أفكار وآراء

غسان سلامة.. وساطة تحيطها تحديات ليبية كبرى

12 أغسطس 2017
12 أغسطس 2017

د. عبد العاطي محمد -

منذ فبراير 2011 أرسلت الأمم المتحدة خمسة مبعوثين خاصين للأمين العام إلى ليبيا في محاولات مستميتة من المنظمة الدولية لفك شفرة لغز الأزمة الليبية وصولا إلى حل مرضٍ لكل الأطراف. ومع بداية أغسطس 2017 أرسلت المبعوث السادس السياسي والمفكر اللبناني غسان سلامة لعله ينجح فيما فشل فيه سابقوه.

لم يقصر سابقوه في شيء، ولم تنقصهم الكفاءة والخبرة فجميعهم كانت لديهم سيرهم الذاتية وإن كان بدرجات مختلفة، التي كان من المفترض أن تمكنهم من تحقيق اختراق إيجابي في أزمة بالغة التعقيد مثل الأزمة الليبية. ولكن معظمهم قضى بضعة شهور أو عامين ورحل إما مكرها أو يائسا من المهمة الشاقة. ومن تمكن من إحراز بعض النجاح مثل برنارد ليون ومارتن كوبلر (التوصل إلى اتفاق الصخيرات) لم يكمل المهمة، لأنهم جميعا اصطدموا بعمق الخلافات بين الأطراف الليبية المعنية. واليوم تخوض الأمم المتحدة آخر تجاربها مع أزمة من هذا النوع على أمل أن يكتشف المبعوث الجديد موضع الداء ويقدم الدواء الشافي متسلحا بسيرته الذاتية كشخصية عربية خبيرة بنزاعات المنطقة وثقافاتها وإيجاد الحلول لنجاح الحوار الفكري أولا بين كل الأطراف باعتباره مفتاحا لحل بقية المشاكل.

في البداية كان هناك عبد الإله الخطيب وهو سياسي أردني سابق وتم تكليفه من جانب الأمين العام السابق للمنظمة الدولية بان كي مون عقب ثورة فبراير 2011، ولكن لم يستمر طويلا حيث انتهت مهمته قبل مصرع القذافي. وتلاه في سبتمبر 2011 إيا مارتن وهو دبلوماسي بريطاني له خبرة في مجال حقوق الإنسان، ولم يستمر لأقل من عام ليخلفه طارق متري سياسي وأكاديمي ووزير إعلام لبناني سابق في أغسطس 2012 واستمرت ولايته لنحو سنتين وتوقفت مهمته لاندلاع الحرب بين الليبيين، إلى أن جاء برناردينو ليون وهو دبلوماسي أسباني واستمر من أغسطس 2014 حتى نوفمبر 2015 ونجح في تحقيق اتفاق الصخيرات الشهير الذي لا يزال الانجاز الوحيد في حل الأزمة، ولكن الأطراف الليبية لم تفعل هذا الاتفاق، فغادر ليون لينقل مهمة التطبيق إلى الدبلوماسي الألماني مارتن كوبلر الذي واصل جهوده منذ نوفمبر 2015 حتى يونيو 2017 دون أن ينجح في مهمته هذه.

كل هؤلاء لم تنقصهم الكفاءة في الحقيقة لأنهم أصحاب خبرات في تجارب سابقة.

إلا أن هؤلاء الخمسة وعلى مدى خمس سنوات لم ينجحوا في مهامهم لأسباب باتت معروفة للجميع لأنها كانت تتردد من اللحظات الأولى على ألسنة الأطراف الليبية ذاتها. ولم يكن ذلك راجعا إلى هؤلاء الأشخاص لذواتهم خصوصا أن الاختيار كان يتم بناء على سير ذاتية وبموافقة من مجلس الأمن، وإنما إلى طبيعة الأزمة الليبية المتعددة الأبعاد داخليا (أي على المستوى الوطني) أو إقليميا ودوليا، مما كان يجعل أي خريطة طريق يتم التوصل إليها رهن إرادة أطراف شتى يصعب التوفيق بين تقديراتها ومواقفها وشروطها أيضا.

لقد كان القاسم المشترك في كل العقبات التي واجهت حل الأزمة في مرحلة ما قبل تولي غسان سلامة المهمة، هو الحساسية الشديدة من جانب فريق كبير من القوى النافذة الليبية مما يسمى بالتدخل الأجنبي حتى لو كان تحت عباءة الأمم المتحدة. فعلى مدى السنوات الماضية لم تكف هذه القوى عن التعبير عن عدم الثقة في أي وسيط دولي تعينه الأمم المتحدة لا لشيء سوى لعمق الهواجس الوطنية الليبية مما تعتبره تدخلا أجنبيا، وضمن هذه الهواجس اتهامات ضمنية ومستترة لهذا الوسيط أو ذاك بأنه منحاز لقوة أو جماعة ليبية ضد أخرى. وظل ديدن غالبية القوى الليبية هو دعوا الشأن الليبي لليبيين وحدهم. ومع أن هذا نفسه هو الشعار الذي عمل جميع الوسطاء تحت ظله، وتركزت كل جهودهم في توفير المناخ والظروف السياسية التي تساعد الليبيين على أن يصلوا إلى الحل بإرادتهم وتوافقهم، رغم ذلك لم تتبدل حالة فقدان الثقة في الوساطات الدولية من جانب غالبية القوى النافذة الليبية. ومع أن هؤلاء الوسطاء السابقين كان من بينهم شخصيات عربية وليس كلهم أجانب حرصا من الأمم المتحدة على اختيار شخصيات قريبة من الذهن والثقافة السياسية العربية عملا على تسهيل مهمة الوسيط، إلا أن هذا بدوره لم يشفع للشخصيات العربية عند الفرقاء الليبيين!

«غسان سلامة» المبعوث الأممي الجديد لديه فرص أفضل ممن سبقوه، ولكن أمامه تحديات أكبر مما واجهتهم، ثم فإن مهمته لها طابع خاص مختلف عما كان قائما السنوات الماضية، وفي نفس الوقت تظل على المحك دائما على الأقل في المستقبل القريب، بمعنى أنها تحتاج شروطا للنجاح لا تبدو متوفرة في ظل الوضع الراهن ولكن لديه فرصة، هو والأمم المتحدة، لتحقيق انفراجة في الأزمة، ويتوقف نجاحه في استغلال الفرصة على قدراته الذاتية من جهة والتعاون الجاد معه من جانب كل الأطراف الليبية ، وكذلك كل الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة. هي الفرصة الأخيرة للأمم المتحدة لاستعادة دورها الإيجابي في إنهاء أزمة تحولت بفعل الفشل المتكرر إلى محنة أو كارثة سياسية.

الرجل - غسان سلامة - على صعيد الفرص له مكانة سياسية وفكرية وأدبية على الصعيد العربي لا ينكرها أحد، فهو من أبرز الشخصيات العربية التي صنعت لنفسها مكانة مرموقة دوليا وتقديرا عاليا لها في أوساط النخب الفكرية العربية خصوصا أنه بنى تاريخه على أن يكون مستقلا في رؤاه ومواقفه عن النظم الحاكمة، وقد مكنه ذلك من بناء علاقات قوية وطيبة وموضع ثقة على الصعيدين العربي والدولي. هو سياسي لبناني موضع تقدير في محيطه الوطني والاكاديمي في معاهد ومراكز لصنع القرار في أوروبا والولايات المتحدة وعضو في كثير من المنظمات العالمية غير الحكومية، وكان من بين المرشحين لرئاسة اليونسكو قبل أن يسحب ترشيحه. وله خبرات في مهام الأمم المتحدة حيث كان مستشارا سياسيا لبعثة الأمم المتحدة في العراق عام 2003 وساهم في إنشاء مجلس الحكم الانتقالي هناك آنذاك. وقد تم اختياره بموافقة مجلس الأمن بعد أن اعترض من قبل على ترشيح سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني السابق. وعموما لديه دراية كافية بملفات المنطقة. ولا شك أن خلفيته الثقافية يمكن أن تساعده في كسب ثقة الليبيين المولعين بالمثقفين وبالحوارات الفكرية!، فضلا عن علاقاته المتشعبة والقوية بالنخب الفكرية ليس في ليبيا وحدها، بل في الدول الإقليمية المؤثرة .

عقدة عدم الثقة في الوسطاء الأجانب ربما لا تكون حاضرة بين الليبيين في حالة غسان سلامة، بل الأرجح الانفتاح المتبادل هو الذي سيسود العلاقة. يضاف إلى ذلك أن «سلامة» يحظى بدعم أوروبي بحكم علاقاته القوية مع فرنسا. وكان قد حضر اللقاء الذي تم بترتيب من الرئيس الفرنسي ماكرون وجمع بين «حفتر» و«السراج» ، في محاولة فرنسية لترتيب البيت الليبي بعد كل ما جرى من عدم استقرار طوال السنوات الخمس الماضية، ولتفعيل خريطة طريق ديمقراطية لحل الأزمة بناء على اتفاق الصخيرات.

وأما على صعيد التحديات فهي لا تقل صعوبة وقوة عما واجهه سابقوه. فالرجل جاء وأمامه تجارب عديدة من الفشل، مما يفرض عليه أن يأتي بأداء مختلف من خارج الصندوق وتلك مهمة عسيرة وسط مشاعر لا يستطيع الفكاك منها تدور حول إمكانية أن يلقى نفس مصير من سبقوه، وحتى يتجنب ذلك سيلجأ إلى الحذر الشديد وبناء علاقات مع كل الأطراف برغم ما بينها من خلافات عميقة. ولأهمية هذا الاعتبار (استعادة الثقة) حرص سلامة في بداية مهمته على التأكيد على أنه يقف إلى جانب كل الأطراف الليبية بهدف العمل الجماعي، على أن تكون الفترة المقبلة فترة استتباب المؤسسات المستقلة والفاعلة والعامة في ليبيا المستقلة الموحدة. إلا أن هذا يبدو تحديا افتراضيا محتملا مع الإقرار بإمكانية حدوثه، ولكن الأهم هو تفعيل خريطة الطريق التي تم الاتفاق عليها في باريس وتعني إجراء الانتخابات العامة ، رئاسية وبرلمانية ، في الربيع القادم وتحقيق الاستفتاء على الدستور. والتحدي هنا لا يقف عند صعوبة تحقيق التوافق حول تنفيذ هذه الخريطة نتيجة الفجوة الواسعة بين الأطراف الليبية، وإنما أن خريطة كهذه تفترض مسبقا تحقيق الأمن والاستقرار أولا ، وإلا عاد التشكيك في النتائج أو بالأحرى العودة إلى نقطة الصفر. وضمن الترتيبات المسبقة هناك تحدي إعادة مؤسسات الأمم المتحدة إلى ليبيا بعد أن كانت قد رحلت عام 2014 وذلك لتوفير المساعدات من ناحية ، والإشراف على تنفيذ خريطة الطريق من ناحية أخرى . وكلها مشاكل لا يجب الاستهانة بها مهما كانت قوة الفرص المتاحة للمبعوث الجديد.