أفكار وآراء

الاختصاص القضائي الدولي في مجال علاقات العمل الفردية

12 أغسطس 2017
12 أغسطس 2017

د. بدر بن جمعه المسكري -

[email protected] -

علاقات العمل لها أهميتها وشأنها بين العلاقات القانونية الأخرى وذلك لعدة أسباب منها وجود علاقة قانونية بين طرفين غير متكافئين وهما رب العمل والعامل، إضافة إلى أهمية العمل في الحياة الاقتصادية كقوة محركة لعملية الإنتاج والاستثمار. وتبدو علاقة العمل أكثر تعقيداً إذا كانت جميع أو بعض عناصر العلاقة القانونية العقدية بين العامل ورب العمل خارج إطار حدود الدولة من حيث أشخاصها أوموضوعها أوسببها ومثال ذلك أن يكون تنفيذ التزام العقد في دولة تختلف عن موطن وجنسية أطراف العقد.

تنقسم علاقات العمل الدولية إلى قسمين هما علاقات العمل الفردية وعلاقات العمل الجماعية، وسنتناول في هذا المقال الموجز علاقات العمل الفردية فقط دون الجماعية نظراً لاختلاف طبيعة كل منهما، وهنا يلوح لنا التساؤل التالي: هل تطبيق مبدأ سلطان الإرادة أي حرية أطراف العقد في تحديد المحكمة المختصة يعد كافياً لتحديد ومعرفة المحكمة المختصة عند نشوء نزاع بين العامل ورب العمل؟ أو أن مبدأ سلطان الإرادة يحتاج إلى تقييد في علاقات العمل الفردية الدولية وذلك لوجود طرفين غير متكافئين وهما رب العمل والعامل؟ حيث إن رب العمل هو صاحب السلطة والقوة في وضع شروطه بينما العامل هو الطرف الضعيف في العلاقة والذي تملي عليه حاجته للعمل قبوله بأي شروط يفرضها عليه صاحب العمل.

قبل التطرق لمعالجة هذا الموضوع المهم يجب أن نضع فرضيات مختلفة لتحديد الآليات المناسبة التي تساعد على اختيار المحكمة المختصة، فنفترض أولا اتفاق العامل ورب العمل صراحةً على تحديد المحكمة المختصة بالنزاع، حيث يكون هذا الشرط مكتوبا صراحة في بنود العقد. في هذه الحالة سوف يكون هناك احتمالين، أولهما أن يكون اختيار المحكمة المختصة في مصلحة الطرف الضعيف العامل فهنا لا توجد أي إشكالية قانونية ويعتبر البند صحيحاً ومقبولاً لتوفيره حماية أكبر للعامل، ولكن المشكلة تظهر إذا كان اختيار المحكمة المختصة ليس في مصلحة العامل كأن تكون في موطن أو محل إقامة رب العمل، فهل يجب أن يتدخل المشرّع ويحمي الطرف الضعيف حتى يوازن بين العلاقة العقدية لاسيما وأن رب العمل في مركز قوة؟ أو أن يترك للمتعاقدين حرية الاختيار دون شرط أو قيد؟

ونطرح تساؤلا آخر وهو: هل يجب على المشرّع أن يحمي العامل باعتباره الطرف الضعيف إذا كان مدعياً أو مدعى عليه؟ أو أن تقتصر الحماية كما هو السائد في حالة كون العامل هو المدعى عليه فقط؟ وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن أكثر من 95% من النزاعات التي تنشأ من العلاقات العمالية في ألمانيا وأغلب دول العالم يكون فيها العامل هو المدعي وليس المدعى عليه فهل يجب أن يتدخل المقنن في هذه الحالة أيضا؟

الفرضية الأخرى التي يتناولها هذا المقال هي في حالة عدم تضمين العقد المحكمة المختصة بنظر النزاع، فهل يتم تطبيق القاعدة العامة وهي محكمة موطن المدعى عليه سواء أكان العامل مدعياً أو مدعى عليه، أو يجب أن يتدخل المشرع لتوفير الحماية القانونية للعامل باعتباره الطرف الضعيف؟ عند البحث عن إجابة لهذه التساؤلات في قانون الإجراءات المدنية والتجارية العماني نجد أن المشرع العماني في الفرضية الأولى عند الاتفاق صراحة على تحديد المحكمة المختصة وتم الاتفاق على أن المحكمة المختصة بنظر النزاع هي محاكم السلطنة، هنا تكون محاكم السلطنة هي المختصة بنظر النزاع حسب نص المادة (32) من قانون الإجراءات المدنية والتجارية والتي تنص على الآتي «تختص المحاكم العمانية بالفصل في الدعوى في غير الحالات المنصوص عليها في المواد السابقة إذا قبل المدعى عليه ولايتها صراحة أوضمنا». من خلال القراءة الحرفية لنص المادة السابقة يتضح أنه عند اتفاق الأطراف على أن تكون المحكمة المختصة بنظر النزاع هي المحكمة العمانية فهنا تطبق نصوص الاتفاق صراحة سواء كان هذا الاختيار لمصلحة العامل أو لم يكن في مصلحته وسواء أكان العامل مدعيا أو مدعى عليه، وهنا يتبين لنا أن المشرع العماني لم يضع حماية خاصة للعامل في علاقات العمل الفردية الدولية باعتباره الطرف الضعيف، وهذا ما قد يحمّل العامل مشقة السفر مما قد يكلفه أعباء مالية إضافية.

أما الفرضية الأخرى وهي حالة الاتفاق على نفي الاختصاص من القضاء العماني وجعل الاختصاص لمحكمة أجنبية أخرى فهنا لم يتناول المشرع العماني هذا الفرض الذي يمكن أن يقبل في الحالة التي يوفر فيها الحماية الأفضل للعامل .

يتضح للقارئ الكريم أن المشرع العماني لم يعالج هذا الأمر من منطلق توفير الحماية الضرورية للعامل باعتباره الطرف الضعيف وسد النقص التشريعي في هذه المسألة التي تعتبر من وجهة نظر فقهاء القانون الدولي الخاص من المسائل التي تستلزم التدخل الفوري من المشرع، وذلك لتوفير حماية أكبر للعامل خصوصاً أن رب العمل في مرتبة أقوى تمكنه من أن يفرض شروطه كأن يقرر القانون عدم صحة الاختيار إذا كان من شأنه أن يؤدي إلى حرمان العامل بطريقة تعسفية عن الحماية التي كانت ستوفرها له المحكمة التي ينعقد الاختصاص لها طبقا للقانون. على سبيل المثال تذهب بعض المحاكم في الولايات المتحدة إلى بطلان شرط اختيار المحكمة في الحالات التي قد يحرم فيها الطرف الضعيف من قاضيه الطبيعي.

عند التطرق للفرضية الأخرى وهي عدم اختيار المحكمة المختصة صراحة أو ضمنا نجد أن المشرع العماني في المادة (30) من قانون الإجراءات المدنية والتجارية والتي تنص على الآتي «تختص المحاكم العمانية بنظر الدعوى التي ترفع على العماني الذي ليس له موطن أو محل إقامة في السلطنة (ب) إذا كانت الدعوى متعلقة بمال موجود في السلطنة أو كانت متعلقة بالتزام نشأ أو نفذ أو كان واجب تنفيذه فيها أو كانت متعلقة بإفلاس أشهر فيها».

ومن هنا نجد أن المشرع العماني أعطى للمحاكم العمانية الاختصاص بالنظر في النزاع المرفوع على العماني الذي ليس له موطن أو محل إقامة في عمان و إذا كان محل التزام العقد أو تنفيذه في عمان، كما أنه لا توجد حماية للعامل سواء كان مدعيا أو مدعى عليه فقد يكون مكان إبرام العقد في عمان ولكن تنفيذ العمل في دولة أخرى ورب العمل له موطن أو محل إقامة في عمان، وهنا قد تكون المحاكم العمانية غير قادرة على توفير الحماية المطلوبة للعامل بحيث تكلفه عبء السفر وقد يكون من الصعب عليه الدفاع عن نفسه .

مما تقدم ذكره يمكن القول إن قانون الإجراءات المدنية العماني يحتاج الى مواكبة التطور المعاصر فيما يتصل بتوفير الحماية للعامل، باعتباره الطرف الضعيف في العلاقات ذات الطابع الدولي، ومن هنا تتضح أهمية إجراء بعض التعديلات القانونية التي توفر حماية أكبر للعامل لتحقق التوازن المنشود في العلاقة العقدية. وفي حالة الاتفاق بين أطراف العقد على تحديد المحكمة المختصة يكون الاتفاق صحيحا إذا كان يوفر حماية أكبر للعامل فقط، وفي حالة عدم الاختيار الصريح أو الضمني للمحكمة المختصة فقد يكون من الأنسب أن يفرق بين أمرين: إذا كان العامل هو المدعي فمن المقترح منح العامل الخيار بين رفع الدعوى لدى محاكم الدولة التي يتوطن بها العامل أو محاكم الدولة التي يتوطن بها المدعى عليه أو المحكمة الأكثر ارتباطا وصلة بالنزاع . في الفرض الثاني إذا كان العامل مدعى عليه فلا يجوز أن ترفع عليه دعوى من قبل رب العمل إلا أمام محاكم الدولة التي يكون للعامل بها موطن أو محل إقامة.و يمكن كذلك في خصوص علاقات العمل الفردية كوسيلة لعلاج هذا الجانب التشريعي أن يكون حماية الطرف الضعيف في العقد وهو العامل إحدى حالات الاختصاص القاصر التي يقتصر فيها الاختصاص بنظر النزاع على محاكم الدولة التي يكون اختصاصها محققا للحماية القصوى للعامل بحيث يعد اتفاق الأطراف على غير ذلك باطلا. وإلى أن يتحقق ذلك عمليا، يقع العبء على القضاء للقيام بدوره الإبداعي والفعال للحاق بتطور القانون المقارن بشكل او بآخر .