أفكار وآراء

أسئلة التعليم العالي الصعبة!!

20 أغسطس 2017
20 أغسطس 2017

أ.د. حسني محمد نصر -

لو صحت الأرقام الكثيرة والمهمة التي تضمنها الكتاب الإحصائي السنوي الذي صدر مطلع الشهر الحالي عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، فيما يتعلق بواقع التعليم العالي في السلطنة، وهى صحيحة، بحكم مسؤولية المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، فنحن إذن أمام أسئلة كثيرة وصعبة تحتاج إلى إجابات شافية، يجب ألا نتأخر في طرحها على أنفسنا وعلى وزارة التعليم العالي تتعلق بطبيعة هذا التعليم وأهدافه وفلسفته ومستقبله أيضا.

لا حاجة الآن لإعادة التأكيد على أهمية وحيوية الدور الذي تقوم به مؤسسات التعليم العالي ليس فقط في إمداد سوق العمل بما يحتاجه من كوادر بشرية مؤهلة قادرة على تجديد شباب المؤسسات العامة والخاصة وتقديم المنتجات والخدمات التي تفي بحاجة المجتمع، ولكن أيضا في تكوين أجيال تحمل القدر الكافي من الفكر والثقافة والقدرة على إدارة الحياة على المستويين الشخصي والجماعي. ويبدو التعليم العالي أكثر أهمية للمجتمعات الناهضة التي تستثمر في هذا المجال أموالا طائلة بهدف الحصول على عائد هذا الاستثمار في المستقبل، ولذلك يبدو ضروريا بين فترة وأخرى مراجعة جدوى هذا الاستثمار خاصة إذا توافرت البيانات والمعلومات حول واقع هذا التعليم.

في سلطنة عمان تتوزع مسؤولية التعليم العالي على 3 مؤسسات تشرف على معظمها وزارة التعليم العالي. الأولي هي المؤسسات التعليمية الحكومية، وتمثلها جامعة السلطان قابوس، وكليات التقنية، وكليات العلوم التطبيقية، بالإضافة إلى مؤسسات تشرف عليها وزارات أخرى مثل المعاهد الصحية التي تخضع لإشراف وزارة الصحة، وكلية العلوم الشرعية التي تشرف عليها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ومؤسسات التعليم العالي العسكرية والأمنية. والثانية هي الجامعات والكليات الخاصة، والثالثة هي الجامعات والكليات بالخارج التي يدرس فيها طلاب عمانيون إما ببعثات حكومية أو على نفقتهم الشخصية.

يطرح الجزء الخاص بالتعليم العالي في التقرير الإحصائي الذي يعتمد على أرقام العام 2016، سبعة جداول في غاية الأهمية، ومليئة بالأسئلة، يأتي على رأسها الجدول الأول الجامع، والخاص بطلبة مؤسسات التعليم العالي (المقبولين والمقيدين والخريجين في العام 2015/‏‏‏2016). أولى الحقائق التي يطرحها هذا الجدول أن إجمالي عدد الطلاب العمانيين المقيدين بهذه المؤسسات بلغ نحو 138 ألف طالب، يمثلون 5.6 بالمائة من إجمالي عدد السكان من العمانيين في العام نفسه. المشكلة هنا ليست في هذا العدد الذي يبدو متناسبا مع النسب العالمية المماثلة، ولكن المشكلة في توزيع هذا العدد الكبير على مؤسسات التعليم العالي. ودون الدخول في تفاصيل الأرقام الكثيرة، التي لم يحولها التقرير الإحصائي إلى نسب مئوية سهلة القراءة، فإن أول ما تثيره من أسئلة يتعلق بتركز نصف هذا العدد تقريبا (48.4%) في الجامعات والكليات الخاصة داخل السلطنة، فيما تستأثر كليات التقنية بربع هذا العدد (25.7%)، وبعدهما وبفارق كبير جدا تأتي جامعة السلطان قابوس (10.1%)، وتتوزع النسبة الباقية (15.9%) على الجامعات والكليات بالخارج بواقع (4.5%)، وكليات العلوم التطبيقية (4.1%)، وكلية العلوم الشرعية (2.6%)، ومراكز التدريب المهني ((1.7%)، ثم المعاهد الصحية (1.5%)، بالإضافة إلى مؤسسات التعليم العالي العسكرية والأمنية والكلية التقنية العسكرية.

الحقيقة التي تكشفها هذه البيانات أن نصف عدد طلاب التعليم العالي في السلطنة يدرسون في جامعات وكليات خاصة وفرت لها الحكومة على مدار السنوات الماضية الدعم المادي المتمثل في تمويل إنشاء الأبنية التعليمية، والبعثات الداخلية الممولة من الحكومة، والتي يتمتع بها الغالبية العظمي من طلاب هذه المؤسسات باستثناء الطلاب من كبار السن والوافدين.

كنا نتمنى أن يتضمن التقرير الإحصائي توزيع الطلاب على مؤسسات التعليم العالي الخاصة حتى نعلم حجم ما تستوعبه كل مؤسسة منها، ومع ذلك فإن الأسئلة التي تثيرها هذه الأرقام كثيرة وصعبة، وأولها يتعلق بمدى قدرة هذه الجامعات والكليات الخاصة، بإمكاناتها المادية والأكاديمية الراهنة، على استيعاب نحو 67 ألف طالب عماني بالإضافة إلى الطلبة الوافدين؟ إن مقارنة سريعة بين عدد الطلاب الجدد فقط الذين قبلتهم هذه الجامعات والكليات العام الماضي (13 ألف طالب) بعدد من قبلتهم جامعة السلطان قابوس في نفس العام (3 آلاف طالب) تجعلنا نتساءل أيضا عن مدى قدرتها على استيعاب هذه الأعداد في أبنية ومرافق تعليمية لا يمكن مقارنتها مجتمعة بعدد ونوعية أبنية ومرافق جامعة السلطان قابوس؟ ناهيك عن أعداد ونوعية أعضاء الهيئة التدريسية التي توفرها هذه الجامعات لهذه الأعداد الكبيرة من الطلاب مقارنة بعدد ونوعية أعضاء هيئة التدريس بجامعة السلطان قابوس. المفاجأة التي تكشف عنها الأرقام أن نحو نصف الطلاب المقيدين في الجامعات والكليات الخاصة (42.6%) يدرسون في تخصص رئيس واحد تقريبا هو الإدارة والتجارة، فيما يتوزع النصف الآخر على تخصصات أخرى مثل الهندسة وتكنولوجيا المعلومات والعلوم الطبيعية والتربية بنسب متفاوتة، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا يتعلق بمدى ارتباط سياسات القبول بهذه الجامعات بواقع سوق العمل؟ وتتضح أهمية هذا السؤال إذا علمنا أن هذه الجامعات تقدم سنويا نحو 5 آلاف خريج يتحولون تلقائيا إلى باحثين عن عمل في هذا التخصص وحده. نعلم أن هذه الجامعات والكليات الخاصة تخضع لرقابة ومتابعة مستمرة من وزارة التعليم العالي، كما تخضع لشروط الجودة والاعتماد التي تحددها الهيئة الوطنية المسؤولة عن ذلك، ونعلم أيضا أنها تمثل الجناح الثاني الأساسي للتعليم العالي الذي لا يمكن الاستغناء عنه إلى جانب المؤسسات الحكومية، ومع ذلك تبقي أسئلة قائمة وملحة ومسكوت عنها حول مدى وجود تقويم وطني مستمر شامل وشفاف للأوضاع الإدارية والأكاديمية والبرامج التعليمية لهذه المؤسسات ومدى قدرتها على تخريج طلاب مزودين بالمعارف والمهارات الأساسية في مجالات التخصص التي تطرحها، ويستطيعون منافسة خريجي المؤسسات الأكاديمية الحكومية مثل جامعة السلطان قابوس وكليات التقنية وكليات العلوم التطبيقية في سوق العمل.

من واقع بيانات الإحصاء السنوي فإن هذه المؤسسات التعليمية الخاصة تضخ كل عام نحو 11 ألف خريج في سوق العمل، وهو ضعف ما تقدمه كليات التقنية وخمسة أمثال عدد خريجي جامعة السلطان قابوس. خلال سنوات قليلة إذن ستكون الغالبية العظمى من قوة العمل في الدولة من خريجي هذه الجامعات والكليات الخاصة، وهو ما يحتم علينا ضرورة التقويم المستمر والعادل لمخرجاتها أولا بأول، ووضع الأسئلة الصعبة على طاولة البحث والنقاش المجتمعي، حتى نطمئن على المستقبل.