1080648
1080648
المنوعات

تأملات في الحياة والموت على قبر محمود درويش

10 أغسطس 2017
10 أغسطس 2017

جون بيرجر - ترجمة : أحمد شافعي -

لم يكن قد مضى غير أيام قليلة على رجوعنا مما كنا نحسبه - حتى وقت قريب - دولة فلسطين القادمة، ذلك المكان الذي بات معروفًا الآن كأكبر سجن في العالم (أعني غزة) وأكبر غرفة انتظار في العالم (أعني الضفة الغربية)، حين رأيت حلمًا، كنت وحدي، واقفًا، عاري الجذع، في صحراء صخرية، إلى أن جاء أخيرا من اغترف بيده حفنة رمل من الأرض ورمى بها على صدري. بمحبة لا بعدوان، وتحوّل الرمل قبل أن يمسَّني إلى مزق من قماش، قطنيٍّ ربما، ومضى يلتفّ بنفسه حول جذعي. ثم عادت القصاصات فتحولت مرة أخرى إلى كلمات، وعبارات، لم أكن أنا كاتبها بل المكان، وإذ أتذكر ذلك الحلم، عاودتني كلمة مخترعة هي لاندسويبت، وظلت تعاودني. واللاندسويبت تصف مكانًا أو أماكن كل ما فيها، من ملموس أو غير ملموس، ينزاح، يتنحَّى، يماط، يزال، فلا يبقى فيه من شيء عدا الأرض المحسوسة.

في ضواحي رام الله الغربية تلٌّ صغير يعرف بـالربوة، يقع عند نهاية شارع طوكيو، على مقربة من قمة ذلك التل دفن محمود درويش، وليس المكان مقبرة عامة.

سمِّي الشارع بطوكيو لأنه يفضي إلى المركز الثقافي في المدينة الذي أقيم عند أسفل التل بتمويل ياباني.

في ذلك المركز ألقى محمود درويش بعض قصائده للمرة الأخيرة، وإن لم يتصوَّر أحد في ذلك لحين أنها المرة الأخيرة. وأي معنى لكلمة الأخيرة في لحظات الحزن؟

مضينا لزيارة المقبرة، ثمة شاهدة، لا تزال الأرض المحفورة هناك جرداء، وقد ترك الكثيرون هناك حزم سنابل قمح خضراء، مثلما طلب في إحدى قصائده، هناك أيضًا زهور حمراء من شقائق النعمان، وقصاصات ورق، وصور فوتوغرافية.

كانت رغبته أن يدفن في الجليل حيثما ولد وحيثما عاشت أمه، لكن السلطات الإسرائيلية منعت ذلك.

*

في الجنازة احتشد عشرات الآلاف من الناس هنا، هنا في الربوة. ويومها خطبت فيهم أمه، وعمرها إذ ذاك ستة وتسعون عاما، فقالت «هو ابنكم جميعا».

أين بالضبط نكون إذ نتكلم عن أحباب ماتوا لتوِّهم أو قتلوا؟ تبدو لنا الكلمات وكأنها تتردَّد في اللحظة الحاضرة، الحاضرة حضورا لم نعهده في ما نعيشه عادة من لحظات، لحظة تضاهي لحظات ممارسة الحب، أو مواجهة الخطر المحدق، أو اتخاذ قرار لا رجعة فيه، أو رقص التانجو. لا تكون ساحة الخلود هي التي تتردَّد فيها كلمات حزننا، بل ربما في رواق صغير ما من تلك الساحة.

*

حاولت في ذلك التل، الذي بات مهجورًا الآن، أن استحضر صوت درويش. كان في صوته وداعة مربي نحل:

علبة حجرية

يتحرك الأحياء والأموات في صلصالها كخلية النحل السجين

ويضربون عن الزهور

ويسألون البحر عن باب الطوارئ

كلما اشتد الحصار

مستحضرا صوته، شعرت بحاجة إلى الجلوس على الأرض المحسوسة، على العشب الأخضر. وكذلك فعلت.

الربوة بالعربية معناها «التل المكسو بالعشب الأخضر». هكذا رجعت كلماته إلى الموضع الذي جاءت منه. ولا شيء، لا شيء يشترك فيه خمسة ملايين إنسان.

التل المجاور، على بعد 500 متر، مقلب قمامة، تحيط به الغربان. وفيه أطفال ينقبون عن طعام.

حينما جلست على العشب، بجوار مقبرته الحديثة، حدث حادث غير متوقع، ولكي أصفه، عليَّ أن أصف حدثا آخر.

*

حدث هذا قبل أيام قليلة، كان ابني إيفز يسوق بنا في الطريق إلى بلدة كلوسيس الصغيرة في جبال الألب الفرنسية، بينما يتساقط الثلج، فكانت سفوح التلال والحقول والأشجار بيضاء، وبياض الجليد في بداياته غالبا ما يضلل الطيور، ويشوِّش إحساسها بالمسافة والاتجاه.

فجأة اصطدم طائر بزجاج الشباك. رآه إيفز في المرآة الخلفية يسقط على جانب الطريق، أوقف السيارة ورجع بها، كان طائرا صغيرا، أبا حناء، مصدوم لكنه لا يزال حيا، جافل العينين، تناولته من وسط الجليد، وشعرت بدفئه في يدي، دفئه الشديد، بينما استأنفنا الحركة.

كنت بين الحين والآخر أنظر إليه، في غضون نصف ساعة مات، رفعته لأضعه في مقعد السيارة الخلفي، نعم، كان ذكرا، ما أدهشني هو ثقله، كان أخف من وزنه حينما رفعته من الجليد، مضيت أنقِّله بين يدي متحققا من ذلك. بدا وكأن طاقة حياته، طاقة نضاله كي يبقى حيا، بدا أنها كانت تضيف إلى ثقله، ثم بات تقريبا بلا ثقل.

بعدما جلست على عشب تل الربوة حدث ما يضاهي ذلك، فقدت وفاة محمود ثقلها. ما بقي هو كلماته.

*

مرَّت شهور، كل شهر منها مليء بالهواجس والصمت، كوارث تفيض إلى دلتا لا تحمل اسما، ولن يمنحها اسما إلا الجغرافيون، ممن يأتون في آتي الزمن، آتيه البعيد، وليس لنا اليوم إلا المشي على المياه المريرة في هذه الدلتا المجهولة.

*

غزة، أكبر سجن في العالم، تتحول إلى مجزرة، كلمة قطاع (من قطاع غزة) مبللة بالدم، مثلما حدث قبل خمسة وستين عامًا لكلمة جيتو، قنبل في الليل والنهار، وشظايا، وأسلحة فسفورية، وقذائف، ورشاشات يطلق الجيش الإسرائيلي رصاصها من الجو والبحر والبر على مليون ونصف المليون من المدنيين، تقديرات أعداد المشوَّهين والموتى تتصاعد مع كل تقرير إخباري من الصحفيين الدوليين الذين تمنعهم إسرائيل جميعًا من دخول القطاع، الرقم الوحيد الثابت هو أنه في مقابل كل قتيل إسرائيلي مائة قتيل فلسطيني نصفهم تقريبًا من النساء والأطفال، هذا ما يرقى إلى مجزرة، أغلب المنازل لا تصل إليها المياه والكهرباء، والمستشفيات ينقصها الأطباء، والأدوية، ومولِّدات الكهرباء، مجزرة تعقب الغلق والحصار.

بعض الأصوات في العالم تجهر بالاعتراض، لكن حكومات الأثرياء، بإعلامها العالمي، وفخرها بحيازة الأسلحة النووية، تطمئن إسرائيل أنها لن تنظر إلى كل ما يقترفها جنودها إلا بعين عمياء.

*

«مكان دامع العينين يلج منامك» هكذا تكتب الشاعرة الكردية بيجان مطر «مكان دامع العينين يلج منامك ثم لا يرحل».

لا شيء إلا الأرض، إلا اللاندسويبت.

*

رجعت، قبل أربعة أشهر في رام الله، إلى موقف سيارات مهجورة تحت الأرض، اتخذت منه مجموعة صغيرة من الرسامين والنحاتين الفلسطينيين مكانا للعمل، وبينهم نحاتة تدعى رندا مداح، أنظر إلى عمل مركَّب لها بعنوان مسرح العرائس.

يتألف من جدارية ضخمة قياسها ثلاثة أمتار في مترين، تنتصب كأنها جدار حقيقي، أمامها على الأرض ثلاثة أشكال نحتية مكتملة.

جدارية الأكتاف والوجوه والرؤوس مصنوعة من الأسلاك والبوليستر والفايبرجلاس والصلصال، سطحها ملون بدرجات داكنة من الأخضر والبني والأحمر، عمق الجداري يقارب عمق أحد أبواب [لورينزو] جيبرتي البرونزية في عمله المعروف بـ Duomo in Firenze، وقد عولجت مناظير القصور والتشوه بمثل براعته، (ما كنت لأتصور مطلقا أن تكون الفنانة صغيرة إلى حد أن تكون في السادسة والعشرين). الجدارية بازدحامها وألوانها الطقوسية أشبه ما تكون بجمهور المسرح حينما يرى من الخشبة.

على الأرض في مقابل الجدارية تماثيل بالحجم الطبيعي لامرأتين ورجل، مصنوعة ثلاثتها من الخامات نفسها لكن ألوانها أكثر شحوبًا.

أحدها على مسافة مؤثرة من الجمهور، وأحد التمثالين الآخرين على مسافة مترين والثاني على مسافة مضاعفة، ثلاثتهم في ملابس يومية عادية، هي التي اختاروها ليومهم في بداية الصباح.

أجساد التماثيل موصولة بخيوط معلقة في ثلاثة قضبان عرضية معلقة بدورها في السقف، هي العرائس، تتحكم فيها القضبان في يد محرك العرائس الغائب أو الخفي.

حشد الأشخاص في الجدارية ينظرون جميعًا إلى ما يرون أمام أعينهم معتصرين أيديهم، وأيديهم أشبه بأسراب الدجاج.

وهم يعتصرونها؛ لأنه لا حيلة لهم، ولا قدرة على التدخل، فهم جزء من جداريته، ليسوا ثلاثي الأبعاد، ومن ثم فلا قدرة لهم على دخول العالم الحقيقي الملموس أو التدخل فيه.

منهم من يشبه المعلقين، ومنهم من يشبه الملائكة، ومنهم من يشبه المتحدثين الحكوميين، ومنهم من يشبه الرؤساء، ومنهم من يشبه الشياطين. الجميع ينطقون بالعجز، وهم في جمعهم واجتماعهم، وبرغم اعتصار أيديهم، يجسدون الصمت.

أما الثلاثة المربوطون بالخيوط، المرتعشون في أيدي محرك العرائس الخفي، فينزلون إلى الأرض برؤوسهم بينما أرجلهم في الهواء. مرة تلو الأخرى إلى أن تنشق رؤوسهم. أيديهم، جذوعهم، وجوههم، تتلوى من فرط الألم. ألم لا نهاية له. تراه في أقدامهم، المرة تلو المرة.

بوسعي أن أسير بين المشاهدين العاجزين في الجدارية، والضحايا المنبطحين على الأرض، لكنني لا أفعل، ففي هذا العمل قوة نادرًا ما رأيت مثيلا لها، قوة يستولي بها على الأرض التي يقف عليها، قوة أضفت القداسة على الحيز القائم بين المشاهدين غير الحقيقيين والضحايا المعذبين، غيَّرت أرض الموقف فإذا به لاندسويبت.

ذلك العمل العصي على النسيان نبوءة لقطاع غزة.

*

مقبرة محمود درويش على تل الربوة، وبقرار من السلطة الفلسطينية، أحيطت الآن بسياج، ووضع أعلاها هرم زجاجي، لم يعد يمكن الجلوس بجواره، غير أن كلماته تبقى نبالغة أسماعنا، وستبقى، وسنبقى نرددها.

فلي عمل على جغرافيا البركان

من أَيام لوط إلى قيامة هيروشيما

واليبابُ هو اليبابُ.

كأنني أَحيا

هنا أَبدًا، وبي شَبَقٌ إلى ما لست

أَعرف، قد يكون «الآن» أَبعَدَ

قد يكونُ الأمس أَقربَ، والغَدُ الماضي.

ولكني أَشدُّ «الآن» من يَدِهِ

ليعبُرَ قربيَ التاريخُ، لا الزَّمَنُ المُدَوَّرُ،

مثل فوضى الماعز الجبليِّ.

هل أنجو غدا من سرعة الوقت الإلكترونيّ،

أَم أَنجو غدا من بُطْء قافلتي

على الصحراء؟

لي عَمَلٌ لآخرتي

كأني لن أَعيش غدا.

ولي عَمَلٌ ليومٍ

حاضرٍ أَبدًا. لذا أُصغي، على مَهَلٍ

على مَهَل، لصوت النمل في قلبي

رام الله ـ هاوت سافوي

أوائل خريف 2008

نشر هذا النص مقدمة لـ«جدارية» محمود درويش في نسختها الإنجليزية الصادرة بترجمة ريما حمامي وجون بيرجر، الصادر في 2017

ولد جون بيرجر في لندن سنة 1926. حصل على جائزة بوكر عن رواية G.