أفكار وآراء

الإيلام الاقتصادي

09 أغسطس 2017
09 أغسطس 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

تثير إحدى العقوبات الأمريكية الأخيرة ضد فنزويلا قضية محورية في فهم كيفية إدارة الخلافات والصراعات السياسية بين الدول بعضها ببعض، أو بين الكيانات الاقتصادية نفسها داخل الدولة الواحدة، وربما بين الأفراد وبعضهم أيضا داخل المجتمع الواحد.

جوهر العقوبة كما اتضح هو كيفية إلحاق أكبر أذى بالخصم بغض النظر عما إذا كان لذلك منطق سياسي أو قانوني أو اقتصادي واضح ومقبول أو لا. فقد قررت الولايات المتحدة حظر تصدير البترول المكرر إلى فنزويلا دون أن تحظر استيراد الخام الفنزويلي نفسه.

المنطق الطبيعي كان يقتضي حظر التصدير والاستيراد معا لكن لماذا اختارت الولايات المتحدة ذلك ؟

تفسير الأمر ينجلي إذا ما علمنا أن الأمريكيين على علم تام بأوضاع مصافي التكرير في فنزويلا وبالتالي فإن حاجتهم ملحة إلى النفط المكرر فقد مضت سنوات على معاملهم دون تجديد ودون صيانة بالإضافة إلى أنهم يفتقدون حاليا القدرة على ضخ استثمارات جديدة أو جذب استثمارات خارجية في مجال التكرير وحتى لو توفر ذلك- حسب عرض روسي أخير باستثمار 14 مليار دولار في هذا المجال -  فإن الأمر سيستغرق وقتا طويلا. من أجل ذلك رأت الولايات المتحدة أن أقوى إيلام يمكن أن تسببه لخصمها السياسي اللدود الرئيس الفنزويلي الاشتراكي “مادورو” هو ذاك، إذ يعتقد الأمريكيون أن زمن “مادورو” ومن هم مثله قد ولى أو يجب أن يولي وعليه، وجنبا إلى جنب مع الخطوات السياسية التي اتخذوها ضد النظام ومساندتهم العلنية للمعارضة اليمينية الفنزويلية، فإنهم بحثوا عما يوجع هذا النظام فوجدوا أن مقتله، من وجهة نظرهم على الأقل في خنقه اقتصاديا وإضافة أعباء صعبة على شعب فنزويلا الذي يعاني جراء التراجع الشديد في عوائد النفط الذي هو عماد اقتصاد البلاد، وذلك بإضافة عبء آخر هو نقص الوقود حيث ستجد فنزويلا صعوبة شديدة في إيجاد بدائل للبترول الأمريكي المكرر كما أن ذلك سيقتضي كلفة إضافية تقف فنزويلا عاجزة عن تدبيرها إذا ينتظرها أيضا ظروفها الصعبة.

وبغض النظر عن موقف الكاتب أو القارئ من النظام في فنزويلا، إلا أن المرء يتساءل عن مدى شرعية مثل هذا النوع من العقوبات الانتقائية المؤلمة.

من حق الولايات المتحدة أن تبحث عن مصالحها وأن تؤيد الأنظمة التي تراها محققة أكثر لتلك المصالح، كما أن من حقها أيضا أن تتخذ ما تراه مناسبا من إجراءات لتحقيق تلك المصالح، لكن السؤال هو إلى أي مدى يمكن أن يكون مقبولا في الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية بل وإلى أي مدى يمكن أن يكون مقبولا لأغلبية المجتمع الأمريكي نفسه اتخاذ مثل هذا النوع من العقوبات الشديدة القسوة، والتي تعادي شعبا بأكمله ، نكاية في حاكم وتوجهه، وحيث لم يعرف أحد حتى هذه اللحظة نوع الأضرار التي سببها أو يسببها أو سيسببها في المستقبل نظام “مادورو”  للولايات المتحدة؟  .

يفهم المرء أن هذا النظام بجموده قد يكون أو هو بالفعل غير قادر على تطوير اقتصاد البلاد وتطوير قاعدته وتنويع موارده بيد أن ذلك أمر يقرره الشعب الفنزويلي ، لكنه لا يسبب أي ضرر في الحقيقة من أي نوع للولايات المتحدة أو شعبها.

قد يكون مفهوما مثلا أن تشن الولايات المتحدة حربا دعائية ضد النظام في فنزويلا وتستخدم فيها بالحق وبالباطل ما هو معروف من أدوات الميديا وقد يكون مفهوما أيضا أن تقيم تحالفات وتستثني منها فنزويلا أو تأخذ مواقف ضدها في المنظمات الدولية لكن الطريقة التي جرت بها معاقبة “مادرور” ونظامه عجيبة حقا وهى تبدو للناظر أشبه بمن يحاول قتل عصفور صغير بدانة مدفع، فلا الصادرات الأمريكية من البترول المكرر أو الواردات الأمريكية من البترول الخام الفنزويلي ولا غيرهما من السلع والخدمات المتبادلة بين البلدين تشكل أي أهمية من حيث القيمة للولايات المتحدة ، كما أن معاداة النظام الفنزويلي حتى بافتراض أن المعارضة الفنزويلية ستتولى سدة الحكم بفعل الشعب لن تحقق فارقا اقتصاديا ذي بال لأمريكا، ناهيك عن أنها ستثير إضرابات اجتماعية لا أول لها ولا آخر لو حكمت فنزويلا بمنطق تحرير الأسواق الأمريكي... بمعنى أن تستحوذ قلة من رجال المال والأعمال على ثروات البلاد مقابل تحقيق منافع للشركات الأمريكية الكبرى، فلن يكون ذلك مما يمر بسهولة على الإطلاق لمن يعرفون شعوب أمريكا اللاتينية وثقافاتها وطبائعها.

وفي تقديري أن منطق المصالح الحقيقي كان يوجب على أمريكا وعلى غيرها تشجيع إقامة حوار وطني جاد بين الأطراف المختلفة في فنزويلا ليقوموا بعملية تحرير وطنية محسوبة لاقتصاد بلادهم بما يلبي متطلبات أغلبية الشعب والمستثمرين المحليين وبما يحقق أيضا تكبير الكعكة وبالتالي زيادة العوائد التي يمكن أن تجنيها الشركات الأجنبية، ورأس المال الأجنبي،  سواء كان أمريكيا أو لا، لكن أمريكا اختارت في النهاية الطريق الذي اختارته وهو طريق ما يسميه الشرقيون “اللدد” في الخصومة، ويحدث كثيرا في الحياة أن نرى مثلا فردين يختلفان أو يتشاجران أو يتصارعان لسبب بسيط ، ما كان أسهل علاجه مع قليل من التعقل والحكمة لكنهما أو أحدهما يختار ذات الطريق الأمريكي أي البحث عما يوجع خصمه إلى أبعد مدى وابتكار أساليب ومناورات وحيل لتحقيق الإيذاء الأقصى، ضارب عرض الحائط بمبدأ الجزاء من جنس العمل أو بحجم العمل . وتتحول نظرية “فين يوجعك“ هذه إلى تراجيديا حيثما يمارسها شخص ضد آخر مسالم أومتسامح أو قليل الحيلة فيقف المرء المتابع حيالها مصدوما من المفارقة ومن قسوة بعض البشر غير المفهومة .

نفس الأمر يتكرر أيضا مع الكيانات التجارية والاستثمارية وبعضها البعض أحيانا إذ نرى صاحب شركة ولمجرد خلاف بسيط في المصالح أو حتى خلاف شخصي مع صاحب شركة آخر يلجأ أيضا إلى نظرية “فين يوجعك “ ويستخدم كل صلاته ونفوذه وماله ومعارفه ومن يستطيع أن يؤثر عليهم في قطع رزق صاحب الشركة الأخرى أو شله أو تدميره إن أمكن ، بينما كان من السهل كما قلت في حالة الأفراد أن يتم تجاوز الأزمة بقدر قليل من التعقل. لا يبقي إلا أن أقول إن الظلم يبقى ظلما ، والقسوة تبقى قسوة ، ولن يتسامح معها شعب مهما طال الأمد بحالة الإيذاء والإيلام هذه.

صحيح أن الجهات الدولية والمنظمات العالمية التي كان يمكنها أن تلعب دور ميزان العقل في مثل هذا النوع من الصراعات تعيش في أسوء حالات ضعفها، لكن لا يزال لدى المجتمع الدولي ما يمكنه فعله ليس من أجل حاكم أو حتى شعب ولكن من أجل الإنسانية كلها ومستقبل كوكبنا نفسه. مهما طال رجحان كفة المفتري فإن ذلك لا يعني أن أي مستضعف لن يجد أدوات في النهاية ليرد بها على “الأذية“.