إشراقات

أداء المناسك على بصيرة

24 أغسطس 2017
24 أغسطس 2017

ميمونة بنت حميد الجامعية -

عدّ موسم الحج أعظم مؤتمر تربوي يجتمع فيه المسلمون من جميع أنحاء العالم، من خلاله يمكنهم بناء علاقات اجتماعية في الله ولله. كما يعد الحج مدرسة يتدرب فيها الحاج على العديد من مكارم الأخلاق، ويكتسب فيها الكثير من الخبرات من خلال أدائه للمناسك فما إن ينتهي من نسك وينتقل إلى غيره حتى جنى من ذلك النسك العديد من الثمار، وهذا يكون دأبه بتنقله وتقلبه بين مشاعر الحج المختلفة، وفوائد الحج ليست مقتصرة على الحجاج فحسب بل هي شاملة لكل المسلمين والمسلمات فالجميع في المنفعة سواء اكتسبه الحاج وعاد به إلى مجتمعه في ثوب نقي وحياة جديدة، أو هي أخلاق سعى إليها غير الحاج انسجامًا مع الكون في تسبيحه وتلبيته.وللإحرام محظورات وهي المحرمات التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، فإن الذنوب والمعاصي محرمة على المسلم، وفِي حال تلبسه بالعبادة يتأكد منعها كالسباب والشتم والجدال والفسوق، يقول سبحانه: «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفع ولا فسوق ولا جدال في الحج» فالرفث هو الجماع ودواعيه، وأما الفسوق فقد قيل هو: المعاصي كلها «فلا رفث ولا فسوق» نهيا وحثا للمسلم على تجنب المعاصي كلها حال الإحرام، فيكون ذلك نهيا بِعد نهي، وتأكيدًا بعد تأكيد، وأما قوله تعالى: (ولا جدال في الحج) فهو الجدال بالباطل، أو الجدل بغير حق كأن يجادل على نصرة أحد على آخر، أو الإصرار على رأي خطأ، أو للبغي على أحد إلى غير ذلك.

ومع ما في الحج من القيام بأركانه وشرائطه وسننه وآدابه ومع ما فيه من مشقة، وما يحصل فيه من الخضوع والخشوع والاستكانة والتعظيم، ومع ما فيه من المقاصد المعروفة والتي تبدأ بالإحرام ودخول مكة والطواف والسعي والوقوف بعرفة والدفع إلى مزدلفة وجمرة العقبة والتحلل الأصغر وطواف الإفاضة (التحلل الأكبر) ورمى الجمرات والرجوع من منى وطواف الوداع، إلا أن هناك مقاصد تربوية وأخلاقية يتعلمها الحاج من مدرسة الحج كما يتعلم الصائم الآداب من مدرسة الصيام فيخرج منه بنفس غير التي دخل بها، ومن هذه المقاصد ما يأتي: الإخلاص؛ وهو أن يريد الحاج بحجه وجه الله تعالى، والحذر من مبطلات العمل كالرياء وغيره «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله». وثانيًا: التوبة النصوح؛ فالحاج مقبل على مرحلة جديدة من حياته فينبغي عليه أن يبدأ صفحة جديدة مع ربه سبحانه وتعالى، فيتحلل من المظالم و يتوب إلى ربه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ» فالمبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الخطايا والذنوب، والتخلص من حقوق العباد صغيرها وكبيرها، والتحلل من المظالم، قولًا كان أو فعلًا؛ وثالثًا: استشعار عظمة ركن الحج وشعائره: فمن الأخلاق الواجبة بين العبد وبين ربه أن يعظم شعائره وفي ذلك تعظيم لله، فإن ذلك من تقوى القلوب، قال تعالى: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» وتعظيم حرمات الله بأن يجتنب ما حرم الله عليه في الإحرام تعظيما لأمر الله، وقد قيل: الحرمة مالا يحل انتهاكه، أو ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه. ورابعًا: التذلل والانكسار: فلا يرى المسلم نفسه إلا بهذا التواضع الذي تتذلل به أمام الله سبحانه وتعالى والافتقار إليه وهو بين يديه سبحانه بلا واسطة أو استئذان، منيبًا، مخبتًا «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» فمن تواضع لله رفعه فتضاءلت نفسه أمام أعماله، ليندفع نحو أعمال البر والخير على الدوام. وخامسا: المداومة على العبادة: فإن من أبرز ما يجنيه الحاج من حجه الدوام والاستمرار في العبادة بعد الحج، وهو من علامات قبول العمل، والسادس: تعلم الانضباط: لعل هذا من أهم ما يتعود عليه الحاج، ويلزم نفسه على الانضباط عليه لالتزامه بمواقيت مكانية وزمانية لا يمكن تعديها أو تجاوزها إلى غيرها، إضافة إلى التزامه بقوانين الرفقة التي معه حتى يتمكن أن يكون معهم في أداء جميع المناسك، وهذا مما ينمي فيه الحرص على الاستمرار عليه بعد عودته وكأنه ينقل الخبرة التي اكتسبها في حجه إلى واقعه اليومي العلمي والعملي والأسري.

والمقصد السابع: مراقبة النفس: في المدرسة الربانية تقوى مراقبة الله عزَّ وجل، كما تشتد محاسبة النفس؛ حرصًا على سلامة الحج، فتصبح نفسه زاجرة عن كثير من الأقوال والأفعال التي فيها ضرر عليه وتمس سلامة حجه. والثامن: تربية النفس: إن مما يظفر به الحاج هو تربية النفس على التوازن بين المنافع الدينية والدنيوية، (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ معلومَات...) أي: ليغفر الله لهم، ويغسلهم من آثامهم، ويستجيب دعواتهم، وليتعارفوا ويتناصحوا، وينتفع بعضهم من بعض بالبيع والشراء، فقد أباح الله في الحج التجارة، فقال: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم»، وهي من المنافع المقصودة في هذه الآية، فإن الله أطلق ولم يقيد شهود الناس المنافع، وهذا من لطفه بهم وسعة رحمته وفضله، وقد علم أنهم لن يستغنوا عن هذه المنافع من تجارة أو غيرها، بل هم محتاجون إليها، فأباح لهم شهود المنافع في الحج وأعظمها مغفرة الذنوب واستجابة الدعوات، فالحج يجمع بين مصالح الفرد الدنيوية من بيع وشراء وغيرها وبين مقاصد شعيرة الحج من ذكر وصلاة وتسبيح وقراءة قرآن ودعاء وغير ذلك، مما يدل على أن الإسلام ما منع شيئًا إلا وأباح أشياء أخرى، وهذه هي عين مراعاة حاجات الإنسان في عمومه، موازنة بين المباح من مأكل ومشرب وملبس وبين الواجب من صلاة وبر وصلة وغيرها.

تاسعًا: استشعار معنى المساواة: فالمجتمعون في الحج من مشارب شتى يكونون في صعيد واحد، كما أن وقتهم واحد، وعملهم واحد، فتجتمع معهم وحدة المشاعر والشعائر، لتحقق المساواة في أجلّ صورها، فلا فرق بين عربي وأعجمي، وفقير وأمير (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) هنا تتجلى الأخوة الحقة التي يجمعها الحب والسلام والتعاون والوحدة على اختلاف اللغات والبيئات «إنما المؤمنون إخوة» تلك الرابطة التي ارتضاها الله عزوجل لأهل الإيمان، وهي أقوى من أخوة النسب فما أجمل تلك الأخوة وما أسماها، فمحركها والدافع إليها ديننا الإسلامي الحنيف. والمقصد العاشر: اكتساب مكارم الأخلاق: فالحج مدرسة للأخلاق، وميدان لتربية النفس على معالي الأمور، والبعد عن سفاسفها، ولعل أهم ما يعود به في هذا الجانب: الصبر: وقد رغب القرآن في الصبر، وهو من أكثر الأخلاق التي اعتنى بها الإسلام لذا تكرر ذكره فيما يقارب تسعين موضعا، منها ما كانت خطابا لنبيه -صلى الله عليه وسلم- «واصبر وما صبرك إلا بالله»، وما روي في الصبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «... ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر»، «ومن يتصبر»: أي يطلب توفيق الصبر من الله تعالى: «واصبر وما صبرك إلا بالله» أي يأمر نفسه بالصبر ويتكلف في التحمل عن مشاقه، وهو تعميم بعد تخصيص؛ لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة والمعصية والبلية، أو من يتصبر عن السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرع مرارة ذلك ولا يشكو حاله لغير ربه يصبره الله أي: يسهل عليه الصبر. ومن فوائد الصبر: إنه دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام، يورث الهداية في القلب، يثمر محبة الله ومحبة الخلق، صلاة الله ورحمته وبركاته على الصابرين، وصبر الحاج على خدمة غيره بتعليمه وإرشاده أو التغاضي عما يجده من أمور لم يعتد عليها في بيئته، وكذلك الصبر على ما يجد من مشقة في أداء المناسك، كل ذلك لن يضيع عند الله «وبشر الصابرين».

وكذلك العفو والصفح: امتثالًا لقوله تعالى: «فَاعْفُوا واصفحوا»، وترقيا في الأمر بمكارم الأخلاق من الحسن إلى الأحسن، ومن الفضل إلى الأفضل (فمن عفا وأصلح فأجره على الله).

وأيضا القناعة: وهي الرضا بما يقضيه الله سبحانه وتعالى ويقدره، فيعيش أياما ربما لم تمر عليه في حياته كحياة الرفاهية التي كان يعيشها في بيته، فعليه عدم التذمر أو الامتعاظ بما أنه كبقية خلق الله هناك، مما يولد لديه الشعور بالسكينة؛ وهي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة الخوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه ويوجب له زيادة الإيمان وقوة في نفسه وثقة بربه حتى يغدوا متوكلا عليه حق التوكل.

وكذلك الرغبة والترغيب: وهي إرادة الشيء مع الحرص عليه، وقيل: الاجتهاد في الطلب، وقيل: مطلق الطلب والإرادة، وتتصاعد الرغبة حتى لا تبقي من الجهود مبذولا ولا تدع للهمة ذبولا، ولا تترك غير القصد مأمولا، فرغبته لا تدع من مجهوده مقدورا له إلا بذله، ولا تدع همته وعزيمته فتورًا ولا خمودًا وعزيمته في مزيد، ولا تترك في قلبه نصيبا لغير مقصود، فإذا اكتملت رغبته اكتمل معها خلق الرعاية الإيمانية وهي: مراعاة العلم وحفظه بالعمل، ومراعاة العمل بالإحسان والإخلاص وحفظه من المفسدات وصيانته، من هبوب رياح المعاصي والآثام.

ولعلي أهم ما أختم به هو: تذكير عام بأن يحرص كل رجل وامرأة وصل إلى تلك البقاع الطاهرة أن يؤدي المناسك على بصيرة، وأن يزكي حجه من الشوائب ففي ذلك تزكية لنفسه «قد أفلح من زكاها»، كما أوجه نداءً خاصًا للنساء باغتنام الثواني قبل الدقائق في كل ما يعود عليهن بالنفع، فالتحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها «أياما معدودات» أي: ليس كغيرها فهي مخصوصات فلتغتنم، كذلك أن يسعين بالسؤال عن أمور دينهن من مصدره تجنبا لأي خطأ يفسد حجها، وأركز هنا على أحكام طهارة المرأة، إذ لا يفيد تأجيل السؤال إلى ما بعد العودة من الحج، لما قد يترتب على ذلك من فساد حجها، وقد تكرر هذا المشهد فلا يكاد يخلو منه عام، وعلاوة على ما تقوم به البعثة عموما والأخوات المرشدات خصوصا من توعية مستمرة للنساء، أيضا هنا المجال مفتوح للتواصل عبر القنوات المختلفة والمعروفة للجميع ومنها: المنتدى الحواري بمنبر المتفقهات الذي فتح نافذة خاصة لاستقبال استفسارات قاصدات الحج حيث يمكن للسائلة الرجوع إليه في أي وقت سواء بطرح سؤالها أو الاستفادة من الأسئلة والأجوبة المطروحة فيه والتي تهمها وهي تؤدي نسك الحج، كما أن أرقام المنبر المباشرة متاحة كذلك في الفترتين الصباحية والمسائية، والأرقام هي: 95423104/‏‏95423194/‏‏95423189

أسأل الله للجميع قبول الحج، وغفران الذنوب، وأن يعود الجميع إلى مجتمعاتهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.