إشراقات

خطر يهدد المجتمعات

17 أغسطس 2017
17 أغسطس 2017

د.صالح بن سعيد الحوسني -

من أسباب وقوع هذه الآفة هو ما يكون من ضعف للوازع الديني عند البعض فلا يكترثون لحق أو لباطل، والجهل بالأنظمة واللوائح المنظمة للأعمال والمصالح فينبغي تعميق الإيمان في القلوب، فهو الحاجز الواقي المصاحب للإنسان أينما حل وسار، فلا تميل النفس إلى حظوظ النفس العاجلة ما دامت تحت مظلة الإيمان، ومن طرق التصدي لهذه الظاهرة التوعية المستمرة من خطرها وأضرارها عبر التربية الأسرية في البيوت بتنشئة الأبناء على احترام حقوق الآخرين وعدم التعدي على ممتلكات الآخرين.

خلق الله الكون بالعدل، وبنظام محكم دقيق، لا يحيد جهة اليمين أو الشمال قيد أنملة، وصدق الله القائل: (وكل شيء عنده بمقدار)، فكل ما يراه الإنسان من نظام في السماء أو في الأرض أو في البحر بما فيه من كائنات دقيقة أو ضخمة إنما قامت على عدل مطلق، فتجد أن الله سخر لها من أسباب العيش والحياة والدفاع عن النفس والتكاثر ما يجعل الحياة تسير بدقة وإحكام، قال تعالى: (وكل شيء فصلناه تفصيلا)، وقال أيضا: (الذي خلق سبع سماوات طباقا؛ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت).

وإذا كان الله قد خلق الكون بنظام محكم عادل، فإنه أمر هذا المخلوق المكرم والذي هو الإنسان أن يتخلق بالعدل في حياته وتعامله وكل شؤونه الدقيقة والجليلة، ليتساوق مع نظام الكون المحكم؛ قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)، ومعنى ذلك أن يلزم الإنسان جانب الإنصاف فلا يميل لطرف على حساب طرف آخر، ولا يقدم حق أحد على حساب حق طرف آخر مهما كانت الأحوال والظروف والأسباب؛ بل يجعل العدل والإنصاف شعارا ومنهجا له في تعامله الدائم في ليل أو نهار وفي حرب أو سلم، وفي سهولة ويسر أو في صعوبة وشقاء، وهو ما يوجهنا به المولي سبحانه حين قال: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط)، بل يحذرنا من إجحاف حق الآخرين حتى في حالة البغض أو الكره لهم فقال: (ولا يجرمكم شنأن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالعدل هو أقرب إلى التقوى من الإجحاف والميل وتقديم البعض وتأخير الآخرين، وكذا الحال في التعامل مع الأقارب فلا يعني متانة الصلة النسبية أن يكون هناك تقديم لهم وتجاوز لحقوق البعض على البعض الآخر، قال تعالى: (..وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي وبعهد الله أوفوا).

وقد يحلو للبعض أن يراعي بعض الصلات النسبية، أو أهل قرابته، أو معارفه، أو نحو ذلك فيجعل لهم ميزة على البقية في حال التقدم للوظائف أو الأعطيات أو الهدايا، وأيضا قد يغض الطرف عن أخطائهم، وتقصيرهم، ومفاسدهم ويُتستر عليها، ويمكن أن تخفف إلى أقصى الحدود وفي المقابل يشدد على الفقير والمسكين، وتضخم هفواتهم، ويُنتقص من حقوقهم لزيادة آخرين لا يستحقون ذلك، وهذا لعمر الحق من أشنع الأمور التي تؤدي إلى جملة من المفاسد والآثار البغيضة، ومن أهمها: أن يسود شعور بالبطر والكبر لدى الطرف الذي أخذ ما ليس له، ويشعر الطرف الآخر بالانتقاص والتعاسة والحزن والغم لأنه سُلب وهضم حقه، بل وتسري في دمائه حقد وحسد وكره لأولئك الذين ظلموه ونهبوا حقه ظلما وعدونا، ويشعر بالإحباط وينعكس ذلك سلبا على أدائه ووظيفته وصنعته فيكون كاسف البال حسير الطرف لما يراه من أحوال سيئة لا تمت للعدالة والإنصاف بصلة، وأيضا فإن شيوع هذه الظاهرة الخطيرة مؤذن بانهيار المجتمع وفساده وهو الذي أوضحه المعصوم صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد».

ومع أمر الله تعالى لعباده المؤمنين إلا أن فئات من الناس قد ضربوا بهذه التوجيهات الربانية عرض الحائط، وسوغت لهم نفوسهم الآثمة أن يقع منهم تفضيل قرباتهم ومعارفهم، وأصحابهم في مجالات مختلفة كالوظائف والمناصب، والأعطيات ونحوها وهو ما ينتج عنه الكثير من المشكلات التي تؤدي للهلاك والدمار، وهذا ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بجلا في الحديث: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)، فهذا هو قانون الجاهلية المقيت في سرعة تطبيق الحدود والنظم على الضعفاء والمساكين، وأما أهل الشرف والمكانة والوجاهة فيلتمسون له من المخارج والمداخل والعلل والأعذار ما يعفيه عن استحقاقه للعقاب، وهذا كما يرشد إليه الحديث.

ومن آثار هذه الآفة أن يتولي الأمر غير أهله، فلا يقيمون للحق منارا، ولا للصواب طريقا، ولا للفضيلة مذهبا فيتخبطون ذات اليمين وذات الشمال، فيفسدون أكثر مما يصلحون، فتضيع المصالح والحقوق، وهو من علامات قيام الساعة كما جاء واضحا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل له: كيف إضاعتها يا رسول الله، قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله»، فالأعمال والمناصب تحتاج إلى مقياس دقيق لوضع الشخص المؤهل والمناسب لها، وقد صرح القرآن الكريم بالميزان الدقيق لذلك في قول ابنة شعيب: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)، فالقوة العلمية والفكرية والجسدية مجتمعة ويضاف إليها خلق الأمانة الحارس اليقظ هي مؤهلات شغل الأعمال والوظائف.

ومن أضرار هذه الظاهرة الخطيرة أنها تدفع لآفة أخرى أسوء منها وهي الرشوة، فقد يتمنع البعض عن المساعدة، أو التحايل على النظم والعراف السائدة إلا بمقابل يأتي له من جهته الثراء، فلا ينجز معروفا، أو يقدم خدمة إلا بمقابل، وهذا الأمر ضرره فادح وخطير على المجتمع كما قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الراشي والمرتشي»، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله بما يجره من ويلات لصاحبه ينأى العاقل من الدخول فيها.

ومن أسباب وقوع هذه الآفة هو ما يكون من ضعف للوازع الديني الذي يكون عند بعض أصحاب النفوس الضعيفة فلا يكترثون لحق أو لباطل، ولا هم لهم في هذه الحياة إلا العلو والإفساد في الأرض، وأيضا ما يكون من ضعف في مسار النظم والقوانين وطول الإجراءات وكثرة تعقيدها وهو ما يتسبب في محاولة البعض التسور على النظم والأعراف والضوابط، ويضاف لذلك الجهل بالأنظمة واللوائح المنظمة للأعمال والمصالح.

وحول الوقوف على حلول لهذه الظاهرة فإنه ينبغي أولا تعميق الإيمان في القلوب، فالإيمان هو الحاجز الواقي المصاحب للإنسان أينما حل وسار، فلا تميل النفس إلى حظوظ النفس العاجلة ما دامت تحت مظلة الإيمان، ولا يمكن لأي سبب أن يكون مؤثرا عليها ما دامت مطمئنة بالإيمان، وهو ما نجد أثره واضحا حين أخبرنا المولى سبحانه عن سحرة فرعون الذين كانوا قبل قليل يسألون فرعون الأموال والأجرة الكبيرة نظير سحرهم، فما هي إلا برهة من الزمن عندما خالطت بشاشة الإيمان شغاف قلوبهم حتى انتقلوا إلى عالم آخر، وأصبحوا أناسا آخرين؛ قال تعالى: (فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فألقي السحرة ساجدين، قالوا أمنا برب العالمين، رب موسى وهارون)، وعندها قام الطاغية المتجبر فرعون بالوعيد والتهديد، فما كان منهم إلا أن قالوا بلسان المؤمن الواثق بمعونة الله له: (قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون)، فهذا الإيمان إن رسخ في النفوس استحال إلى استقامة في الفكر، وصلاحا في الخلق، وزهدا في الدنيا، وبعدا عما يغضب الله تعالى لأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

ومن طرق التصدي لهذه الظاهرة التوعية المستمرة من خطر هذه الظاهرة وأضرارها عبر التربية الأسرية في البيوت بتنشئة الأبناء على احترام حقوق الآخرين وعدم التعدي على ممتلكات الآخرين، وتليها الحلقة المهمة وهي المدرسة، بان يكون المعلم قدوة صالحة في عمله من غير إجحاف وظلم لأحد، وبعد ذلك لا بد وأن يقوم المسجد بدوره المهم في ذلك من خلال خطب الجمعة والدروس والمحاضرات الموجهة لأحسن الأخلاق، وكذا الحال لوسائل الإعلام المختلفة التي على عاتقها مسؤولية ضخمة بتقبيح هذه الظاهرة والتنفير منها.

ومن أهم طرق مكافحة هذه الآفة أن يسري النظام على الجميع بشفافية وعدالة مطلقة على الجميع دون اعتبار للحسب أو النسب أو الوجاهة أو الثراء أو نحو ذلك من هذه الاعتبارات، ويبقي عنصر الكفاءة هو المقياس الرئيس في أي تكليف أو وظيفة، بجانب سن التشريعات الكفيلة بمعاقبة المخالف في ذلك لرد من تسول له نفسه الآثمة أن يقع في هذا المستنقع العفن.

والجدير بالذكر أن الواسطة أو المحسوبية الممنوعة هي ما كانت للتحايل على النظام وإعطاء الآخرين ما لا يستحقونه من نحو مال أو وظيفة أو امتيازات، وأما ما كان من شفاعة حسنة لأجل مساعدة إنسان للوصول إلى مبتغاه الذي هو حق له بتعجيل الإجراءات وتسهيلها، وحث الآخرين على ذلك فهذا من الشفاعة الحسنة الطيبة التي قال الله فيها: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا).