المنوعات

الحياة السرية لمخطوطة

23 أغسطس 2017
23 أغسطس 2017

توماس ريكس -

ترجمة: أحمد شافعي -

كنت قد كتبت خمسة كتب لسكوت مويرز، مقتفيا أثره إذ يتنقل في وظيفته كمحرر من دار سكريبنر إلى دار راندم هاوس ثم إلى بنجوين. أجدنا العمل معا، وبفضل يده التحريرية القوية أصبحت كتبي الثلاثة الأخيرة من أكثر الكتب مبيعا.

فكان أمرا مذهلا لي ذلك الذي حدث عندما أنهيت عمل سنين وبعثت إليه مخطوطة كتابي السادس. بل لقد وجدت نفسي في واقع الأمر على موعد مع سلسلة مفاجآت.

بدأت المفاجآت قبل قرابة 18 شهرا حينما بعثت إليه بالبريد الإلكتروني مخطوطة كتاب يضم سيرة مزدوجة لونستن تشيرشل وجورج أوروِل. كان بعض أصدقائي القدامى قد رأوا حينما بدأت الكتابة في عام 2013 أن الموضوع لا يخلو من غموض. فما الذي يجعل أحد يبالي برجلين إنجليزيين شبعا موتا، أحدهما سياسي محافظ، والآخر صحفي اشتراكي، لم يلتقيا قط، وبكيفية تعامل كل منهما مع الاضطرابات والسياسات الاستقطابية التي شهدتها ثلاثينيات القرن العشرين والعالم الذي أعقبها؟ فلما حلَّ 2016، وأصبح أهل اليسار واليمين كافة أكثر محاباة في ما يبدو للرأي على المعلومة، بات الكتاب مطلوبا وفي وقته.

لكن حدث بعد أسبوعين من إرسالي المخطوطة إليه أن تلقَّيت أتعس رسالة منه. كتب لي سكوت ما آلمني أشد الألم «أخشى أن التفكك في هذا الكتاب قد يكون جذريا». كان ما بعثته إليه هو على وجه الدقة الكتاب الذي طلب مني ألا أكتبه. وذكرني أنه سبق أن حذرني من كتابة عرض كتاب مطول يستند إلى عصا ضعيفة بدلا من أن يقوم على أساس سردي قوي.

وكان ثمة المزيد. لكنه اختصارا أجهز على الكتاب. ولم يكن الأمر أنه لم يعجبه، بل أنه كرهه أشد ما تكون الكراهية. فزعت - كنت قد استمتعت بعملية البحث والكتابة. فكنت أتوقع أن يستمتع القارئ أيضا. قال سكوت، لا، الطريقة التي انتهجتها لن تفلح.

جزئيا، تحطمتُ. ولكن الأسوأ أنني تحيرت. كيف أكون أخطأت إلى هذا الحد في إدراكي؟ ذلك لم يكن عملا متعجلا في شهور قليلة. بل لقد تعمقت على مدار سنين في تشيرشل وأوروِل وعصرهما وقرأت مئات الكتب التي تبعثرت في كومات على أرضية مكتبي في علية منزلي بـ ماين. وأكبر تلك الكومات كانت كومة كتب لتشيرشل نفسه. وتليها في الضخامة اليوميات والمذكرات والرسائل المنشورة لساسة وكتاب بريطانيين من الثلاثينيات والأربعينيات.

ثم بعث سكوت رسالة مطولة - أحسب أنها كانت من 10 صفحات - يعرض فيها مخاوفه بالتفصيل. وأنا أعيش على جزيرة على ساحل ماين. والرسالة وصلتني قبل يوم من عاصفة كبيرة. لم تمض سويعات على وصولها إلا ووقعت أشجار عجوز على أسلاك الكهرباء الممتدة في الطرق، قاضية في طريقها على الإنترنت.

منقطعا عن البريد الإلكتروني وغيره من وسائل التواصل، قضيت ذلك اليوم أقرأ رسالة سكوت وأعيد قراءتها. وطلع صباح اليوم التالي أزرق صافيا كالكريستال. فركبت الشاحنة وسقت لخمسة عشر ميلا على طرق خلفية مثلجة إلى مكتبة بلو هيل، في ماين لا في الجزيرة، حيث كان الإنترنت لا يزال يعمل. جلست في غرفة المطالعة الغارقة في ضوء الشمس، وأوصلت جهاز اللاب توب بالكهرباء، وبعثت رسالة إلى وكيلي الأدبي آندرو وايلي أسأله فيها إن كان سكوت ـ بهذا الرأي السلبي ـ يريد أن ينسحب تماما من العمل في الكتاب. ولو أنه بالفعل راغب في الانسحاب، فأنا لا أريد فعلا أن أغوص في مهمة إعادة كتابته.

وجاء رد آندرو طائرا، في غضون دقائق (ولعل آندرو أسرع مجيب رسائل في العالم). وهو أيضا يعرف سكوت جيدا. قال آندرو لا، كل ما يفعله سكوت هو أنه يحاول أن يبين لك أي عمل أمامك لتجويد هذا الكتاب. أشعرني ذلك بالطمأنينة. بل بالرضا، لأسباب لا أفهمها تمام الفهم. لو أن سكوت معنا في القارب نفسه، فليكن ذلك.

*

قضيت الشهور الخمسة التالية، من منتصف يناير إلى منتصف يونيو 2016، في إعادة كتابة الكتاب كله، وإعادة التفكير فيه من القمة إلى القاع.

بدأت بأن اصطحبت رسالته ونسخته المظللة من المخطوطة إلى أوستن بتكساس حيث كنت أقضي برفقة زوجتي إجازة هناك في فبراير لنستريح من شتاء ماين الطويل. (وأوستن مكان عظيم للموسيقى الحية والطعام والمشي، وشتاؤها بالنسبة لي أشبه بصيف ماين). كنت أجلس في الفناء الخلفي أقرأ ملاحظات سكوت وأعيد قراءتها. لم أكن أجادلها. بل أتأملها. وكنت أقول لنفسي، لو أن هذا رأيه، فكيف أعالج هذه المشكلة؟ وضعت خطوطا تحت مقاطع. عند نقطة معينة رأيته يتوسل إليّ في ملاحظة كتبها في هامش. «لو لجأت إلى السرد، لأمكنك أن تنجو من جريمة قتل». وأعجبني التعليق لدرجة أنني نقلته ووضعته في صدارة الصفحة الأولى من المسودة الثانية لكي أراه كل صباح وأنا أبدأ عملي.

المفاجأة التالية أدركتها في غضون 3 أسابيع من العمل والتأمل في الملاحظات، وهي أن انتقادات سكوت كانت صائبة تماما. رأيت أنني لو اتبعت اقتراحاته وأعدت الشغل على الكتاب، وفقا لبنية جديدة تؤكد على الجانب السيري وتحكي حكايات الرجلين مرتبة تاريخيا، سيكون الكتاب أفضل كثيرا. وأرسلت رسالة إلى سكوت قلت فيها «عندك حق». ولم تكن تلك الرسالة اعتذارا بقدر ما كانت بداية المرحلة الثانية من العمل.

فردّ في دماثة «لا يقوى على مثل ذلك إلا كاتب جيد».

بعد ذلك فككت مخطوطتي. وفي الكتابة من النجارة الكثير، فيها الدق والنشر والصنفرة. وفي تلك المرحلة كنت أشبه ببنّاء أهدم البيت الذي انتهيت للتو من إقامته. كان سكوت قد أقنعني أن مخططي الأصلي غير ملائم ففكت المخطط كله. وجهزت الخشب والطوب وأطر الشبابيك والزجاج والأسمنت. وبعد أسبوعين من تدوين الملاحظات عن كيفية العمل بطريقة مختلفة، وكتابة التعليقات على مخططي الجديد، انطلقت في إعادة البناء.

حفرت أساسا جديدا، وبطّنته بالتاريخ الصلب. وكتبت ملاحظة لنفسي في صدارة المخطوطة «إذا لم تتبع التسلسل الزمني، فما الداعي؟». بمعنى أنني قد أسمح لنفسي بين الحين والآخر بالخروج عن المسيرة الزمانية، لكن كان ينبغي في تلك الحالات أن يكون السبب قويا ووجيها قبل عمل ذلك.

وذلك ما انتقل بي إلى المفاجأة الثالثة. كان إتباع النص لتسلسل الأحداث أيسر مما توقعت، وبدا أكثر منطقية. والنوادر التي سبق أن ظننت أنها ملائمة لمكان واحد، عند مناقشة موضوع ما، بدت ملائمة فعليا في أماكن أخرى، في مواضعها الزمنية الطبيعية. بل لقد بدا في واقع الأمر أنها أفضل وقعا عند ورودها وفقا لترتيب حدوثها في الواقع. بدا أنها في أماكنها الجديدة سلسة تماما، بغير حاجة إلى ضبط أو دق أو تمهيد بمقدمة أو إتباع بتفسير، شأن لوح مجهز للأرضية يستقر بسلاسة في الموضع المخصص له.

المفاجأة الرابعة هي حجم المتعة الكبير الذي وجدته في إعادة الكتابة. ففي وقت كتابة تلك المسودة، في الشتاء والربيع ثم الصيف من عام 2016، لاحظت زوجتي مرارا كم أنا سعيد. فكلما كان يحين وقت إعدادي للغداء ـ ولم يكن يزيد عن تذويب حساء مجمّد ـ كنت أنزل من العلية وعلى وجهي ابتسامة.

على مدار الشهور التالية تكاملت النسخة الجديدة. وكنت لا أزال بحاجة إلى عون «أصدقائي الانتقاديين» والثقات المهرة بالكتابة وأصحاب وجهات النطر المختلفة الذين قرؤوا المخطوطة في هذه المرة أيضا.

وقال لي صديق قديم ـ يعمل محررا في مجلة ـ إن سكوت كان محقا تماما: لا تعترض الطريق واترك الحكايات تحكي أنفسها. وقال صديق آخر ـ هو محام في سان فرانسيسكو متخصص في قانون الاتصالات والسوفتوير ـ ما دفعني إلى سد بعض الفجوات المنطقية في حججي. وساعدني صديقان صحفيان ـ أحدهما كاتب في شؤون التعليم الثانوي والآخر محرر في بوليتيكو ـ على استخلاص نتائج تربط بين أجزاء الكتاب. هؤلاء جميعا دفعوني إلى التفكير في ما كنت أحاول أن أقوله، وفي الأسباب التي تجعل له أي أهمية.

في ثناية تلك العملية، رجعت فقرأت الكثير من تشيرشل وأوروِل. بدا الأخير أصلب. لقد كان موضوع تشيرشل دائما وفي نهاية المطاف هو ذاته، فكان يسلم نفسه للسرد. أما أورول فموضوعه كان العالم، فلم يكن يضع من نفسه في مقالاته ورواياته إلا القليل، بل ولم يكن يضع الكثير حتى في يومياته، كان في يومياته أميل إلى تسجيل ملاحظات عن صحة الدجاج الذي يربيه منه إلى الكتابة عن زوجته التي ماتت بالسرطان في سن مبكر أثناء الحرب العالمية الثانية، لكنني بمرور الوقت تعلمت كيف أقرأ ما بين سطور أوروِل. كما رجعت إلى أعمال مالكولم ماجريدج وغيره من المثقفين والصحفيين الأدبيين في بريطانيا منتصف القرن العشرين لمعرفة المزيد عن السياق. وأحسب أنني عثرت على ما كنت احتاج إليه. وبدا العمل جيدا وأمينا، فلم اكتف بإعادة بناء البيت، بل استعملت في ذلك تصميما جديدا جعله أقدر على البقاء وأيسر في الاستعمال.

*

بعثت المخطوطة الجديدة إلى سكوت في يونيو 2016، بعد ما يزيد قليلا على العام. وفي هذه المرة أحبها.

في يوليو، كنت في نيوهيفن لبضعة أيام، فركبت القطار إلى بنسلفانيا في نيويورك لأتكلم معه، ونضع بعض الخطط، ونحتفل. التقينا في مطعم قديم بمنتصف مدينة منهاتن، في يوم اثنين صيفي، خلا فيه المطعم، وكان يتدلى من السقف مئات الغلايين الصلصالية، وبينها غليون يفترض أنه كان يخص أبراهام لينكولن.

ونحن نتناول السلاطة واللحم المشوي، سألت سكوت لماذا كان شديد الحدة في الشتاء الماضي، فقال في ثبات «في بعض الأحيان وظيفتي هي أن أكون وغدا»، لم يدهشني قوله، وكان في مرحلة ما من كتاب أسبق قد قال لي حينما أخبرته أنني أشعر بالكثير من التوتر «إن كل كتاب جيد يتسبب في انهيار عصبي واحد على أقل تقدير».

قرب نهاية الغداء، قدّم لي سكوت ملاحظة حكيمة أخرى عن عملية الكتابة: «المسودة الأولى للكاتب، المسودة الثانية للمحرر، المسودة الثالثة للقارئ».

في ذلك اليوم عرف قدر امتناني له. «تشيرشل وأوروِل: النضال من أجل الحرية» أصبح كتابا أفضل بفضل تدخله القوي. وبأثر رجعي أرى أن المسودة الأولى كانت مفككة وواعدة في بعض الأحيان، وفي مواضع كثيرة كانت صعبة القراءة وتخلو من أي مكافأة للقارئ على ما يبذله من جهد خلافا للنسخة الأخيرة الصادرة في مايو من العام الحالي.

ولست وحدي من يقول هذا. فكثير ممن استعرضوا الكتاب أشاروا إلى سلاسة كتابته. وهكذا، خلافا لتوقعاتي الأولى، كان أشق كتبي تأليفا هو أيسرها قراءة. ويبدو أن القراء يوافقون على هذا، فقد وضعوا هذه السيرة المزدوجة أخيرا على قائمة أكثر الكتب غير الأدبية مبيعا.

إن لأغلب الفنون وجها عاما، فالموسيقى تعزف، واللوحات تعرض، والمسرحيات تمثل، والأفلام أيضا، وجميعها تشاهد جماعيا. أما الكتب فأكثر خصوصية، هي من شخص يكتب إلى شخص يقرأ. والأكثر غموضا في جميع مراحلها هي مرحلة التحرير، مرحلة العمل في الكواليس. غير أن هذه المرحلة الخفية هي التي تحدث الفارق في أغلب الحالات.