الملف السياسي

هبوط اضطراري .. على أرضية التعاون

14 أغسطس 2017
14 أغسطس 2017

محمد حسن داود -

من الخطأ الجسيم التعامل مع أزمة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة - بما سهل وصول الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض - على أنها سبب جوهري لمشهد الاحتقان الراهن بين واشنطن وموسكو أو اعتبارها مبررا كافيا لكل هذا التصعيد من جانب الكونجرس ضد بوتين وترامب.. معا!

انطلاقا من هذه الفرضية «الواقعية» قد يكون الأصح التعامل مع أزمة التدخل الروسي في الشأن الانتخابي الأمريكي - الذي لم تعرف حدوده وأبعاده كاملة - على أنها ذريعة يتم استخدامها بانتهازية شديدة من جانب صقور الكونجرس وكذلك العناصر المتشددة داخل الإدارة الأمريكية ذاتها للحيلولة دون جموح ترامب نحو مزيد من «التورط» في أحضان الدب الروسي ومنعه من تنفيذ وعوده المعسولة التي أطلقها خلال حملة الانتخابات الرئاسية في أواخر العام الماضي بشأن التعامل مع موسكو ورجلها القوي فلاديمير بوتين، فما يحدث من الكونجرس وصقور الإدارة الأمريكية، وعلى رأسهم بالقطع وزيرا الدفاع والخارجية بينس وتيلرسون، هو أقرب ما يكون إلى العقاب الصريح للرئيس ترامب على مواقفه المعلنة والمسبقة تجاه موسكو، الأمر الذي يجعل من مزاعم واتهامات التدخل الروسي في الانتخابات ذريعة يتم استخدامها وسيتم توظيفها أكثر من ذلك كلما كانت هناك رغبة لجعل ترامب مجرد «بطة عرجاء» لخدمة مصالح جماعات النفوذ والقوى الحقيقية المهيمنة في الولايات المتحدة والتي قد تكون سببا مباشرا في وصوله للمكتب البيضاوي، وعلى الأرجح سيحاول ترامب نفسه التصرف بشكل يخرجه من العباءة الروسية المتهم بارتدائها، في محاولة واضحة لمواجهة الاتهامات التي طالته وفريقه حول ميوله الروسية، مستهدفا إرضاء صقور الجمهوريين وخصومه الديمقراطيين الذين سبق أن أعلنوا سقوطه في شباك الكرملين، خاصة بشأن ضرورة بناء العلاقات الطيبة مع موسكو، وما أعلنه حول إعادة النظر تجاه رفض انضمام القرم إلى روسيا، فضلا عن ضرورة التعاون في سوريا وعدم الإصرار على رحيل الرئيس السورى بشار الاسد، وذلك ما دفع الكثيرين إلى التأكيد على أن ترامب وبعد تلك الفترة من حكمه لم ينفذ أيا من وعوده الانتخابية، وهو الذي تراجع بالفعل عن كثير منها.

أما العلاقات الراهنة والمتأججة بين الطرفين، فهي في الغالب تعبير صريح عما يمكن تسميته بأزمات الحلقات، وإذا كان هذا النوع من الأزمات يضرب بشكل دوري النظم الاقتصادية الرأسمالية، فأغلب الظن أنها تنسحب كذلك على العلاقات الروسية - الأمريكية منذ تأسيسها في نهايات الحرب الأهلية الأمريكية في نهايات القرن الثامن عشر، فقد تعرضت وبشكل دوري ومتكرر لعديد من حالات ومظاهر الشد والجذب والخلافات الحادة حول قضايا عديدة ومتنوعة على المستوى الثنائي وكذلك على الصعيدين الإقليمي والدولي. إلا أن هذه الخلافات لم تصل أبدا إلى مستوى المواجهة المباشرة التي كان من الممكن أن تؤدي إلى فناء البشرية في لحظات تاريخية معينة، بل يمكن القول إنه في حالات التوتر الحاد وبلوغ علاقات الطرفين حافة الهاوية يصبح الاحتياج إلى مزيد من التعاون والتفاهم بينهما أمرا مطلوبا وملحا وهو ما يحدث بالفعل من خلال الخطوط الساخنة والاتصالات والتوافقات العاجلة، وليس غريبا في ضوء هذه الحقائق المستقرة تاريخيا أن تأخذ العلاقات بين الجانبين نفس المنحى حاليا ومستقبلا حيث الصعود والهبوط وزيادة التوتر مع تغليب لغة المصالح وحتمية التعاون في نهاية المطاف.

وبرغم تعدد القراءات التحليلية للمشهد الراهن، إلا أن اللغة الغالبة عليها أن العلاقات مستقبلا لن تخرج عن حدود وقواعد اللعبة المتعارف عليها منذ عشرات السنين وربما قرون، ولعل ما يزيد من سخونة المواجهة الراهنة شيئين أساسيين: أولهما أن ميراث الحرب الباردة في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى زوال الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي بزعامة موسكو في نهايات عام 1991 ما زالت رياحه تهب بين الحين والآخر على علاقات الجانبين، وربما تسببت عقلية الحرب الباردة التي اتبعتها واشنطن وموسكو في خلق عقبات أمام اندماج روسيا في المجتمع الدولي وساهمت في انعدام الثقة بين الطرفين،خاصة مع الإصرار الأمريكي على توسع حلف الناتو في الجوار المباشر لروسيا،وهو ما يمثل تهديدا استراتيجيا لها. وثانيهما أن موسكو تظهر في الصورة دوما كما لو كانت عنصر التكافؤ القطبي على الصعيد الدولي، وكذلك فإنها تحاول دوما الحفاظ على هذه الوضعية المهيبة لما تمتلك من مقومات القوة العظمى عسكريا ونوويا واقتصاديا وإن كانت لا ترقى بالتأكيد إلى مستوى الطرف الآخر. ولكن بشكل أو بآخر هذا المفهوم يحكم تصرفاتها وسلوكياتها داخليا وخارجيا حتى تظهر بالندية الكافية أمام واشنطن.

ومن السيناريوهات المطروحة في هذا السياق ما يؤكده محللون استراتيجيون بأن الصدام بين روسيا وأمريكا لن يكون عسكريا، بل ربما يمتد إلى ملفات مثل الصراع السوري الذي يراوح مكانه منذ سبع سنوات، ويعود السبب في جزء منه إلى الخلافات بين واشنطن وموسكو حول النظام السياسي ودعم الفصائل المتناحرة على الأراضي السورية، بالإضافة إلى التحالفات الدولية. ويبدو أن الشرق الأوسط أيضا سوف يشهد صراعا ما بين الدولتين، فبعد أن بدل الرئيس السابق أوباما التحالفات التقليدية في المنطقة خلال فترتي رئاسته، قام ترامب بأول جولة خارجية إلى السعودية ليؤكد عودة السياسات الأمريكية مجددا إلى دعم الحلفاء التقليديين، كما أن الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي تحتاج إلى مزيد من التنسيق بين القوتين سواء على الأرض في سوريا والعراق، كما أن الخلافات بين الدولتين تظهر واضحة في المحافل الدولية خصوصا الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وستظهر حدة الصراع أكثر خلال الفترة القليلة القادمة.

وعلى الصعيد الداخلي في روسيا، فأنه لا يمكن إنكار تأثير العقوبات على الاقتصاد الروسي، أو ما اعتبرته موسكو حربا تجارية،حيث توقعت وكالة موديز للتصنيف الائتماني زيادة هروب رؤوس الأموال من روسيا كما حذرت من أن العقوبات تشكل تهديدا لاستعادة النمو للاقتصاد الروسي بالإضافة إلى تضرر العملة «الروبل»، وفي المقابل ذكرت وكالة «ستاندرد آند بورز» الائتمانية أن القانون الجديد لم يظهر بعد تأثيرا مباشرا على التصنيف السيادي لروسيا. ولكن كما يقال (رب ضارة نافعة) حيث رجح وزير الاقتصاد الروسي أن هذه العقوبات لفتت نظر موسكو إلى مشاكل الاقتصاد المحلي خصوصا بعد انخفاض أسعار النفط، كما جعلها تركز على حلفاء اقتصاديين آخرين مثل مجموعة «بريكس» ودول منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ومن جهة أخرى تشهد روسيا انتخابات رئاسية في مارس القادم، وفي حين لم يعلن بوتين حتى اللحظة موقفه من الترشح، إلا أن أطرافا روسية تتوقع تدخل الولايات المتحدة وحلفائها من حلف شمال الأطلنطي «الناتو» في الانتخابات، مشيرين إلى أن المسؤولين الأمريكيين دائما ما يتدخلون في الانتخابات الداخلية للكثير من الدول.

بينما ترجح تحليلات أخرى أنه توجد لدى روسيا- برغم كل مظاهر التوتر الراهن - فرصةٌ حقيقية لبدء مرحلة جديدة من العلاقات مع الولايات المتحدة حيث لا تعد المطالب الروسية مبالغا فيها إذ إنها ترغب في رفع العقوبات عنها وأن يتم الاعتراف بأن القرم روسية، فضلا عن التسليم ببقاء بشار الأسد في السلطة، ويرى البعض أنه في مقابل تحقيق الشروط السابقة، فإن روسيا ستدفع في اتجاه تسوية سلمية للأزمة الأوكرانية من خلال إقامة حكم ذاتي لإقليمي دونيتسك ولوجانسك الانفصاليين، ويساعد على ذلك تغير اللهجة السياسية المستخدمة في موسكو، ففي أعقاب الانتخابات البرلمانية الروسية في سبتمبر 2016، توقف المسؤولون عن توظيف قضايا السياسة الخارجية في تعبئة أنصارهم، وأبدوا استعدادهم للتفاوض مع الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن فوز ترامب عموما كان النتيجة المفضلة لروسيا، فقد تعودت القيادة الروسية في المرات السابقة أن حدوث تغيرات دائمة في السياسة الأمريكية يظل أمرا مستبعدا، وأن تحسين العلاقات يتم من خلال بناء علاقة شخصية جديدة مع الرئيس المنتخب وهو ما سعت موسكو لتحقيقه. ففي أوائل ديسمبر 2016 توجه الرئيس بوتين بخطابه السنوي أمام البرلمان وقدم خلاله مقاربة جديدة للسياسة الخارجية تقوم على استعداد روسيا لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة وأكد تطلعها لإقامة حوار جديد.

وفي ضوء هذه الحقائق فإن الدبلوماسيين والعسكريين الروس لديهم تاريخ طويل من العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب، ولذا فإنه حتى في حالة اندلاع أزمات جديدة في سوريا، أو في أي أماكن أخرى، فمن المستبعد تماماً أن تؤدي هذه الأزمات إلى اندلاع مواجهات عسكرية مباشرة بين البلدين، وطالما أن المصالح الحيوية الروسية لن يتم المساس بها، فإن الخلافات بين البلدين سيتم ترجمتها في مجرد استفزازات متبادلة في الغالب كطرد الدبلوماسيين مثلا، ما يرجح حدوث هبوط اضطراري للخلافات الراهنة على أرض الواقع حرصا على المصالح المشتركة.