أفكار وآراء

الولايات المتحدة الأمريكية ... إلى أين؟

23 أغسطس 2017
23 أغسطس 2017

عبد العزيز محمود -

خلال الـ60 عاما الأخيرة تغيرت الأوضاع نسبيا للأفضل، لكن الفوارق العرقية استمرت ليس فقط على مستوى الثروة بل وأيضا في مجال الرعاية الصحية والضرائب والمعاشات التقاعدية ونظام العدالة، لصالح البيض على حساب السود والأقليات الأخرى.

لم تكن مصادمات مدينة شارلوتسفيل بولاية فرجينيا الأمريكية بين عنصريين متطرفين ومدافعين عن الحقوق المدنية والتي سقط خلالها قتلى ومصابين هي الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، فمعدلات جرائم العنف بدافع الكراهية ترتفع في الولايات المتحدة بصورة خطيرة، وتكاد تشكل ظاهرة منذ تولي الرئيس دونالد ترامب السلطة قبل 8 أشهر.

وطبقا للأرقام الرسمية فإن هذه الجرائم زادت بنسبة ٦٨٪ خلال الربع الأول من العام الحالي مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، بل إن عددها ارتفع وفقا للأف بي آي من ٦ آلاف جريمة في عام ٢٠٠٤ إلى ٢٥٠ ألف جريمة في عام ٢٠١٦، فيما يشكل تهديدا للمهاجرين والأقليات.

وإزاء هذا الوضع دعا قادة حركة الحقوق المدنية إلى احتشاد في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم الاثنين المقبل ٢٨ أغسطس الجاري للتنديد بالعنصرية والتمييز والاستقطاب، وأيضا بالعنف الذي تمارسه جماعات اليمين الراديكالي.

والحقيقة أن هذه الجماعات تغلغلت بشكل كبير بين الطبقة العاملة البيضاء في الولايات المتحدة، مستغلة مخاوف هذه الطبقة من الهجرة والبطالة، في ظل تحذيرات تؤكد أن البيض لن يكونوا أغلبية عرقية أو اثنية بحلول عام ٢٠٥٥، وهو وضع يهدد التركيبة السكانية والقيم الثقافية وطريقة الحياة.

وهكذا توغلت هذه الجماعات مثل «كوكلوكس كلان» و«النازيين الجدد» و«القوميين البيض» و«باتريوت» و«البديل الصحيح» على المستويين السياسي والاجتماعي، تحت شعار الدفاع عن أمريكا البيضاء وطريقة الحياة الأمريكية بكل الوسائل بما في ذلك العنف.

يذكر أن «كو كلوكس كلان» تأسست في عام ١٩٢٠ كمنظمة وطنية معادية للكاثوليكية والسود واليهود والمهاجرين من غير الأنجلو ساكسون وكانت تضم 6 ملايين عضو أي 15% من السكان، بينما يمثل «النازيون الجدد» جزءا من الحركة الوطنية الاشتراكية وينتشرون في ٣٢ ولاية من أصل 50 ولاية .

وفي انتخابات 2016 أعطت هذه الجماعات التي تعتبر نفسها ممثلة للوطنية الأمريكية الحقيقية، أصواتها للرئيس ترامب مرشح اليمين، باعتباره «المخلص» الذي سيعيد للأمة أمجادها، بإحياء الأسس التي بنيت عليها أمريكا في عام 1776.

واكتسبت هذه الجماعات زخما مع تولي ترامب الرئاسة في يناير الماضي، وأشعلت مخاوف الجماهير والنخب إزاء الهجرة والإرهاب والكاثوليكية والإسلام، ووصفت التاريخ بأنه نتاج مؤامرة لقوى شيطانية هدفها السيطرة على العالم، وانضم إليها مؤيدون جدد من الطبقات البيضاء التي تشعر بالتهديد على أوضاعها المعيشية والمهنية بشكل أو بآخر .

ومع تبني إدارة الرئيس ترامب لقيم اليمين الشعبوي، المعادية للمهاجرين وغير البيض والإسلام السياسي، تفاقمت حالة التوتر والانقسام العرقي والسياسي والاجتماعي والطبقي في المجتمع الأمريكي، وانتقلت جماعات اليمين الراديكالي من كونها على الهامش لتصبح تيارا مؤثرا بشكل أكبر.

لم تكن هذه الجماعات وليدة الساعة، فقد ظهرت في عشرينيات القرن الماضي، لكن نشاطها تراجع في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ثم عاودت الظهور خلال ولايتي بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، واتسع نشاطها عقب هجمات ١١ سبتمبر عام ٢٠٠١.

ومع انتخاب باراك أوباما كأول رئيس أمريكي من أصول إفريقية في عام ٢٠٠٨ أصبحت هذه الجماعات أكثر عنفا، فاليمين الأمريكي بكل أطيافه لم يعد قادرا على تقبل مبدأ تقاسم السلطة مع أي رئيس ليبرالي، وهكذا تشكلت شبكة ضخمة من القوى اليمينية والقومية والمحافظة، التي ترفض التعددية والحلول التوافقية وتعادي السامية والمساواة، وترى في كل ما هو غير بروتستانتي وغير أبيض خطرا على الولايات المتحدة.

ولم يعد هذا التيار معنيا بالحفاظ على الأوضاع الراهنة، بل سعى إلى خلق واقع جديد، مستخدما في ذلك العناصر المسلحة ووسائل الإعلام والإنترنت، ولم تكن لديه مشكلة في تعليق الحريات والتخلص من العمليات الدستورية واستخدام العنف في مواجهة الخصوم.

ومع سعي إدارة ترامب لإعادة إنتاج أمريكا أخرى ، أكثر انحيازا للعنصر الأبيض الانجلو ساكسوني، تعمق الانقسام في المجتمع الأمريكي، فاليمين الراديكالي يحاول إحياء الماضي بكل استقطابه المعروف، وبكل ما يعنيه من تبن لتفوق البيض، بينما يحاول الليبراليون والديمقراطيون وحركة الحقوق المدنية الحفاظ على مبادئ التعددية والمساواة التي اشتهرت بها الولايات المتحدة.

لكن اليمين الراديكالي أصبح الأعلى صوتا، وارتفع عدد الجماعات العنصرية التابعة لها من ٦٠٠ جماعة في عام ٢٠٠٠ إلى أكثر من 950 جماعة في عام ٢٠١٦، واستمدت هذه الجماعات قيمها من التاريخ العنصري في الولايات المتحدة، التي بنيت بالفعل على مبدأ تفوق البيض الأنجلو ساكسون.

صحيح أن هذا الوضع تغير ببطء بعد الحرب الأهلية الأمريكية، لكن تطبيق قوانين «جيم كرو»، وهي حزمة من القوانين التي سنت بين عامي 1875 و1964 استمر نحو قرن، للتمييز ضد الأمريكيين من أصل إفريقي.

وبينما استمتع البيض الأنجلو ساسكون وهم طبقة الأمريكيين البيض البروتستانت من أصل إنجليزي بامتيازات حصرية في المواطنة والملكية والإجراءات القانونية والتعليم والهجرة والتصويت خلال الفترة من القرن الـ١٧ حتى عام ١٩٦٤ كان المهاجرون الأوروبيون من غير البروتستانت كالإيرلنديين والبولنديين والإيطاليين يعانون من الإقصاء والتمييز داخل المجتمع الأمريكي .

وهو نفس ما عاناه مهاجرو الشرق الأوسط من العرب واليهود وكذلك الآسيويون والقادمون من أمريكا اللاتينية.

وفي عام ١٩٦٤ صدر قانون الحقوق المدنية والذي يقضي بإلغاء التمييز العنصري رسميا لكن التقسيم الطبقي العنصري لم يتوقف في العمل والسكن والتعليم والإقراض والحكومة ضد كافة المجموعات الملونة.

وفي مواجهة عنف الحركات القومية الأمريكية ظهرت منظمات مدنية للدفاع عن الأقليات وأيضا عصابات للسود والمافيا الروسية والمكسيكية واللاتينية ومهاجري الكاريبي والصينيين.

وإثر هجمات ١١ سبتمبر عام ٢٠٠١ تزايدت أعمال العنف والكراهية ضد العرب وشملت أيضا الأتراك والأكراد واليزيديين والسيخ والهندوس والمسيحيين واليهود، وظهرت جماعات معادية للسامية تنتقد إسرائيل وتعارض إنشاء وطن قومي لليهود.

وخلال الـ60 عاما الأخيرة تغيرت الأوضاع نسبيا للأفضل، لكن الفوارق العرقية استمرت ليس فقط على مستوى الثروة بل وأيضا في مجال الرعاية الصحية والضرائب والمعاشات التقاعدية ونظام العدالة، لصالح البيض على حساب السود والأقليات الأخرى.

واستمر نشاط جماعات اليمين الراديكالي كالنازيين الجدد والقوميين البيض وكوكلوكس كلان والحزب النازي والحركة الاشتراكية القومية وحزب الإصلاح الأمريكي وكلها جماعات تحمل السلاح وتعادي كل ما هو غير أبيض، وتتبنى كراهية المهاجرين والمسلمين والكاثوليك واليهود.

ومع اتساع نشاط وتأثير اليمين الراديكالي، وتغلغله على المستوى السياسي محليا ووطنيا، أصبحت أمريكا تعيش حالة تزايدت فيها أعمال العنف والمواجهات والقلق في الشارع بشكل أو بآخر، وهو ما يحاول المجتمع الأمريكي الخروج منه.