أفكار وآراء

المصلحة الخاصة .. ليست خيارا خلقيا

13 أغسطس 2017
13 أغسطس 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يكثر الحديث دائما، وفي كل مناسبة، ومن غير مناسبة أحيانا،عن المصلحة الخاصة، وأثرها في تقويض العمل الجماعي، وأثرها كذلك في تشتيت القوى المتكاتفة، أو المتوافقة، أو المتعاضدة.

ويرى المنظرون أن المصلحة الخاصة تبقى حالة خارجة عن الاتفاق الجماعي، الذي تنبني عليه المصلحة العامة، حيث يتم الترويج دائما للمصلحة العامة، على اعتبار؛ أن «سيادية» المصلحة العامة هي المحدد الأسمى لرقي المجتمع، وعليها يمكن القياس على أن أفراد هذا المجتمع او ذاك؛ هم حقا أفراد مخلصون لمجتمعهم، متعاونون على خدمته، والذود عن مصالحه المختلفة، وهناك من المنظرين من يرى أن نمو المصلحة العامة في أي مجتمع مؤشر مهم لمستوى الوطنية، وهي الغاية الكبرى التي يحتكم من خلالها على حجم أهمية الوطن في نفوس أبنائه الكثر، وهناك قناعة دائمة، ولعلها صورة نمطية مترسخة في المجتمعات التقليدية على وجه الخصوص، على أن الوطنية لا تتحقق إلا من خلال وضوح الرؤية وأثرها على الواقع المعاش للمصلحة العامة، وبخلاف ذلك يوسم أفراد المجتمع على أنهم يحتاجون كثيرا من الجهد لتعزيز الوطنية، مع أن «الوطنية» في كثير من التنظيرات؛ تظل؛ كلمة، تقال هكذا لتمرير المصالح الذاتية في بعض المواقف والمناسبات، ولا تعبر - بالضرورة - عن حقيقة انتماء الأفراد لمفهوم الوطن، لأن ذات الأفراد في مواقف أخرى يسوقون هذه الكلمة ويفرغونها من مضمونها، وهم ألد أعداء الوطن، ويظهر ذلك عندما تتصادم مصالحهم الخاصة مع مصالح الوطن العليا، وهذه رؤية وحقيقة؛ لا تكلف فيها، ولا تجاوز في الفهم، وعليها يحتكم على ما يقوم به الأفراد من سلوكيات، ومن ممارسات في مختلف أوجه الحياة، ولصيانة هذه الثيمة «المصلحة العامة» تفرض الأنظمة الإدارية في بعض المؤسسات قسم اليمين لأي عامل جديد يلتحق بها كموظف، وذلك تحوطا أو عمل مصدات للأنفس عن الذهاب الى مصالحها الخاصة مع مرور الأيام، حيث قد تجرها فطرتها الى المصلحة الخاصة.

يظهر هذا الأمر لأن المصلحة العامة - مصلحة متبادلة - وإخفاق أي طرف يؤثر على الطرف الآخر، فكل جهد يبذله فلان من الناس في تعزيز المصلحة العامة، يكون له مقابل، أقله مقابل معنوي، إن لم يكن مقابلا ماديا صرفا، ولذلك لا يمكن الاقتناع بأن المصلحة العامة فوق كل اعتبار في حالة الاختيار، وفي حالة الاجبار، ولذلك عندما نعيش - وكثيرة هذه المواقف تحدث - إخفاق الغالبية في تحييد المصلحة العامة فذلك يكون انعكاسا لتجاذبات الذات عند كل الأطراف المشاركة في صنع المصلحة العامة في تلك اللحظة، وبالتالي فهذه المواقف التي نراها ليست خيارا خلقيا مكتسبا، يتحقق عند فلان من الناس، ولا يتحقق عند آخر، وإنما هي نداء فطري لا بد من تحقيقه، حيث المصلحة الخاصة أولا، ثم المصلحة العامة، والحقيقة يستوقفني النص القرآني الكريم في قوله تعالى: (رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) سورة نوح، حيث يجيء الترتيب في طلب الدعاء من الله عز وجل بغفران الذنوب لما يخص الداعي أولا، ثم يتسلسل الآخرون في تحقيق هذا الدعاء، بينما نعلم، وفق فهمنا المتواضع، أن والدينا أعز ما نقدر ونحترم من كل البشر، فهما سبب وجودنا في هذه الحياة، ومع ذلك يأتي التوجيه الرباني بطلب الدعاء لأنفسنا أولا، ومن ثم الآخرين وفق الترتيب الذي جاء في نص الآية الكريمة.

يرى آخرون أن الذاتية فطرة متأصلة في النفس البشرية، وليست مكتسبا خلقيا ينمو مع الأيام من خلال تجربة الحياة التي يعيشها الإنسان، والدليل حتى أن الطفل الصغير الذي للتو يبدأ فهم الحياة تجده يتكور على ألعابه الخاصة، ولا يرضى بأية حال من الأحوال أن يأتي طفل آخر ليأخذ لعبته، أو حتى ليلعب معه، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعدى ذلك الى أن يحاول هذا الطفل أن يأخذ ألعاب الأطفال الآخرين من حوله، عندما تتاح له فرصة ذلك، ولذلك كثير من الآباء والأمهات يحرجون، وهم يزورون أنسابهم، أو أصدقاءهم من أثر كثرة الصياح التي يقوم بها الطفل لأخذ ألعاب الطفل الآخر في البيت المزار، وقد يتدخل كلا الطرفين لحل هذا الإشكال الذي يقع في كثير من الأحيان، وينتهي بعدم تحقيق ما يذهب إليه هذا الطفل للاستحواذ على ألعاب الطفل الآخر، أو يكون هناك نوعا من التوافق بإعطائه شيئا يسيرا من ألعاب الطفل الآخر، فهذه فطرة، وتنمو هذه الفطرة مع مرور الأيام وتكبر لدى هذه النفس، حيث تذهب الى أبعد من ذلك، وهو الاستحواذ الى ما في أيدي الآخرين بغير حق؛ بالقوة أو بالرضا، في الجهر أو في الخفاء، بالقوة الفردية أو بالقوة الجماعية بالقانون الـ «مجير»، وقد يتخفى في مثل هذه الممارسات الكثير من السلوكيات المعوجة؛ كالتدليس، والكذب، والافتراءات، وخيانة الضمير، وسوء الخلق، والظلم، والاغتصاب، وبيع الذمم، وغيرها الكثير من الممارسات الخارجة عن الشرع والقانون.

يأتي ذلك لأن حياة الناس قائمة على مصالح متداخلة، وكما هو المثل: «شلني وشلك» وتنفرد المصلحة الخاصة أكثر عندما تجد المسالك مهيأة لأن تأخذ طريقها نحو الاستحواذ على ما بيدي الآخرين، أو الاستحواذ على ما هو متاح، بغض النظر أن يعود هذا المتاح الى ملكية خاصة لأفراد، او ملكية عامة لعموم المجتمع،كما هو الحال في الممتلكات التي تديرها الدولة عبر مؤسساتها المختلفة لعموم الشعب، ذلك أن المصلحة الذاتية تأخذ أولوية أحيانا للفرد، ولا يمكن التنازل عنها بأي حال من الأحوال، إلا في مقابل مصلحة سوف تتحقق بمنافع أكبر، ومن يعتقد بغير هذه النظرة، او بغير هذا الواقع، فهو يقينا؛ يناقض نفسه، أو لا يريد ان يعترف بالواقع في لحظة انفعال لا أكثر، وكثير من الأحداث التي نعيشها، والتي نراها من سلوكيات الناس، تنبئ عن هذه الصورة بنصاعتها المجردة، وهي صورة غير مخفية عن الجميع، وقد يقول قائل إن فلانا قام بمشروع كذا، او ساند كذا، وأقول لك نعم؛ ولكن ذلك لا يمكن الجزم على أن فلان لا يبتغي من ذلك مصلحة شخصية قادمة، لأن الفطرة البشرية هكذا سلوكها، وهكذا حقيقتها، ولا مراءة في ذلك، ولا تجاوز لمفهوم إنساني مطلقا.

يقول الدكتور علي الوردي في احد كتبه ما نصه: «إن الإنسان بوجه عام يحب مصلحته قبل أن يحب مصلحة الغير، فهو إذا رأى المصلحتين متناقضتين آثر طبعا مصلحته الخاصة، وأهمل المصلحة الأخرى، فالإنسان الفاسد هو كالصالح في ذلك، الفرق بينهما آت من كون أحدهما قد أتاحت له الظروف أن تكون مصلحته مطابقة للمصلحة العامة، فسعى في سبيلها وظن الناس انه يسعى في سبيلهم فقدروه وكافأوه فانتفعوا به مثل ما انتقع هو بهم، اما الفاسد المسكين فهو مكلف بعمل شاق. وهو يرجو استبداله أو التخفيف منه، فلا يسمع الناس رجاءه هذا فهو مضطر إذن أن يداجي ويماري، وأن يسرق ويعتدي، لكي يخفف من نفسه شيئا من العبء الذي فرضه عليه الناس.».

تحمل الأوطان الكثير من الأعباء والمعاني المتجاوز عن حقيقتها، ولذلك في نظر الكثيرين تخضع هذه الأوطان لأحكام قاسية، فيقال لك: «إن الأوطان التي لا توفر الحد الأدنى من المصالح الذاتية لمواطنيها لا تستحق ان تبذل لأجلها قطرة دم» وهذا القول ما يتطابق تطابقا كليا مع مفهوم المصلحة الخاصة، وما نشاهده من حراك اجتماعي نشط في كل مراحل الزمن، ومنذ أن بدأ الإنسان يبحث له عن ملاذات آمنة لحياته وحياة أسرته، ظل هذه الحراك مشروع إنساني يفعله الجميع بلا استثناء في مشارق الأرض ومغاربها، حيث الانتقال من هنا الى هناك، والعكس أيضا، فهؤلاء جميعهم لا يبحثون عن أوطان محددة ببقعة جغرافية محددة، تكون تستحق لأن يبذل لبقائها قطرة دم، ولكن يبحثون عن أوطان تحقق لهم مصالحهم الذاتية في لحظة ما من لحظات التاريخ الذي يعيشون، وهذا حق إنساني بلا منازع، وهو حق تقره البشرية منذ نشأتها الأولى، مع توالي الزمان، وتغير الظروف، وتبدل المفاهيم.