أفكار وآراء

الصورة من زاوية أخرى

16 أغسطس 2017
16 أغسطس 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

تدعي كل القنوات الفضائية وكل الصحف ووسائل الاعلام ، بهذا الشكل او ذاك، انها حريصة على نقل الرأي والرأي الآخر الى المتلقي ، وقد يضيف بعضها تأكيده التمسك بالقيم المهنية التي تنص على الحياد والموضوعية والدقة والنزاهة وهكذا . واقعيا فإن عالمنا ومن الناحية الاقتصادية بالذات يكاد يكون عالم الرأي الواحد او الأوحد بمعنى أدق ، ولكن مغلفا بإطار مخادع حتى يتم استكمال صورة الرأي والرأي الآخر شكليا.

لم نعد نسمع عن طريق للتقدم الاقتصادي سوى عن طريق الخصخصة وتحرير الاقتصاد وتحرير الأسعار والأسواق بما فيها سوق العمل ، وتعويم العملة ، وتحرير التجارة الخارجية وهكذا. واذا تصادف ان ظهر صوت مختلف يتم نعته على الفور بأنه « موضة» قديمة او شمولي او غير مدرك للتطورات التي فرضتها العولمة ومقتضيات المنافسة الدولية في عالم لا يرحم.

يتم نعته بكل ذلك وأكثر مهما كانت الحجج التي يوردها والاسانيد التى يعتمد عليها. ولقد كان من حسن حظي ان انجو من اجواء الأحادية تلك وان اعيش تجربة فكرية ومهنية منفتحة على اليمين واليسار معا ، ما أفادني ويفيدني للآن وان كان ارهقني ! .

سبب ذلك الأول كان هو الشك فى المدينة وناسها - وانا القروي الحذر - ، والثاني هو الفضول المعرفي الدائم ، والثالث هو القلق المستمر من المسلمات ( على قلق كأن الريح تحتي كما يقول المتنبي ) ، وبالتالي التشكك فى كل ما يكتب او يقال مبدئيا ، والتمحيص الزائد لبناء يقين ما يلبث ان يتغير بعد ظهور وقائع جديدة او حجج مختلفة. والسبب الأخير هو البيئة السياسية العقلانية التي عشتها في ظل نشاطي بحزب التجمع اليساري المعارض وصحيفته التي كانت من اقوى الصحف في مصر يوما ما وهي « الاهالي» .

الشك عندي كان يعمل في اتجاه معاكس ايضا بمعنى عدم تقبل مقولات اليسار التقليدية عن الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا وحتمة الاشتراكية وكون الراسمالية تحفر قبرها وهكذا على علاتها. بكل تأكيد كان يمكن لمثل هذا النوع من الشكوك ان يكون مصدر سعادة للأصدقاء من الليبراليين واهل اليمين بعامة وما كان اكثرهم حيث كان حزب الوفد المصري ينشط بقوة وقتها فى الحياة السياسة وكان له كتابه ومفكروه ، بيد ان الصورة لم تكن كذلك ، لاني في المقابل لم استطع ابدا ان اهضم مقولات اليمين حول قانون الفطرة او القانون الطبيعي ( الذي هو الراسمالية )، وحتمية فشل النظم الشمولية ، ونهاية التاريخ والتساقط - اي تساقط ثمار النمو اوتوماتيكيا على الجميع بعد فترة من بدء تحقيق انطلاق اقتصادي وهكذا .

لا استطيع الادعاء باني كونت طريقا ثالثا ، او كنت ابحث عن الطريق الثالث، ولكن هذا الانفتاح الفكري افادني بقوة في تفادي « الدوجما» واحادية النظرة ، بل وأفادني اكثر فى تمكيني من عبور فترة انهيار الاتحاد السوفيتي بسلامة نفسية افضل من كثيرين، فقد كان وجود المعسكر الاشتراكي هو احد الادلة على امكان قيام الدولة الاشتراكية في نهاية الامر( برغم ادراك الكثيرين منا لعيوب النموذج ) ، بحيث ان الانهيار اصاب كثيرين باليأس من ان تنتصر العدالة الاجتماعية ، وينتفي الاستغلال من العالم ، وبالتالي انعزلوا او عزلوا انفسهم عن العمل العام او انشغلوا بأمور اخرى بل وهرب بعضهم الى اقصى اليمين - ولكن تحت مظلة الدين - في ردة فعل لم تكن مفاجئة ولكنها كانت مثيرة للذهول! .

واذ استوت افكار ما يسمى بـ« توافق واشنطن» على قمة جبل الفكر الاقتصادي في العالم الحديث - مع بعض تعديلات - بحيث بدت وكان لا شيء سواها ، كنت ككثيرين بكل تأكيد امارس شكي تجاهها بكل ما اوتيت من قوة. فالهيمنة ذاتها تستنفر العقل . لكن الغريب ان يأتينى المدد من حيث لم احتسب ، فقد كنت اتحدث بالصدفة منذ ايام الى احد اعلام الاقتصاد في مصر والعالم العربي وهو الدكتور ابراهيم العيسوي، والذي حصل على الدكتوراة من اكسفورد وقام بالتدريس فيها وعمل بمعهد التخطيط العربي لسنوات وهو الآن استاذ بمعهد التخطيط القومي بمصر... كنت اتحدث اليه للسؤال وفي شأن من الشؤون المهنية خاصة وقد تفرقت بنا السبل منذ سنوات ، ففاجأني بتأليفه كتابا جديدا عن التنمية ودروسها فى ضوء الخبرة التاريخية لدول العالم المختلفة . في الكتاب وجدت فصلا ممتعا عن نقد بحوث واعمال باحثي كل من البنك وصندوق النقد الدوليين وبيان ما انطوت عليه من تحيزات وما شابها من تعسف في اصدار الاحكام او شاب اجندة البحوث نفسها من تحكمات هدفها فى النهاية اظهار انه لابديل امام اي بلد في العالم يريد التقدم سوى توافق واشنطن او طريق تحرير الاقتصاد والاسواق والعملات والتجارة كما اسلفنا .

استند الدكتور العيسوي في كتابه الى تقييمين مستقلين قامت بهما فرق عمل مستقلة قادها ارفع اساتذة الاقتصاد في امريكا والعالم وذلك في سياق اجراء المراقبة الخارجية لأنشطة هاتين المؤسستين. صدر التقرير الاول - وكان اسمه تقرير « دايتون» - عام 2006 ، وفيه اشارات الى ان بعض بحوث البنك الدولي التي تؤكد ان النيوليبرالية والعولمة تؤديان الى زيادة النمو الاقتصادي وتخفيض الفقر تستند الى شواهد احصائية ضعيفة وتم في حالات لي عنق الأدلة المتاحة وغاب التعبير الكافي عن الشك المحتمل في حجية بعض الادلة وهو الشك الذي يجب ان يكون سلاح كل باحث في رحلة بحثه عن ادق النتائج كما ذكر التقرير ان

البنك الدولى كان يتعمد حجب التقارير البحثية التى تنتهي الى نتائج مخالفة لعقيدته.لم يكتف البنك الدولى بذلك التقرير بل طلب دراسة اضافية عن بحوثه وقد قام بها الاستاذ « روبن برود» واوضحت هي الاخرى ان قسم البحوث في البنك الدولي قام بدور حاسم في اسباغ المشروعية على النموذج الفكري النيوليبرالي وحرية التجارة عبر خمسة وعشرين عاما كما جافت البحوث اصول البحث العلمي الرصين وتم تسييس بعضها كما ان البنك كان يكافئ من يقدمون بحوثا تدعم هذا النهج وفي المقابل لم يكن يشجع من يتوصل الى نتائج مختلفة بل وقام بتهميشهم ، واحيانا كان يتعمد عدم تعيين من لا يدعم النيوليبرالية اما فيما يتعلق ببحوث صندوق النقد الدولي فقد اورد العيسوي الكثير من التقييم المستقل لها والذي قام به البروفيسور ميشكن - رئيس الفريق ( خرج للنور فى 2010 ) وقد جاء به ان الصندوق فشل فى دوره كمراقب ومحلل للتطورات المالية العالمية وعجز عن تحذير الدول في الوقت المناسب وعانى باحثوه من ضيق افق وشاعت فى الصندوق ثقافة انعزالية وانغلاق فكري كما ان الدول الكبرى كانت تضغط على الصندوق بما يجعله عاجزا عن انتاج تقارير امينة ودقيقة وتم كثيرا تنحية وجهات النظر المختلفة وتغليب المقاربات القطاعية مع تغييب التحليل الكلي .

لقد ظهرت كتابات اخرى بعد التقرير الأول وقبل الثانى تأخذ نفس الطريق اي النقد الحاسم للبحوث ، وكان ابرزها انتقادات البروفيسور« استيجلتز» لكل من البنك والصندوق واختلافه مع نهجهما فى التعامل مع دول الاتحاد السوفيتي السابق ما ادى الى استقالته .

رغم ان مثل هذا النقد يلبي طلبا في عقلي ، لكن ما توقفت عنده اكثر هو حرص البنك والصندوق على ان يكون هناك تقييم خارجي مستقل لبحوثهما ، فتلك فضيلة يصعب ان تجدها في انشطة كثيرة ومؤسسات كثيرة في دول اليمين او اليسار ، وربما يغامر المرء ويطلب من الدكتور ابرهيم العيسوي نفسه ان يطرح ضرورة تشكيل فرق تقييم بحثية مستقلة بحق لتقوم بتقييم بحوث اساتذة معاهد التخطيط في مصر والدول العربية ومنها بالطبع بحوث الدكتور ابراهيم ذاته ( على جديتها البالغة ورصانتها وامانتها بكل تأكيد ) ، فقد يكشتف احدهم تحيزات هنا او هناك حتى لدى الدكتور ابراهيم ومن معه ومن ضده .

ان المعضلة الرئيسية في عالمنا المعاصر في تقديري انه لاتوجد ملاعب محايدة ليتحرك فوقها لاعبو الفكر وفق قواعد تسري على الجميع ويتاح معها للجمهور ان يرى بشفافية كل الفرق وبعين واعية . ان محاولات التأثير على البحوث وغير البحوث مما هو ذا طابع فكري او ثقافي او تعليمي او اعلامي بالمال والنفوذ والسياسة والمصالح وربما التدليس والغش لا اول لها ولا آخر ولها من الحيل والاساليب ما يعجز المرء عن ادراكه. اهلا بصراع العقول الحرة النزيهة ، ولا للغش والاكراه والتدليس مهما كان الاتجاه الذي يخدمه.