطورة تأثير هذا الإحياء على المجتمع الأمريكي والحياة السياسية الأمريكية عموما.

انتظر الكثيرون داخل أمريكا وخارجها أن يدين الرئيس ترامب الحادث وأن يعلق بهذا المعنى في تغريداته المعتادة العديدة كل يوم تقريبا، ولكنه تأخر يومين كاملين، وعندما علق- تحت الضغط- ساوى بين الطرفين في الخطأ، أي بين العنصريين والمناوئين لهم وحمل كلاهما المسؤولية! وقال: إن هناك أناسا طيبين في الجانبين. وبعد أن وجد ثورة غضب عامة لموقفه عاد للتعليق، بعد مرور عدة أيام معبرا عن انتقاده وإدانته للعنصرية وللجماعات التي تتبناها. من الصعب وصم الرجل بالعنصرية برغم اندفاع الإعلام الأمريكي المناهض صراحة له من البداية، إلى النبش في الماضي، ولكنه الخطاب الشعبوى الراسخ على قلب وعقل الرجل هو الذي دفعه تلقائيا لاتخاذ موقف لا يزعج اليمينيين. إنه يريدهم إلى جانبه سياسيا بل ويرى بينهم أناسا طيبين، فهكذا تفرض عليه الشعبوية أن يغازلهم أو يتبنى مطالبهم. الشعبوية وتوسيع نطاق الالتفاف الشعبي حوله طالما هو يتعاطف مع مطالب جمهورها.

أوباما جاء موقفه على النقيض تماما من موقف ترامب، ليس في الحقيقة لأنه من السود فالرجل واضح في معارضته للعنصرية من حيث المبدأ ويعتبر نيلسون مانديلا أستاذه السياسي، وإنما لأنه ليس شعبويا ويدرك أن الشعبوية تقود بالضرورة إلى الاحتكاك بين الناس، وأنها- كما هو سائد في الوقت المعاصر في الحياة السياسية الأمريكية - نذير شؤم على حاضر ومستقبل الأمريكيين جميعا حيث ينخرط عقد وحدة المجتمع، تلك الوحدة التي قامت أساسا على التعددية. قال أوباما في تغريدة نالت إعجاب نحو ثلاثة ملايين أمريكي تعليقا على حادث فيرجينيا، «لا يولد أحد يكره شخصا آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه»، والمعنى أن الناس يولدون على عدم التمييز، وأن التربية أو الظروف المحيطة هي التي تجعلهم إما يحبون أو يكرهون بعضهم البعض. والرسالة هنا موجهة منه لترامب واليمين المتطرف ويقصد بها أن سياساته تقود إلى ما جرى في فيرجينيا، وهي سياسات تعتمد على الخطاب الشعبوى وليس على القيم والمؤسسات.

السؤال الذي لم يطرحه لا أوباما ولا غيره من النخب والسياسيين الأمريكيين، هو لماذا وجد ترامب الطريق سهلا إلى البيت الأبيض ووجد تجاوبا مع خطابه الشعبوي؟ فبعيدا عن أي انتقادات توجه للرجل ولخطابه السياسي، لماذا عجزت المؤسسات العتيقة الأمريكية عن وقفه. والإجابة المسكوت عنها هي أن هذه المؤسسات ذاتها أصابها الوهن والانقسام، وتتحمل جانبا من وزر ما جرى ومن صعود اليمين المتطرف والجماعات التي من أمثال الكوكلوكس كلان. لقد جاء ترامب على غير رغبة حزبه الجمهوري وتفوق على عدد كبير ممن رشحهم الحزب لاختيار واحد منهم لخوض الانتخابات الرئاسية. وما كان لذلك أن يحدث لولا وجود انقسام حاد داخل الحزب، وبالمقابل في الجانب الآخر صدق الحزب الديمقراطي دراسات ومشاورات المراكز البحثية المؤيدة بطبيعتها له، بينما الواقع الجماهيري لم يكن في صف الحزب، لقد صدق المؤسسات وأهمل حقيقة الوضع الانتخابي، أو بالأحرى لم يصدق أن المجتمع الأمريكي بات منقسما منذ زمن بسبب عزلة المؤسسات عنه. أمريكا في حاجة لأن تراجع نفسها شعبيا ومؤسساتيا قبل أن تجرفها الشعبوية إلى مناطق خطرة تم التخلص منها بتضحيات كبيرة.