إشراقات

استعداد يليق بمكانتها

24 أغسطس 2017
24 أغسطس 2017

د. ناصر بن علي الندابي -

بعد أن يستشعر القاصد للحج هذه النعمة، عليه أن ينتبه لكل أمر فيها فيسعى إلى الاستعداد لها استعدادًا يليق بمكانتها وبقداستها، إذ عليه أن يتذكر أن الله عزَّ وجل لا يعبد على جهل، فعليه أن يحرص أشد الحرص على أداء مناسك الحج على أكمل وجه وأحسن صورة، ولن يتأتى له ذلك إلا بالتعلم والتفقه في أركان وواجبات وسنن الحج، فبعد أن يتفقه الحاج في كيفية أداء هذه الشعيرة، قراءة واستماعا، عليه أن يطبق كل ما علم، فيبدأ بالتخلص من كل التبعات التي لحقت به في حياته من دين أو تبعات على العباد أو حقوق على رب العباد بقدر ما يستطيع.

ها هي شعيرة الحج على الأبواب، وها هم ضيوف الرحمن يتهيأون للوفود إلى العرصات المقدسة، والأماكن المباركة ملبين دعاء الواحد القهار الذي جاء على لسان نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»، وقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر دعاهم الله فأجابوه وسألوه فأعطاهم». هذه الشعيرة التي تعد ركنا من أركان الإسلام وفرضا واجبا على كل قادر مستطيع الإتيان بها.

إنَّ المسلم الذي عزم الحج وعقد النية وأعد العدّة لقصد البيت الحرام لأداء مناسك هذه الشعيرة المباركة، عليه أن يستشعر أولًا نعمة الله عليه أن وفقه لذلك، فالتوفيق لأداء الطاعة هي نعمة من الله سبحانه وتعالى تستحق الشكر، فكم من مسلم قادر على أداء الحج لم يوفق ولم ييسر له أن يكون من بين ركاب حجاج بيت الله الحرام في هذا العام.

بعد أن يستشعر القاصد للحج هذه النعمة، عليه أن ينتبه لكل أمر فيها فيسعى إلى الاستعداد لها استعدادًا يليق بمكانتها وبقداستها، إذ عليه أن يتذكر أن الله عز وجل لا يعبد على جهل، فعليه أن يحرص أشد الحرص على أداء مناسك الحج على أكمل وجه وأحسن صورة، ولن يتأتى له ذلك إلا بالتعلم والتفقه في أركان وواجبات وسنن الحج، فعليه أن يختار الوسائل المناسبة لذلك، فالحمد لله اليوم كل الأمور متيسرة ومتوفرة وأبواب العلم والمعرفة مفتوحة، فالذي يعرف القراءة فهناك الكثير من الكتب التي تتحدث عن ذلك، ومن لم يكن له حظ من القراءة فعليه أن يتسابق إلى تلك المحاضرات والدورات التي تعقد لتعليم مناسك الحج والعمرة، ولقد عنت بذلك وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بهذا الأمر وقدمت جهدًا محمودًا في ذلك، وإذا لم يتمكن القاصد للحج مما سبق، ولم يجد وقتا لحضور مثل هذه الدورات، فعليه بالمحاضرات المسجلة ومقاطع الفيديو التي توضح بالصوت والصورة كل منسك وكيفية أدائه على الوجه المطلوب.

بعد أن يتفقه الحاج في كيفية أداء هذه الشعيرة، قراءة واستماعا، عليه أن يطبق كل ما علم، فيبدأ بالتخلص من كل التبعات التي لحقت به في حياته من دين أو تبعات على العباد أو حقوق على رب العباد، فإن كان عليه دين فاليقظة وإن كانت عليه حقوق للناس من مال أو غيره فعليه أن يسارع إلى تأديتها وإن كان بينه وبين أحد من الناس خصومة ونزاع فعليه أن يتخلّص منها بقدر ما يستطيع، وكذلك إن كانت عليه تبعات بينه وبين الخالق فعليه أن يؤديها فإن كان عليه صيام أو صلوات أو كفارات أو نذور فعليه أن يأتي بها قبل خروجه وشروعه بالذهاب إلى تلك العرصات المقدسة، فيخرج من بلاده سالمًا معافى من كل التبعات، فيودع أهله وذويه وأقاربه وجيرانه وأهل قريته وداعا يشعر من خلاله أن الكل قد رضي عنه وأنهم يودعونه وداعا يرجون به أن يعود إليهم سالمًا غانمًا معافى في جسده وماله وحاله، فتصافحه القلوب قبل الأيادي وتحزن عليه القلوب على فراقه وتفصح العيون عن ذلك وتؤكد، فيودع بالعبرات قبل العبارات.

وما أن تحين لحظة الخروج من الوطن ألا وتذكر أن عليه أن يتحلى بكل الأخلاق وأن يطبق كل ما تعلمه، فلا ينسى دعاء السفر حين يركب الحافلة، ويسبح الله عندما تمر الحافلة في كل سهل ويكبره عند اعتلائها كل جبل، ويشغل نفسه في الطريق بالذكر والتدارس مع أفراد الحافلة مناسك الحج والعمرة، وكم هو جميل أن يتذكر الحاج، ويحرص على ذكر الله في كل الأوقات المشهورة، فيأتي بأذكار الصباح، ويأتي بأذكار المساء، والأجمل أن يكون ذلك جماعيًا، إذ تتحول الحافلة قبيل الغروب أو بعده إلى ذكر وتسبيح وإتيان بأذكار المساء، وتكون كذلك في وقت الشروق والصباح، يا لها من حافلة، وما أجملها من رفقة حين تكون كلها ذاكرة لله متناغمة مع كل المخلوقات التي حولها المسبح والذاكر لله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).

إن السفر قطعة من العذاب بل يحلو للبعض أن يقول إن العذاب قطعة من السفر، ولا غرو في ذلك فالسفر فيه مشقة وتعب، وظروف قاسية قد لا يكون الفرد قد اعتادها، كما أنه سيعيش مع أناس لم يعتد العيش معهم، فليوطن نفسه على الصبر، فكما يقال إن السفر يكشف معادن الرجال، فعلى الحاج المسلم أن يتحلى بالأخلاق الحسنة والقيم النبية وأن يؤثر أخيه الحاج وأن يكون سبّاق لخدمة كل من يمكنه خدمتهم، وليحاول الحجاج أن يكونوا يدًا واحدةً، يسعى القوي منهم في خدمة الضعيف والمتعلم في خدمة الجاهل، ذلك بجسده وهذا بعلمه، فتصبح الحافلة كخلية نحل نشطه، وتكون الرحلة رحلة حب ووئام وأخوة.

وما أن تطأ قدمه الميقات فعليه أن يتذكر كل ما تعلمه عن الأعمال التي يقوم بها في هذا المكان فيلقي التفث إن لم يكن قد استعد في منزله، ويتطهر ويغتسل، ثم يلبس لباس الإحرام، ثم يلبي بالعمرة إن كان متمتعًا أو بالعمرة والحج إن كان قارنًا أو بالحج إن كان مفردًا، ثم يحرص كل الحرص على عدم الإتيان بأي شيء من شأنه أن ينقض الإحرام وهو متوجه نحو بيت الله الحرام، ويلبي ويرفع صوته بالتلبية فقد جاء عن المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: «الحج بالثج والعج» .

ليكن شعار الحاج في كل منسك من مناسك الحج وفي كل بقعة من البقاع المقدسة «التعظيم» عملا بقوله تعالى:(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، إذ الهدف الأسمى والغاية العظمى من أداء هذه الشعيرة هو الوصول إلى تقوى الله عزوجل، فهي زمام كل شيء ومفتاح النجاة من كل شر، فحين يصل إلى حرم الله يتذكر مكانة هذا البيت الحرام عند الله عزَّ وجل وعند رسوله، ويتذكر كل الأحداث المتعلقة به، وكيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يتعاملون معه ومن بعدهم من السلف الصالح.

وحين يطل اليوم الثامن على الحاج المعروف بيوم التروية، عليه أن يعد العدة ويزرع في النفس الهمة لتكون البداية قوية كفيلة ومعينة له لإكمال مناسكه على أكمل وجه، يتوجه إلى منى خاشعًا راجيًا من رب العزة والجلال أن يتقبل منه سائر مناسكه وأعماله، وأن يرجعه إلى أهله كيوم ولدته أمه فقد قال رسول الهدى صلوات ربي وسلامه عليه: «من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» رجع إلى بلده صالحًا خاليًا من الذنوب والمعاصي فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، فيالها من فرصة سانحة لا تتعوض.

وليركز على اليوم التاسع على يوم عرفة هذا اليوم الذي يعد أحد الأيام المعلومات التي أثنى الله عليها في كتابه العزيز حيث قال رب الجلال والإكرام: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)، يوم عرفة هو اليوم الذي أكمل الله سبحانه وتعالى فيه الدين وفيه نزلت آخر آية من كتاب الله عز وجل، روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: إن رجلا من اليهود قال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) قال عمر بن الخطاب: قد عرفنا ذلك اليوم الذي نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة وكلاهما -بحمد الله لنا عيد-، فعلى الحاج أن يستغل كل دقيقة من دقائق هذا اليوم المبارك في الدعاء والتضرع والتبتل، فكم من عتائق لله من النار في هذا اليوم فليحرص أن يكون أحدهم.

وهكذا سائر المناسك ينبغي أن يحرص على أدائها على أحسن وجه من المبيت في مزدلفة ورمي الجمرات وطواف الإفاضة والنوم في منى والبقاء حتى اليوم الثالث عشر لمن تعجل، ويحرص أن يعود من الحج، وقد ملئ قلبه إيمانا وتقوى وإخلاص ليكون هذا وقودًا له لمواصلة ما تبقى من حياته في طاعة الله ورضوانه، فالحج مدرسة يتعلم منها المسلم الشيء الكثير وتتربى نفسه على معالي الأمور وأكرمها، تقبل الله منك أخي الحاج ويسر الله أمرك وأرجعك من حجك كيوم ولدتك أمك.