أفكار وآراء

صناعة الخوف .. والتعامل معه !!

20 أغسطس 2017
20 أغسطس 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

ثمة أسئلة جوهرية تفرض نفسها عند الحديث عن موضوع الخوف، هل تقتضي الفطرة البشرية أن يكون هناك ثمة خوف للنزوع نحو الإصلاح؟ أم أن هذا الخوف هو مكون سلوكي فطري مولود مع هذا الإنسان؛ أو أنه مكتسب خلقي خاضع لظروف معينة؟ وما هي الفترة الزمنية التي تنازع الإنسان على هدوئه، فتوقظ فيه هيمنة الخوف من شيء ما؟

والى أي حد يمكن الإنسان أن يتكئ على إيمانه ويقينه، بالقدر في مواجهة الخوف؟ ما علاقة الأمكنة باستجلاب الـ «تابوهات» وزرع عدم الثقة في نفس الإنسان للتعامل معها على أنها أمكنة جامدة وفقط؟ كيف تؤثر القيم والمعتقدات في تحجيم الخوف، أو تفرعه ونموه؟ كيف يمكن تجفيف منابع الخوف من النفس البشرية؛ كبرامج تدريبية تنقله من حالة التردد الى حالة الأقدام؟

تشير بعض الدراسات الى أن الخوف ليس منبتا فطريا خالصا، وإنما هو منشأ اجتماعي يتعزز بالممارسة، والتوظيف، ولذلك يرى أن كل الأدوات وكل الأمكنة يمكن أن توظف في أي مشروع من مشاريع الخوف؛ وما أكثرها، ولذا يعتمد سقف نمو الخوف هنا على مستوى الاهتمام الذي يبديه له أفراد المجتمع، وتسويقه عبر كثير من الوسائل والممارسات، والانطلاقة الأولى؛ كما هو معروف؛ هي الأسرة، حيث تبدأ في تسويقه من خلالها أطفالها الصغار، الذين تحقنهم دائما بمعززات الخوف، من خلال ضرب الأمثلة، بالحيوانات، حيث يخوف الأطفال بحيوان ما، خاصة عندما يمتنع هذا الطفل عن الانصياع لأمر ما يطلبه منه أحد والديه، وببعض الوظائف التي لها الصفة الضبطية كرجل الشرطة؛ مثلا؛ وكالأب، والأخ الأكبر، بمعنى كل من له سلطة تنفيذية مطلقة من شأنها أن تلقي الضرر على هذا الطفل، ويمكن أن يكون ضمن قائمة المخوف بهم تجاه الضعفاء، وتظل هذه الصورة النمطية تأخذ طريقها نحو إرباك منظومة القيم التربوية على وجه الخصوص، ومع مرور الأيام والسنين تظهر بين أحضان المجتمع شخصيات مهزوزة، شخصيات مسالمة ومستسلمة، شخصيات داجنة، شخصيات قلقة، شخصيات تفتقد الى القرار الفردي، وتفتقد الى وضوح الرؤية، تفتقد الى القناعات الذاتية، حيث تعجز عن توليد قناعة ما تتكئ عليها، تحتاج الى كثير من الوقت والجهد، حتى تقول كلمة نعم، أو لا، في أمر ما من أمور الحياة.

يعمد بعض المنظرين الى أن الخوف صنيعة مجتمع، لا أكثر، ولذلك تلعب الثقافة المجتمعية، والقيم الاجتماعية في هذا الجانب دورا محوريا في تعزيز هذه الخوف في نفوس أبناء المجتمع، أو التقليل منها، ولعل المجتمعات التقليدية المسكونة بالخوف اكثر من غيرها، هل من يتلقى مأزق هذه الخوف من خلال وجود شخصيات مهزوزة بينها، ولذلك تقل بين أفرادها المبادرات الشجاعة، حيث يتم التعامل مع كل ما هو مألوف ومعتاد، مع الحرص على عدم تشجيع الإقدام على سلوك الأعمال التي بها نسبة خطر ولو قليلة، وفي هذا المقام يذكر لي أحد الأخوة أنه يعمل في وحدة عسكرية ولكنه؛ حسب العرف القائم في جهته، انه مدني، فرأى عند زملائه عددا من الامتيازات المادية والمعنوية، والسبب انهم عسكريون، وهو مدني؛ حسب النظام، ففكر في الانتقال الى الفئة العسكرية، فهو لا يقل عنهم في شيء، وعندما ناقش والديه في ذلك، أقسما عليه اليمين أن لا يتحول الى المجال العسكري المباشر، لأن في ذلك خطورة كبيرة عليه، وهما لا يريدان أن يفقداه، فظل على حاله، بينما زملاؤه تقلدوا مناصب كبيرة، وكسبوا امتيازات كثيرة، هذه صورة مصغرة لما عليه ثقافة بعض أفراد المجتمع وقناعاتهم في عدم القدرة على المجازفة أو المخاطرة والدخول في معترك الطرق غير المعتادة، ويقينا؛ الحالة بهذه الصورة غير المبادرة لن تكسب الكثير من التقدم، ولن تضيف شيئا من اللبنات الجديدة في بنيان المجتمع الكبير.

من أجل ذلك تلبس بعض الوظائف، أو بعض المسالك، أو بعض الأمكنة بمثل هذه الـ«تابوهات» فتظل هكذا تحمل صورتها النمطية الى زمن ليس قصيرا، حتى يأتي آخر فيحطم مجموعة القيود التي أسكنت بعض أفراد المجتمع زمنا يسيرا تحت مظلة الخوف، الترقب، وعدم المغامرة، ولذلك سمعنا أن هناك كهوفا ظلت مخيفة والاقتراب منها، هو الاقتراب من الموت، إن جازت التسمية، وحملت ما لم تحتمل من حيث الإشاعات التي تروى حولها، وكلها تخيلات لا أثر لها في الواقع الحقيقي، وانحلت العقدة عندما جاء آخرون في أزمان متأخرة، فدخلوها مكتشفين ما تحمله من أسرار، عندها فقط، تبين أنها مغارات خاوية لا تسكنها الوحوش الضارية، ولا الحيات القاتلة، وإنما تنبعث منها روائح الفراغ، وتتعالى بين جنباتها أصداء الأصوات التي تتردد عبر تجويفها، فلا هي للجن مسكنا، ولا هي للخوف منبعا، بل بالعكس احتاج إليها الناس، كما يروى أيضا، في أزمان الحروب، والفيضانات، ملجأ آمنا من تقلبات الطقس، ومن حقد المهاجمين، حيث كانت الحضن الدافئ للنساء والأطفال والعجزة والضعفاء.

يعرف عن الاستعمار بطشه وجبروته، ولذلك فهو يمارس أشد أنواع الوحشية، على أناس محددين في المجتمع، لينعكس ذلك قلقا، ويترجم خوفا على بقية أفراد المجتمع، حيث يضرب المستعمرون على أبناء المجتمع بعصا من حديد، وذلك كما يروى عن عنترة بن شداد، عندما سئل عن سر تغلبه على الجيوش الكثيرة، والأبطال العتاه، قال: أقسو على الضعيف، فينتفض قلب القوي، فأقضي عليه، ذلك هو مبدأ صناعة الخوف في جميع الحالات الإنسانية، وهذه الصورة تنسحب على جميع الممارسات الإنسانية في الحياة، حيث تكون القسوة على الضعفاء، لتتسلل العبرة الى الأقوياء، كما هو التصور أو المعتقد، وإن كان لكل حالة شواذ، وفي كل الأحوال يظل صانع الخوف يمسك بالكثير من الأدوات التي يرهب بها من بعده، وحتى في النداء الرباني العظيم في قوله تعالى: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل؛ ترهبون به عدو الله وعدوكم) حيث حث المسلمين على الاستعداد لملاقاة العدو، وإن كان الأمر هنا الأخذ بالأسباب المفضية الى زرع الخوف والرهبة في العدو، حتى لا يظهر المسلمون في صورة يستهين بها العدو.

لذلك يمر المنتسب الى المجال العسكري بمراحل كثيرة وعديدة من التدريب والتأهيل؛ لنقله من حالته السكونية المسالمة المهادنة التي تربى عليها في بيت الأسرة ونقله الى نفس مصنوعة من القوة والشجاعة، والتحمل، والإقدام، حيث تتجاوز مظان تربيتها الأولى الى تربيتها الثانية المحفوفة بالمخاطر، المحملة بالنزعة العسكرية الموكول إليها تهذيب هذه الشخصية ونقلها من حالتها الساكنة تلك الى الحالة الديناميكية المتحفزة للإبداع، والمبادرات، العزمة في قرارها، المتحررة من نزاعاتها الذاتية الضعيفة، ولذا يفترض ان يكون أبناء المنتمين الى المجال العسكري بمثل هذه الصورة، وليس أقل من ذلك،

تتسارع وتيرة الحياة اليوم أكثر من ذي قبل، وهذا أمر فارض نفسه على واقع الناس، ولذلك هناك شعور غير عادي يتسلل الى الأنفس، فيربكها أكثر، ويعلي سقف خوفها من المجهول أكثر، وقد يملي عليها سرعة اتخاذ قرار إنهاء حياتها بيدها، هناك ضيق، وهناك انتقاد لكثير مما يدور من سلوكيات في الوسط الاجتماعي، فيزيد من معاناة الأنفس، فتذهب للبحث عن ما يريحها، ما يخفف من ضغطها، ما يعيد إليها هدوءها وامنها واستقرارها، وقد قرأت مرة في إحدى تجارب الدول، ان شركة استحدثت خدمة للناس، وهي أن يأتي صاحب أي هم يعيش قلقه فيدخل في غرفة مملوءة بالكثير من الأواني القابلة للكسر، فيعطى حرية تكسير ما يود تكسيره، كما يتاح له الصراخ بأعلى صوته، حتى يخفف من نفسه مجموعة الضغوطات التي يعاني منها، فيخرج؛ وقد تخلص من كل ذلك، وطبعا كل ذلك بمقابل، وفي المقابل نرى اليوم نوعا من الألعاب الخطيرة التي يقصدها الشباب على وجه الخصوص، وهي الألعاب البهلوانية، كما يطلق عليها، حيث يعيش الشاب مغامرة خطيرة جدا، قد لا تتجاوز النصف ساعة، ولكنها قد تجلي كل الكدر الذي يعيشه هذا الشاب من خلال الصراخ المبالغ فيه من غير شعور، كما تتيح له التجربة التخلص من شيء اسمه «خوف» فيطمح الى تجربة اكثر جرأة، واكثر خطورة ليثبت لنفسه أنه شجاع، وانه مقدام.

تحرص التربية الحديثة اليوم، أكثر من أي وقت آخر، الى انتزاع الخوف من نفوس الناشئة، وذلك عبر برامج كثيرة تقدم هنا وهناك، ربما لم تكن موجودة قبل وقت مضى، وهذا من شأنه أن يعلي سقف الطموح للتخلص، على الأقل، من الخوف الفطري قبل المكتسب، فيوجد في المجتمع أفرادا صالحين بأفكارهم النظيفة، والمتزنة، والعقلانية، واتخاذ القرار الرشيد، بعيدا عن الشطط، والارتباك.