أفكار وآراء

الخيارات الأمريكية «المحدودة».. في مواجهة « بيونج يانج»

12 أغسطس 2017
12 أغسطس 2017

عماد عريان/ كاتب ومحلل سياسي -

قرار واشنطن بحظر سفر المواطنين الأمريكيين إلى كوريا الشمالية لأسباب بعضها ظاهر ومعلن، وبعضها الآخر ضامر وخفي هو أحدث حلقة من حلقات مسلسل التوتر المتصاعد بين واشنطن وبيونج يانج، وليس خافيا أنه انعكاس لأزمة عميقة تصحبها أزمات متتالية على مدى زمني مستمر منذ أكثر من ستة عقود، إلا أنه أخذ في الأشهر والأسابيع الأخيرة أشكالا مغايرة من شأنها تغيير المعادلة الاستراتيجية في إدارة الصراع ليس على الصعيد الآسيوي فحسب ولكن على المستوى العالمي بأكمله، وأبرز تلك التغيرات والتطورات ظاهرة خطيرة يمكن وصفها بتعبير «اللعب بالصواريخ البالستية» التي تجعل من دولتين نوويتين - صاروخيتين في مواجهة مخاطر تدمير مباشر، محتمل وإن كان مستبعدا بشدة!

ويرتبط بذلك ارتباطا وثيقا ما أعلن عنه مسؤولون أمريكيون عن نجاح بلادهم في تجربة إطلاق صاروخ باليستي غير مسلح عابر للقارات فجر الخميس الماضي بعد مرور أيام قليلة على إجراء كوريا الشمالية تجربتها الخاصة المماثلة والتي مثلت نقلة نوعية كبيرة في هذا الشأن، وأكدت قيادة الضربات العالمية في سلاح الجو الأمريكي أن الهدف من برنامج تجارب إطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات هو التحقق من تأثير وجاهزية ودقة نظم الأسلحة وتطويرها، فبرغم مرور عقود على انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي فإن الولايات المتحدة لاتزال تنشر مئات من صواريخ «مينيوتمان 3» في مراكز تخزين في أنحاء الريف الأمريكي،والتي يبدو أنها تراجعت نسبيا أمام انشغال الرأي العام الأمريكي بالتهديد الذي يشكله خطر الإرهاب، وتشير تقارير أمريكية الى أنه على مدى العشرين سنة المقبلة سيقوم سلاح الجو بتبديل ترسانته من هذه الصواريخ بأخرى جديدة معروفة حاليا باسم «جي بي إس دي» أو الردع الاستراتيجي الأرضي.

وهي برامج لها أهمية استراتيجية على ما يبدو بعدما أثار التقدم السريع لبرنامج كوريا الشمالية الصاروخي وتطوره قلق المجتمع الدولي خاصة وقد أشرف زعيمها «كيم جونج أون» بنفسه على تجربتين لصواريخ عابرة للقارات، وأظهرت التجربة الأولى احتمال امتلاك الصاروخ القدرة للوصول إلى ولاية ألاسكا، لكن في التجربة الثانية الأسبوع الماضي حلق الصاروخ مسافة أبعد،حيث تردد أن بمقدوره أن يصل بحسب خبراء إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة، ولاشك في أن هذه التطورات الميدانية لها أهمية خاصة إذا ما وضعناها ضمن التطورات الأخيرة الساخنة والملتهبة على ساحة شبه الجزيرة الكورية، وعلى رأسها بالقطع نجاح بيونج يانج في إطلاق صاروخها الباليستي العابر للقارات والمتمتع بقدرات نووية من غواصة بحرية، وهو ما أكدته مصادر دولية عديدة محايدة دون أن تنفي الولايات المتحدة نجاح التجربة، بل سارعت إلى إدانتها واتخاذ مجموعة من الإجراءات العسكرية غير المؤئرة كثيرا على إدارة الصراع الراهن كتحليق قاذفات عسكرية أمريكية في سماء شبه الجزيرة الكورية ونصب المزيد من منصات منظومة « ثاد » المضادة للصواريخ كنوع من الضغوط أو التهديدات الصريحة.

ولعل التطور الأهم وربما الأخطر كذلك في هذا المقام هو تصريح الرئيس الكوري الشمالي وتأكيده على أنه أصبح في مقدور الصواريخ الكورية الشمالية الجديدة الوصول إلى كل الأراضي الأمريكية وإصابة إهدافها بدقة، أكد ذلك الرئيس الكوري الشمالي بلغة مفعمة بالتحدي والثقة معا في تصعيد واضح لخطابه المناهض لواشنطن منذ توليه السلطة في بلاده والذي لم يخل في مرات عديدة من لهجة ساخرة استفزازية واضحة للولايات المتحدة، وهو تطور إذا ما تأكدت صحته بالفعل فانه سيؤدي إلى خلق واقع استراتيجي جديد، ليس على الصعيد الكوري فحسب ولكن على المستوى العالمي ككل مثلما سبق الذكر.

فالمشهد الراهن - بغض النظر عن حجم الرفض الدولي والإدانة العالمية للخطوات والتصرفات الكورية الشمالية - يعني أن هناك أمرا واقعا جديدا يفرض نفسه على أرضية الميدان بانضمام دولة أخرى تعتبرها واشنطن ودول الغرب « دولة مارقة » إلى النادي الدولي النووي المقصورة عضويته على عدد محدود جدا من دول العالم، وهي كوريا الشمالية بالقطع التي لم تتأثر بأي عقوبات دولية أو غربية في سعيها لبناء قدراتها النووية والصاروخية تحت سمع وبصر قوى إقليمية أخرى لا يبدو أنها تستاء من مثل هذه التطورات، والحديث هنا تحديدا عن الصين وروسيا حيث لا يذهب رد فعلهما عادة إلى أبعد من الإدانة والمطالبة في الوقت ذاته بضرورة ضبط النفس، بينما البرامج الكورية الشمالية ماضية إلى أهدافها بلا لاجم لها.

هذه الحقائق الاستراتيجية الجديدة على أرض الواقع تؤكد في الغالب أن التدخل العسكري الأمريكي لإجهاض المشروع النووي - الصاروخي لكوريا الشمالية لم يعد ممكنا بأي شكل من الأشكال لخطورة الموقف ، وكذلك للمنظومة الأمنية الإقليمية التي لا تحبذ قطعا مثل هذه الخطوات التصعيدية ، مع تحفظها الظاهر بكل تأكيد على أي تصعيد يتجاوز الخطوط الحمراء من جانب بيونج يانج، بل إن هناك إشارات عديدة تؤكد أن الولايات المتحدة قد أضاعت بالفعل في السابق وفي مراحل زمنية معينة كل الفرص التي كانت تستطيع خلالها وقف هذا البرنامج في مراحل مبكرة وسط ظروف دولية وإقليمية كانت تتيح مثل هذا التصرف في حينه فهل هذا يعني أن واشنطن سوف توقف محاولاتها وضغوطها على حكومة بيونج يانج لوقف برامجها النووية - الصاروخية ؟

الواقع أن واشنطن تتحدث دوما عن وضع كل الخيارات المحتملة على الطاولة للتصدي للبرنامج النووي - الصاروخي لكوريا الشمالية بما في ذلك الخيار العسكري، وربما تنطلق في ذلك من حسابات توازن القوى التي تمنحها بالقطع تفوقا هائلا في مواجهة بيونج يانج، ولكن في مواجهة ذلك هناك مؤشرات على أن الخيارات المتاحة حاليا أمام واشنطن في مواجهة بيونج يانج باتت محدودة ، ولم يعد بين خياراتها اللجوء للعمل العسكري في ضوء عوامل استراتيجية ، من بينها على سبيل المثال ، الغموض المحيط بالقدرات النووية الكورية الشمالية ، والمدى الفعلي الذي يمكن أن تصل إليه صواريخها البالستية، بما يعني أن هذا الغموض في حد ذاته قد يشكل عامل ردع لأي عمل عسكري مهما كان حجمه، فضلا عن الموقف الإقليمي الرافض بالتأكيد لأي تصعيد عسكري في المنطقة، حتى من جانب الدول الرافضة لسياسات بيونج يانج مثل اليابان وكوريا الجنوبية التي لا ترغب بالقطع في تحويل المنطقة إلى قطعة من الجحيم.

تبقى الخيارات المؤكدة والأوراق الظاهرة في يد الإدارة الأمريكية متمثلة في العمل الدبلوماسي والاتصالات المكثفة ومزيد من الضغوط على القوى الإقليمية الكبرى في الشرق الآسيوي وصولا إلى ترتيبات أمنية تلبي الحدود الدنيا لواشنطن وحلفائها في المنطقة، وكذلك مزيد من الضعوط والعقوبات من خلال مجلس الأمن الدولي أو تكتل الدول الغربية لزيادة عزلة بيونج يانج واضعاف قدراتها الإقتصادية، والأهم توصيل رسائل واضحة بعدم قبول المجتمع الدولي للجموح الكوري الشمالي، وبرغم ذلك فإن هذه العقوبات والضغوط لن تؤتي ثمارها في الغالب ولن تحقق النتائج المرجوة من جانب واشنطن، لأن فشلها في الماضي يؤكد فشلها حاضرا ومستقبلا، ليتبقى بذلك خيار آخر ثبتت فعاليته مع الحالة «السوفييتية»، ويتمثل في العمل المخابراتي الدؤوب بمختلف السبل داخل كوريا الشمالية.

ليس لتفكيك برامجها النووية ولكن لتفكيك الدولة ذاتها وإسقاط نظامها، فقد نجحت واشنطن ورفاقها في الفوز بالحرب الباردة من قبل بدون إطلاق رصاصة واحدة ، ولكن بإسقاط المعسكر الاشتراكي بأكمله من خلال تفكيكه من الداخل، وأغلب الظن أن هذا هو النهج الذي ستحاول واشنطن من خلاله اسقاط الدولة الكورية الشمالية ذاتها متى استطاعت إلى ذلك سبيلا، خاصة وأن مثل هذه المخططات نجحت في سنوات الثمانينات من القرن الماضي في إثارة الكثير من الاضطرابات داخل الجمهوريات السوفييتية وانفصالها، بداية من حركة «تضامن» العمالية البولندية وتفتيت دول المعسكر الشيوعي إلى دويلات وصولا إلى سقوط حائط برلين وتوحيد شطري ألمانيا، فهل ينجح المعسكر الغربي مجددا في توحيد شطري كوريا هذه المرة عبر هذه الوسائل التي قد تبدو « سلمية ». ؟