أفكار وآراء

حرب الكلمات والمؤسسات في الأزمة الكورية

13 أغسطس 2017
13 أغسطس 2017

أ.د. حسني محمد نصر -

غريب أمر المجتمع الأمريكي الذي تتقاسم فيه السلطة والتأثير جهات متعددة إلى درجة تجعلك تسأل نفسك كثيرا من الذي يحكم الولايات المتحدة، ومن الذي يحرك هذه القوة العظمى العملاقة ويضع استراتيجياتها العالمية وأجندة أعمالها اليومية الداخلية والخارجية، هل هو الرئيس الذي يبدو لك في لحظة ما أنه يمتلك كل خيوط اللعبة السياسية في يده ثم تكتشف لاحقا أنه لا يملك من أمره شيئا أمام الكونجرس والنظام القضائي والمؤسسات السيادية الراسخة مثل وزارتي الخارجية والدفاع ووكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي والصحافة، التي تستطيع أن توقف قراراته التنفيذية والتي كثيرا ما تخالف أوامر الرئيس وتراجعها وتصححها بل وتخضعه للتحقيق إذا لزم الأمر. مع ذلك يبدو النظام السياسي الأمريكي متماسكا وقويا ومعبرا بصدق عن أقوى إمبراطوريات العصر الحديث. وفي تقديري أن قوة هذا النظام تكمن في هذا التوزيع شبه المتعادل للسلطة بين الرئيس والكونجرس والقضاء والمؤسسات الأخرى، وهو نموذج قلما تجد له نظيرا في العالم.

تخيل فقط أن التهديدات التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على مدى الأسبوع الماضي حول كوريا الشمالية، كانت قد خرجت من رئيس دولة أخرى لديها صراع أو حتى خلاف محدود مع دولة أخرى. المتوقع عندما يقول رئيس الدولة ذلك يتم استنفار كل أجهزة الدولة والجيش، ويسارع البرلمان إلى عقد جلسة طارئة يتبارى فيها النواب في الثناء على شجاعة الرئيس وحكمته، كما يسارع وزيرا الخارجية والدفاع لعقد المؤتمرات الصحفية التي تركز على رؤية الرئيس وتدعم موقفه وتبرر تهديداته، وتتكتل القوى السياسية للوقوف صفا واحدا وراء الرئيس لتأديب الدولة المارقة التي تجرأت وهددت الدولة، ولا مانع أن تنظم مظاهرات الولاء في الشوارع تهتف بحياة الرئيس والموت للدولة الأخرى، وترتفع وتيرة إنتاج الأغاني الوطنية، وتجيش وسائل الإعلام لتهيئة الشعب للحرب وتمجيد الرئيس والدعوة إلى وضع كل الخلافات السياسية جانبا ورفع الشعارات المناسبة.

الحقيقة أن كل هذا ولحسن الحظ لم يحدث في الولايات المتحدة بعد تهديدات « النار والغضب « التي أطلقها الرئيس ترامب، وإلا كنا أمام حرب عالمية نووية محتومة. ما حدث كان عكس ذلك تماما. فور نشر تهديدات ترامب لكوريا الشمالية، خرج ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي للتأكيد على أن الدبلوماسية وليس الحرب مازالت الخيار الأمريكي الأساسي في التعامل مع التهديدات الكورية الشمالية، داعيا الأمريكيين إلى الاطمئنان والنوم جيدا، واستخدم جيم ماتيس وزير الدفاع لغة أخف حدة من لغة ترامب في الرسالة التي وجهها لكوريا الشمالية عندما قال إنها تغامر بنهاية نظامها الحاكم وتدمير شعبها إذا لم تتراجع عن تجاربها الصاروخية.

ورغم أن كوريا الشمالية لم تظهر أي بوادر مشجعة للتراجع بعد تهديدات ترامب، بل وردت بتهديد مماثل بتحويل الأراضي الأمريكية إلى مسرح حرب نووية شاملة، وعزمها الرد دون رحمة على أي استهداف أمريكي لترسانتها الصاروخية والنووية، فإن الإدارة الأمريكية بتركيبتها الحالية بدت منقسمة بين لغة التهديدات النارية للرئيس واللغة الدبلوماسية الهادئة لوزيري الخارجية والدفاع اللذين اتضح انهما لم يراجعا مسبقا كلمات ترامب. صحيح أن تيلرسون برر اللغة الحادة التي استخدمها ترامب بأنها اللغة التي يفهمها الرئيس الكوري الشمالي، ولكنه على خلاف رئيسه استبعد خيار الحرب، وقلل من شأن التهديدات، ودعا بيونج يانج إلى الدخول في مفاوضات حول برنامجها النووي. إلى جانب الانقسام الواضح في الإدارة الأمريكية الذي جعل من تهديدات ترامب لكوريا الشمالية مجرد حرب بالكلمات ليس إلا، فإن موقفا واضحا ومعارضا لشبح الحرب تبلور سريعا في الصحافة الأمريكية التي لم تقف مكتوفة اليد أمام كلمات الرئيس القوية وتسابقت في بيان خطورتها على الأمن الوطني. وهنا يبرز نموذجان، الأول من صحيفة «نيويورك تايمز« ويتمثل في الافتتاحية التي نشرتها في اليوم التالي لتهديدات ترامب ووقعتها باسم مجلس تحرير الصحيفة، وحملت عنوان «مخاوف من الصواريخ والكلمات». في هذه الافتتاحية حملت الصحيفة بحدة على الرئيس ووصفت تهديداته لكوريا الشمالية بأنها « غير مسؤولة وخطيرة»، ووجهت كلماتها الى الرئيس ترامب بقولها «إن عليه أن يفهم انه لم يعد رجل أعمال يحاول أن يجبر شخصا آخر على صفقة، بل هو القائد الأعلى لأقوى ترسانة نووية وعسكرية في العالم، وبالتالي فإن أي تقديرات خاطئة له ستكون كارثية». وفي نهاية المقال أكدت الصحيفة خطأ حسابات ترامب وقالت «إن العقوبات الأخيرة التي فرضها مجلس الأمن على كوريا الشمالية إلى جانب جهود الوزير تيلرسون المستمرة للتوصل إلى حل دبلوماسي، هي أفضل طريق لإنهاء هذا الصراع، وهو ما يجب على ترامب التركيز عليه بدلا من حرب الكلمات».

النموذج الثاني يتمثل في تقرير استقرائي نشرته « نيويورك تايمز» الخميس الماضي تساءلت فيه عن احتمال قيام الولايات المتحدة بهجمات استباقية على كوريا الشمالية، ومدى مشروعية هذه الهجمات كدفاع عن النفس. التقرير الذي أعده ريك جلادستون واستطلع فيه آراء عدد من الأساتذة والباحثين في القانون الدولي طرح وأجاب عن أسئلة مهمة. ويمكن القول إن التقرير إجمالا ينفي مسبقا الصفة القانونية الدولية عن أي تسرع قد يقوم به الرئيس ترامب بمهاجمة بيونج يانج، استنادا إلى أن التكييف القانوني للهجوم الاستباقي يتطلب تحقيق ثلاثة شروط أساسية، هي التأكد من أن الدولة الأخرى لديها القدرة على الهجوم، وأن سلوكها يؤكد أن الهجوم وشيك، وأنه ليس هناك طرق أخرى لتجنب ذلك. وفي حالة كوريا الشمالية فإن الشرط الأول المتمثل في قدرتها على المبادرة بالهجوم يبدو متحققا، ولكن الشرطين الآخرين يحيطهما الشك، خاصة وأن مسؤولين أمريكيين كبار أكدوا وجود حلول أخرى للصراع.

خلاصة القول إنه بصرف النظر عما يمكن أن تؤول إليه هذه الأزمة الدولية، فإن استمرار الجدل داخل الولايات المتحدة حول تهديدات ترامب تؤكد أننا أمام حالة فريدة في العالم يجب أن نتعلم منها، فها هو رئيس أكبر دولة في العالم لا يستطيع أن يتخذ قرار الحرب وحده، بل وتراقب كلماته وتصرفاته أجهزة الدولة، وتترصد أقواله وأفعاله صحافة قوية دون أن يتهمها أحد بإهانة الرئيس أو تهديد الأمن القومي.