المنوعات

التحوّل العَولَميّ في العلوم الاجتماعيّة

10 أغسطس 2017
10 أغسطس 2017

د. رفيف رضا صيداوي -

ما هي أبعاد الكلام على عَولَمة العلوم الاجتماعيّة؟ وهل آن الأوان لهذه العلوم التي تعمل على صعيد عَولميّ، أن تعتمد أنماط مُقارَبة «عَولميّة»، وأن تفكّر «عَولميًّا»؟ وماذا عن تلك العَولَمة التي تُشجِّع على التقارب بين تخصّصات العلوم الاجتماعيّة، ولا سيّما أنّ هذه العلوم تعولَمت وتمدّدت إلى أجزاء من العالَم غير تلك التي نشأت فيها، متجاوزةً بذلك حدودها الأصليّة؟

أسئلة كثيرة يطرحها كِتاب «التحوّل العَولَميّ في العلوم الاجتماعيّة»Le tournant global des Sciences sociales، الذي صدر عن دار «لا ديكوفيرت» الفرنسيّة، والذي سيصدر قريبا بترجمته العربيّة عن «مؤسّسة الفكر العربيّ» تحت عنوان: «التحوّل العَولَميّ في العلوم الاجتماعيّة».

لعلّ أهمّية الكِتاب ذي الفصول العشرين، الذي أشرف عليه الأستاذان الفرنسيّان ألان كاييه Aain Caillé، وستيفان دوفوا Stéphane Dufoix، ليست عائدة إلى أسئلته الرّاهنة الدائرة حول العَولمة وما تستدعيه من مزيد من التوصيف والتحليل فحسب، بل إنّها تعود بالتحديد إلى تركيزه على الحقل أو الأرضيّة، التي عادةً ما ينطلق منها هذا التوصيف أو التحليل، والمتمثّلة بالعلوم الاجتماعية. فقد استدعت العَولَمة الرّاهنة النّظر بالأُسس التاريخية والمعرفية والتنظيمية التي بُني عليها نظام العلوم الاجتماعية نفسها، إلى حدّ جَعَل مايكل كوهن Michael Kuhn يَعتبر التحوّلات التي طرأت على هذه الأُسس تحوّلاتٍ «جذريّة»، و«بمنزلة ثورة في تاريخ العلوم الاجتماعيّة»؛ ثورة «لا يضاهيها إلّا ظهور العلوم الاجتماعيّة بالذات على أنقاض الفلسفة الكلاسيكيّة في حقبة قيام الدول القوميّة والمجتمعات الوطنيّة».

ولمّا كانت العلوم الاجتماعية قد نهضَت وتشكَّلت في إطار الدول القومية، أصبح من الضروري إعادة النّظر فيها، ولاسيّما في مقارباتها ومنظوراتها ونظريّاتها ومفاهيمها وأدواتها، وبشكل عميقٍ وجذري، في سياق زمنها العَولَمي، مع ضرورة الإشارة إلى ملاحظة أوردها ألان كاييه وستيفان دوفوا في مقدّمة الكِتاب، وهي أنّه «ليس المطلوب بالتأكيد الانتقال من العلوم الاجتماعية الوطنية والمجتمعية إلى علوم اجتماعية تكون بشكلٍ نهائيّ عولميّة، وإنّما بالحري التمكّن من إدراك هذا الزمن العَولَميّ للعلوم الاجتماعية الذي نعيشه من أجل التفكير بنقاط التواؤم القائمة بين هاتَيْن الصيغتَيْن التاريخيّتَيْن، وكذلك بأشكال إعادة الصياغة، وإعادة تفسير التقليد القائم، والفرضيّات الجديدة التي يقود إليها هذا النوع من العمل».

فالدراسات حول الدولة والعَولَمة تُظهِر ثلاثة اتّجاهات أساسيّة: أوّلها أنّ الدولة في ظلّ العَولَمة الراهنة آخذة في التقلّص؛ ثانيها أنّ دَور الدولة هذا لم ينتهِ؛ ثالثها أنّ الدولة بالتالي تتكيّف مع التغيّرات وتبقى لاعبًا أساسيًّا. لكنّ ذلك لا يُلغِي حقيقة أنّ الدول، وإن هي حافَظتْ على أهمّيتها، تبقى في مواجَهة لاعبين أساسيّين مُختلفين، وأنّ بعض خصائصها، وكذلك النظام المُشترَك بين الدول، قد طرأت عليهما تعديلات، ما يعني أنّ الوطني والعَولَمي يقومان بعمليّة تجاذب، إن لم نقل بعمليّة إقصاء مُتبادَلة. ولعلّ هذا الواقع تحديدا، هو الذي حكم غالبيّة دراسات الكِتاب وجعلها تواجه التحدّي الذي يتوجّب على العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة أن تكون مستعدّة له، وهو، كما أشار المُشرفان على الكِتاب، «حُسن تقدير التحوّل العَولَميّ واللّحظة العَولَميّة لكي نأمل مستقبلا في إنتاج فرضيّات مُثمرة حول الأنماط المختلفة العائدة لرسم الحيّز المكاني والزماني للعامل الاجتماعي».

في دراسته المُعنوَنة بـ«الفضاءات المُتداخِلة للتحوّل العَولَميّ»، قدّم لودغر بريزLudger Pries منهجَ تحليلٍ يجمع بين هاتَين الصيغتَيْن، انطلاقا من نقده القوميّة المنهجيّة: «إذا أردنا تحليل العمليّات الحاليّة للتدويل، أو التحوّل العَولَمي، فمن الضروري الجمع بين المقاربتَين الماديّة والعلائقيّة، وكذلك بين المفهومَين الجوهري والبنائي للفضاءات الاجتماعية والجغرافية»، طارحا بذلك أفكارا عامّة حول مفاهيم الفضاء، ولاسيّما حول العلاقة بين الفضاء الجغرافي والفضاء الاجتماعي، ولاسيّما في ظلّ رواج مصطلحات ومفاهيم مثل «العَولَمة»، «تجاوز الحدود الوطنيّة»، «اندماج العالَمي والمحلّي»، «الكوزموبوليتيّة»، «المجتمع العالَمي»، «تشابُك الجوانب المكانيّة بالجوانب الاجتماعية للواقع»...إلخ. وبدورها، وبعنوان «الأرض، السلطة، الحقوق: منظومات جديدة»، قدّمت ساسكيا ساسّن Saskia Sassen تحليلا قائما على منهجيّة مختلفة وخلّاقة، انطلاقا من عدم إمكانيّة التعامل مع الدولة القوميّة والنظام العَولَميّ وكأنّهما كيانان منفصلان يُقصي واحدهما الآخر، وذلك لكونهما برأيها بناءَيْن. فاختارت ثلاثة عناصر عبر- تاريخيّة موجودة تقريبا في المجتمعات كلّها هي «الأرض والسلطة والحقوق»، ثمّ اتّجهت إلى معاينة الطريقة التي انتظمت فيها هذه العناصر بحسب العصور، مُظهِرةً كيف كانت لكلّ عنصر من هذه العناصر مضامين خاصّة، وأشكال وعلاقات خاصّة بحسب التشكيلات التاريخيّة المختلفة. وفي هذا الصدد تقول: «ثمّة بالتأكيد تشكيلات عالَمية تختلف عن الدولة القومية ولا تتواءم معها، لكنّ التحوّلات التي تهمّني هنا تتخطّى هذا الانقسام الثنائي وتخترق الجهاز الوطني، وحتّى الدولة بالذات. يُمكن أن يتعلّق الأمر بمقتضيات عالميّة تبنّتها الدولة القوميّة، أو بمقتضيات خاصّة بالدولة القوميّة نُزع عنها الطابع الوطنيّ في أثناء هذه العمليّة».

أمّا بيغي لوفيت Peggy Levit، فقارَب، من خلال الدّين كمثال، الثقافةَ في حركتها وانتقالها وإقامتها للروابط، فضلا عن أماكن اللّقاء التي تدخل فيها العناصر الدينيّة في تصادم، ومن دون إعطاء أفضليّة لا للمحلّي ولا للعَولمي؛ فقد سعى في دراسته التي جاءت بعنوان «مِحَن الدّين: رسم خريطة للإنتاج الثقافي العَولَمي ولاستهلاكه»، إلى إظهار الطبقات التي يُمكن أن تكون قائمة بين المستويَيْن (أي المحلّي والعَولمي)، فضلا عن طرائق تفاعلها؛ فيُشير في هذا الصدد شارحا منهجه: «إنّ أيّ دراسة لفرد، أو طقس، أو جماعة، أو حركة اجتماعيّة في المكسيك أو سنغافورة، تبدأ بتحديد مستوى العلاقات التي تقيمها هذه الجهة مع فاعلين أو مؤسّسات تقع في أماكن أخرى وكثافتها، كما بمستويات الحقل الاجتماعيّ الذي تُشكِّل جزءا منه. إنّها لا تتعامل مع الأفراد والمجموعات وكأنّها حاويات مُغلقة مستقرّة في مواقع محليّة، وإنّما تنظر إليها على العكس من ذلك وكأنّها مواقع مُحتمَلة للتجمّع والتلاقي، والتي ما أن تتكوّن حتّى تبدأ بالانتقال من مكان إلى آخر، وتخضع للتغيّر باستمرار في أثناء تنقّلاتها. من هنا، فإنّ التشكّل الذي ينشأ لا يكون محليّا بحتا ولا عَولميّا بحتا، وهو يتغلغل داخل طبقات ومستويات عدّة مُتشابِكة من الحاكميّة الإقليميّة، أو الوطنيّة أو العالميّة، وكلّ واحدة منها تمتلك منطقها الخاصّ وأدلّتها الخاصّة للموارِد المؤسسيّة والاستدلاليّة».

وبعنوان «تاريخ عَولَمي، تواريخ متّصلة: «نقطة تحوّل» تأريخية؟»، اعتبر رومان برتران Bertrand Romain أنّ جزءًا كبيرًا من الإنتاج باللّغة الإنجليزية في ما يعود إلى «التاريخ العَولَمي»، يستند حصرًا إلى مصادر مكتوبة باللّغات الأوروبيّة، وأنّه في اتّجاهاته المختلفة، لا يصبّ في توجّهات التاريخ الأوروبي، وأنّه، على الرّغم من شعاراته، ثمّة القليل من النِتاجات التي تعكس «الانزياح عن المركز»؛ وبدوره رأى كريستيان غراتالو Christian Grataloup في دراسته التي حملت عنوان «جغرافيا ما بعد بروديل»، أنّ تقسيمات العالَم كانت مجرّد توافقات جرت في أوقات محدّدة، و«تمّ تبنّيها من أوروبا ومن أجل أوروبا لكي تتمايز كـ «أنا» في مواجَهة «الآخرين» الموزّعين بحسب الاتّجاهات ما وراء القارّة الأوروبيّة»؛ لكنْ على الرّغم من انتهاء «السرديّات الكبرى»، منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي- بحسب غراتالو- إلّا أنّه لم يحلّ أيّ إطار شامل، أو أيّ نموذج مختلف محلّها. جلّ ما في الأمر أنّه تمّ « الانتقال من المفردات الزمنيّة إلى مصطلحات مكانيّة: لم يعُد يُقال «بلدان متخلّفة» و«بلدان متقدّمة»، وإنّما «بلاد الشمال» و«بلاد الجنوب».

حول مقاوَمة العولميّ

ثمّة مُقاربات مختلفة تبشِّر بالتجانس العامّ والبنيوي الناتج عن العامِل العَولَمي، مستندةً بذلك إلى تجاوز الحدود الوطنية والإقليمية، وإمكانيّة الربط والتواصل، والقدرة على إحداث وعي عَولمي بين مواطِني العالَم... غير أنّ مثل هذه المُقاربات تُغيِّب التمايزات المحلّية، بقدر ما تُغيِّب مقاوَمة الفاعلين الاجتماعيّين المتمركزين داخل أطرهم المحلّية لتأثيرات العَولمة. وقد تطرّق بول كينيدي Paul Kennedy إلى هذه المسألة في دراسته «إعادة التوازن إلى الحسابات: مُقاوَمة المحلّي وهشاشة الوعي العَولَميّ»؛ فعايَن الأسباب والسبُل التي تدفع المحلّي إلى المُعانَدة ومقاوَمة العَولَمة، مُظهِرا أنّ جزءا كبيرا ممّا يُعرَّف عادةً على أنّه «عَولَميّ» متجذّر بعمق في المحلّيّ ويتغذّى منه.

وفي دراسته «بحث في الِهبة: نصّ رائد في النقد المتحرِّر من الاستعمار»، تساءل باولو هنريكي مارتنزPaulo Henrique Martins: «ما هو التخصّص العِلميّ (وهل يُمكن أو يتوجّب على العلوم الإنسانية والاجتماعية أن تكون «علميّة»؟) هل نحن بحاجة إليه؟ أليست فكرة عِلم اجتماعي عامّ عبثيّة بحدّ ذاتها؟ ما الذي يسمح بأن نفترض أنّ الخطابات الجديدة «الما بعديّة» أو «العَولَميّة» تذهب في هذا الاتّجاه؟ هل بإمكاننا أن نُقيم مُوازَنة بين «الما بعد» و«العَولَمي»؟ كيف، ولماذا؟ والأهمّ من ذلك: على أيّ أُسس يُمكن تحديد عِلم اجتماعيّ عامّ؟».

على هذا، ولأنّ العلوم الاجتماعية ظهرت في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه الدولة القومية، ولأنّ طرائق التحليل والأُطر المفاهيميّة ما زالت تعتبر الأمّة كمبدأ مُنظِّم أساسي للتجربة المُعاصرة، فقد أظهرت غالبيّة بحوث الكِتاب طرائق مختلفة في التحليل، وبما يُظهِر أنّ الدولة والعَولَمة هما أبعد ما تكونان في حالة إقصاء الواحدة للأخرى. بحيث ينتهي القارئ إلى تلمّس رؤى جديدة وفرضيّات لمّاحة، فضلا عن مناهج جديدة للقراءة، تنطلق من كون الدولة هي من الأُطر المؤسّسية الاستراتيجية التي يجري فيها العمل الحاسِم لتطوير العَولَمة، من دون أن يعني ذلك أنّ نهج عملها لا يتغيّر أو أنّها تكتفي بالتكيّف مع الأوضاع الجديدة. وهو الأمر الذي تترتّب عنه نتائج سياسية ومعيارية مختلفة.

لعلّ أهمّية بحوث الكِتاب تكمن أيضا في أنّها تُحلِّق بنا نحو نظريّة اجتماعية عامّة وحديثة تتخطّى التخصّصات الموجودة القائِمة على نظرة آليّة للمجتمع، ومُرتبطة بالقوميّة المنهجيّة، ربّما يكون بمقدور «الدراسات العَولَمية» أن تقودنا من أجل الوصول إليها، لكونها قادرة على مُقارَبة «التحوّل العَولَمي» بمنظورٍ معرفيّ جديد يقوم على تعزيز التفاعلات بين مختلف التخصّصات.

*مؤسّسة الفكر العربي