أفكار وآراء

نحو جيل جديد.. من «العقوبات الذكية»

19 أغسطس 2017
19 أغسطس 2017

عماد عريان -

وسط أجواء دولية مفعمة بتحركات محمومة وحديث متصاعد حول العقوبات بمختلف أشكالها وأنواعها وأهدافها وأهميتها في تنفيذ القرارات الدولية والسياسات الخارجية للدول وتأثيراتها المحتملة والمتوقعة على الشعوب والأفراد، جاءت نقاشات مجلس الأمن الدولي في الفترة الأخيرة حول ما يمكن تسميته جيلا جديدا من «العقوبات الذكية» في محاولة جادة لتحديث وتغيير مفهوم العقوبات ذاتها وتطبيقاتها بحيث لا تتعارض مع حقوق الإنسان الأساسية وفي الوقت ذاته تحقق المراد منها بلا تأثيرات أو مضاعفات إنسانية خطيرة.

تصدرت هذه النقاشات في مبادرة هي الأولى من نوعها دعوة صريحة لمجلس الأمن الدولي لتحمل مسؤولياته الجماعية لتحويل المواقف المعلنة من قبل أعضائه والدافعة نحو مزيد من التطوير لمنظومة العقوبات إلى أفعال «تثبت صدق وجدية النوايا» في تحسين فاعلية نظام العقوبات الدولية لضمان تنفيذها على النحو الأنسب والتقليل من تداعياتها السلبية على الصعيد الإنساني والاقتصادي والاجتماعي,وتعد كذلك بمثابة رسالة عملية للمجتمع الدولي بأن المجلس حاضر ومدرك لأهمية هذه الأداة وضرورة تطويرها على النحو المطلوب.

وهي مبادرة لها أهميتها القصوى بلا شك في ضوء فشل سياسات العقوبات في السابق في تحقيق أهدافها – والعقوبات الأمريكية على كوبا لفترة تجاوزت نصف القرن خير دليل على ذلك – علاوة على الإضرار بالشعوب والتسبب في كوارث إنسانية كبرى دون تفرقة بين المستهدفين والأبرياء، إلى الحد الذي دفع الأمم المتحدة يوما على سبيل المثال إلى تبني صيغة «النفط مقابل الغذاء» للحد من التأثيرات السلبية العميقة للعقوبات التي فرضت ضد بغداد على جموع الشعب العراقي.

وليس خافيا في الوقت ذاته أن للعقوبات الدولية ضرورة في بعض الأحيان باعتبارها وسائل بديلة للحروب في تنفيذ الأهداف الدولية بعيدا عن وسائل العنف، إلا أن الانتقائية وتسييس قضايا وحالات بعينها وظهور تأثيرات سلبية خطيرة عند تطبيقها أظهر عيوبها وأفقدها الكثير من جدواها وأهدافها الحقيقية مما جعل إعادة النظر فيها لتقييمها وتعديل مفاهيمها أمرا حتميا، وهو ما تبنته مصر خلال رئاستها لمجلس الأمن في دورته الجديدة خلال الشهر الجاري مؤكدة أهمية استمرار العمل من أجل تطوير وزيادة فاعلية نظم العقوبات مع تخفيف تداعياتها السلبية غير المقصودة، ومسؤولية مجلس الأمن في دراسة سبل إحداث تطوير نوعي وموضوعي لتلك الأداة الهامة عبر إيجاد آليات حوار مناسبة ورصد وتقييم الدروس المستفادة من تجارب نظم العقوبات المختلفة والتعرف على رؤى الأطراف المعنية، موضحة أن ضمان عدالة نظم العقوبات سيجعلها أكثر فاعلية في حين أن إساءة استخدامها سيضر بمصداقية المجتمع الدولي وقد يترتب عليه تداعيات سلبية تفاقم من بعض الأزمات بدلا من المساهمة في تسويتها.

لقد كشفت النقاشات التي دارت في محيط هذه المبادرة الحاجة إلى تحسين صياغة منظومة عقوبات الأمم المتحدة من منظور شامل يراعى الجوانب المتعلقة بالتسوية السلمية للمنازعات الدولية، فضلا عن أولوية الاستماع إلى تجارب الدول الخاضعة للعقوبات أو الخارجة منها، ومراعاة الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى أهمية مساعدة الدول على دعم قدراتها الفنية بما يسمح بتطبيق تلك العقوبات بالشكل الملائم، وبما يساهم في تعزيز جهود صيانة السلم والأمن الدوليين، ولفت الخبراء والمختصون المعنيون بالمبادرة إلى ما كشفت عنه دراسات دولية عديدة بأنه بينما يختلف أثر العقوبات من حالة لأخرى، إلا أن لها في جميع الأحوال تأثيرات مباشرة وملموسةً على الحقوق التي يقرها ميثاق الأمم المتحدة ؛ على سبيل المثال، كثيرا ما تسبب اضطرابا في توزيع الأغذية والأدوية والإمدادات الصحية، وتهدد نوعية الطعام وتوافر مياه الشرب النقية، وتتدخل بصورة قاسية في تشغيل الأنظمة الصحية والتعليمية الأساسية وتقوض الحق في العمل.

وبالإضافة إلى ذلك فإن عواقبها غير المقصودة قد تشمل تعزيز سلطة الفئات المستبدة وظهور سوق سوداء بصورة تكاد تكون حتمية وما يرتبط بها من توليد أرباح مفاجئة ضخمة للجماعات المتميزة التي تتصرف فيها وتعزيز رقابة الفئات الحاكمة على السكان بشكل عام وتقييد فرص التماس اللجوء أو التعبير عن المعارضة السياسية، وإذا كانت هذه الظواهر في جوهرها ذات طابع سياسي فإن لها كذلك تأثيراً إضافيا كبيرا على التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولهذا السبب فإن أنظمة العقوبات التي وضعها مجلـس الأمـــن في مراحل سابقة تحتوي على استثناءات إنسانية تهدف إلى إتاحة تدفق السلع والخدمات الأساسية الموجهة لأغراض إنسانية، ومن المفترض بصفة عامة أن هذه الاستثناءات تضمن الاحترام الأساسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلد المستهدف، غير أن عددا من الدراسات التي أجرتها الأمم المتحدة حديثا وغيرها من الدراسات الأخرى التي حللت تأثير العقوبات انتهت إلى أن هذه الاستثناءات ليس لها ذلك التأثير، وعلاوة على ذلك فإن الاستثناءات محدودة جداً في نطاقها فهي لا تعالج -على سبيل المثال- مسألة الحصول على التعليم الابتدائي ولا تتيح إصلاح البنى الأساسية الضرورية لتوفير المياه النظيفة، والرعاية الصحية الكافية .. وغيرها من خدمات مهمة.

وتمثل هذه المسألة شاغلا كبيرا للمنظمة الدولية منذ عدة عقود، وليس أدل على ذلك من أن الأمين العام للأمم المتحدة دعا في عام 1995 إلى ضرورة تقييم التأثير المحتمل للعقوبات قبل فرضها وإلى توسيع تقديم المعونة الإنسانية إلى الفئات الأضعف، وفي العام التالي جاء في دراسة رئيسية للجمعية العامة حول أثر النزاع المسلح على الأطفال أن «الاستثناءات الإنسانية تميل إلى الغموض وتفسر بشكل عشوائي وغير متجانس، كما أن حالات التأخير والفوضى، ورفض طلبات استيراد السلع الإنسانية الضرورية تسبب نقص الموارد ولا بد أن تكون تأثيراتها أشد وطأة على الفقراء» كما خلص تقرير صادر في أكتوبر 1997 إلى أن الإجراءات الاستعراضية التي وضعت في ظل لجان العقوبات المختلفة التي أنشأها مجلس الأمن «ما زالت بطيئة، ولا تزال وكالات المعونة تواجه مصاعب في الحصول على موافقة على الإمدادات المستثناة وتهمل اللجان مشاكل أكبر تتعلق بالانتهاكات التجارية والحكومية وتتخذ شكل التعامل في السوق السوداء والتجارة غير المشروعة والفساد»، ويؤكد ذلك واستناداً إلى مجموعة مهمة من الدراسات المتخصصة أنه لا يتم الاهتمام بقدر كـاف بتأثير العقوبات على الفئات الشعبية العريضة، ومع ذلك فإن هذه الدراسات لم تتناول لأسباب متنوعة العواقب السيئة على وجه التحديد بالنسبة للتمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في حد ذاتها، ومن الواضح في واقع الأمر أن تلك العواقب لم تؤخذ في الحسبان على الإطلاق أو لم تمنح الاهتمام الجاد الذي تستحقه في معظم الحالات إن لم يكن فيها جميعا، ولهذا يجب إعطاء أبعاد تتعلق بحقوق الإنسان للمداولات التي تدور حول هذه القضية، ومنذ عام 2014، وبقيادة إدارة الشؤون السياسية قام الفريق العامل المشترك بين الوكالات التابع للأمم المتحدة والمعني بفرض العقوبات، والذي يضم 26 كيانا من كيانات الأمم المتحدة بمواصلة عمله لضمان تقديم الدعم على نطاق المنظومة لعقوبات الأمم المتحدة.

وبرغم أنه لم يفعل الشيء الكثير منذ هذا التاريخ لتحقيق هذه الأهداف إلا أن تايه-بروك زيرهون مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية أكد على أن تفعيل العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة يتطلب دعما كبيرا من الدول الأعضاء والمجتمع الدولي بأسره، مشيرا إلى أن أفضل العقوبات المفروضة لا تنفذ من تلقاء نفسها، داعيا الدول الأعضاء إلى الوفاء بالتزام تنفيذها، كاشفا خلال مناقشة «تحسين فاعلية العقوبات الأممية»، أن 13 من نظم العقوبات التي يفرضها مجلس الأمن تلعب اليوم دورا تمكينيا في منع الصراعات ومكافحة الإرهاب والحد من انتشار الأسلحة النووية وأن المجلس اعتمد تدابير عقابية مصممة ومحددة لردع التغيير غير الدستوري للحكومات، والاستغلال غير المشروع للموارد الطبيعية الذي يمول أنشطة الجماعات المسلحة، وكذلك انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، ولا سيما العنف الجنسي في الصراع بوصفه عملا من أعمال الإرهاب، وبالمقابل اعتمدت تدابير عقابية لدعم تنفيذ اتفاقات السلام وجهود بناء السلام.»

وبرغم دفاعه الواضح عن منظومة العقوبات الدولية ودورها في تنفيذ قرارات الأمم المتحدة إلا أن المسؤول الدولي يرى أن جميع المراجعات السابقة التي قادتها المنظمة بشأن العقوبات قد شددت على أهمية تنسيق الدعم على نطاق المنظومة لتدابير مجلس الأمن العقابية، مؤكدا أن عقوبات الأمم المتحدة تعد أداة قوية للسلم والأمن العالميين، مشددا على أهمية مواصلة نشرها بالتزامن مع غيرها من الالتزامات القائمة في الميثاق في سبيل خدمة الأهداف المحددة واحتراما للإجراءات القانونية الواجبة وحقوق الإنسان، ومن الواضح أنه قد مر عليها مرور الكرام، ما يعني أن الطريق لا يزال طويلا وشاقا في رحلة البحث عن جيل جديد من «العقوبات الذكية» التي تلجأ إليها الأمم المتحدة، رغم أهميتها القصوى وأهدافها النبيلة.