أفكار وآراء

الخبر هو الخبر .. ولكن!!

06 أغسطس 2017
06 أغسطس 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تفرض العولمة مسارات مختلفة على حياة الجميع بلا استثناء، وتأتي الرسالة الإعلامية واحدة من الوسائل التي تجير أساليب العولمة، وتسهل لها طرق الوصول إلى الغايات المأمولة للقائمين على برامج العولمة المختلفة، حيث لا يستثنى من ذلك شعب دون آخر.

استحضر هنا، وأنا أهم بالكتابة في هذا الموضوع؛ الذي يمس جزءا من اختصاصي الأصيل كصحفي، وككاتب صحفي لثلاثين عاما، والحمد لله، حياة والدي -رحمه الله- وعشقه الجميل لجهاز المذياع الذي لا ينفك عنه قيد أنملة، حيث كان رفيقه الدائم حتى وهو في الحقول في أطراف «بطين» القرية الوادعة، منذ أن عاد في مطلع السبعينيات الى السلطنة من رحلة الغربة في عدد من دول الخليج العربية، حيث البحث عن موارد الرزق، مستمعا ومعلقا على كثير من الأخبار التي تبثها الإذاعات عبر قنواتها المحدودة في ذلك الوقت المبكر من عمر الوعي الإعلامي عند قليل من الناس، ومنها على وجه الخصوص؛ إذاعة سلطنة عمان، وإذاعة «البي بي سي» البريطانية، وعلى الرغم من بساطة المعرفة الموسوم بها، عادة كبار السن إلا الاستثناء، إلا أنه كان متابعا جيدا للأحداث، وقليلا ما ينام قبل أن يستمع الى أخبار السادسة في إذاعة «البي بي سي» العاشرة ليلا في السلطنة، ومع محدودية شمولية المعرفة بما تخفيه الأخبار من أجندات إلا أنه يكون له موقف محدد منها، وكثيرا ما يرى فيها مبالغات «واضحة».

تأتي هذه الصورة بتجلياتها المطلقة عبر وسائل الإعلام المختلفة، وما أكثرها اليوم، حيث تجاوزت وسائل الإعلام التقليدية: الإذاعة، التلفاز، الصحيفة، فقد جاءت «الوسائل الحديثة» مجموعة وسائل التواصل الاجتماعي: الـ«فيسبوك، تويتر، انستجرام، واتس آب، السناب شات» كأهم وسائل فاعلة بقوة في المشهد الإعلامي، مما حدا بها أن تجبر وسائل الإعلام التقليدية لأن تضمن هذه الوسائل ضمن مكوناتها الأساسية، فقلما تجد وسيلة إعلامية تقليدية لا تستعين بوسائل إعلام حديثة لتوصيل رسالتها، ومحاولة استمالة المتلقي إليها من خلال بثها عبرها، وذلك لسهولة توظيفها وسرعة وصولها، وقوة تأثيرها في المتلقي، وهي عوامل كانت ولا تزال ضمن المهام التي تحرص عليها وسائل التقليدية التقليدية لإيصال رسالتها من ناحية، ولاستهدافها لمتلقيها من ناحية ثانية.

يعلم الجميع أن قصة الخبر، قصة تاريخية بتاريخ ترقي الإنسان منذ بدايات العمر الأول للمعرفة، وقد وثقها عبر الكهوف ومسطحات الجبال القابلة للرسم والكتابة، والتاريخ مليء بمثل هذه الرسائل التي حرص عليها الإنسان لأن توصل رسالته لمن يأتي بعده، وليعبر من خلالها عن حالته الحقيقية التي يكون عليها في عصره، وقد رافق تطور الإنسان؛ تطور الرسالة والوسيلة منذ ذلك العصر الأول وحتى اليوم، والمستقبل؛ يقينا؛ سيأتي بالجديد، بلا مواربة، فيما يخص هذا الجانب، وتبقى القصة الخبرية هي ذاتها، ولكن ستختلف الأجندة، والأهداف، والنوايا، ويلزمنا هنا الاستدلال بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وذلك وفقا للأهواء والمعتقدات التي يحملها صانعوا القصة الخبرية، وخاصة اليوم وهي تشطح كثيرا عما اعتاد عليه المتلقي، وفقا للرؤية التي وضعها منظرو الإعلام السابقين الذين وضعوا الكثير من مواثيق الشرف الصحفي والإعلامي كمحددات مهمة لتنقية الخبر من أي مزلق مبطن، أو خاص، لتحقيق أهداف خاصة جدا لصاحب الرسالة الخبرية.

وقد لعب «حارس» البوابة الإعلامية الكثير من الأدوار لتحقيق هذه الغاية، وخاصة للرسالة الآتية من قبل المتلقي، على وجه الخصوص، وذلك حفاظا، كما هو المأمول على تماسك المجتمع، وعدم الخروج على القيم المتعارف عليها، بالإضافة الى مجموعة المحددات التي تضعها الدولة عادة على مجمل الرسائل الإعلامية التي تبثها الوسائل: المقروءة منها أو المسموعة، أو المرئية، وبمعنى آخر كانت هناك مهادنة بين الوسيلة والمتلقي، حتى فُضَت هذه «اللحمة» إن تجوز التسمية، وسائل التواصل الحديثة، فأصبحت العلاقة بين كل الأطراف علاقة «مشاعة» لا تقيدها قيود تقليدية، ولا أطر مؤسسات منظمة تحتكم على قانون معين، كقانون المطبوعات والنشر، فتعقدت المحنة أكثر، وتباعدت مجموعة التقاربات الموكول إليها صيانة المجتمع وتماسكاته المختلفة.

يملي علينا الطرح هنا؛ وضع مجموعة من التساؤلات الجوهرية، ومنها: هل يمكن القول: بانتهاء عصر الوسيلة الإعلامية الحاضنة للمعرفة؟ لأن الرسالة خرجت عن إطارها القويم، وأصبحت موظفة لرؤى ضيقة معبرة عن أفراد، وليس عن مؤسسات.

كيف يمكن أن ينظر الى المتلقي على أنه لم يعد وعاء بلاستيكيا، وانتقاله من مستوى عقلية القطيع الشائعة حتى أواخر القرن العشرين المنصرم، ووصوله اليوم الى هذا المستوى الفكري المتحرر؟. أين يمكن وضع مجموعة المحددات التي اتكأ عليها صاحب الرسالة الإعلامية قديما؛ مثل القيم الإنسانية كالصدق والأمانة والحيادية، ومثلها قيم المؤسسة، كمواثيق الشرف الإعلامي؟.

الى أي حد يمكن أن تلعب القوانين التي تجرم صاحب الرسالة للحد من شيوعية الرسالة وضبطها تحت إطارها المنظم الذي يجب أن تكون عليه؟. ما هي المساحة المتاحة لـ «التوظيف السياسي» في الرسالة الإعلامية، وذلك في إطار ضبط الابتذال، والضعف في التوجيه، حتى تحافظ هذه الرسالة الى الحد الأدنى من الأهداف الموكولة إليها كرسالة إعلامية بحق؟. هل يمكن القول – وفق ما نعيشه من إطار تبدل القيم المعرفية للرسالة الإعلامية – أننا فعلا أهلنا التراب على أهداف الرسالة الإعلامية النزيهة؟.

تفرض العولمة مسارات مختلفة على حياة الجميع بلا استثناء، وتأتي الرسالة الإعلامية واحدة من الوسائل التي تجير أساليب العولمة، وتسهل لها طرق الوصول الى الغايات المأمولة للقائمين على برامج العولمة المختلفة، حيث لا يستثنى من ذلك شعب دون آخر، متقدم هذا المجتمع أو متخلف، قريبة هذه الدولة من دوائر الاهتمام او بعيدة، فبإمكانك اليوم أن تسافر الى أي دولة لا تزال في حكم التقييم متخلفة من حيث البنى الأساسية، فترى اشهر الماركات العالمية مزروعة على محلات التسويق المختلفة، وترى في المقابل مستوى التهافت على شراء منتوجاتها التي روجت لها الوسيلة الإعلامية «الدعائية» سواء عبر الأخبار العالمية التي تنتقل من دولة الى أخرى، أو عبر الأعمال الدرامية المختلفة التي يأتي في مقدمتها الأفلام الخليعة، وأفلام المغامرات، وعروض الأزياء، ومسارح الفنون بمختلف أنواعها، أو عن طريق الشركات متعددة الجنسيات التي تتخذ الوسيلة الإعلامية ركنا أساسيا للترويج لبضائعها المختلفة.

أتكئ هنا على عمر التجربة، وذلك قياسا بأعمارنا القصيرة، فمن في جيلنا عايشنا سويا اللحظات الأخيرة من عمر القرن العشرين المنصرم، واليوم نبدأ مع زحف القرن الحادي والعشرين، الذي للتو يبدأ خطواته نحو مسافة الـ«مائة» عام، فإذا كانت بدايات هذا القرن بهذا التطور والهدم في نفس الوقت، بهذه الشمولية والقوة، فكيف يكون الأمر مع نهاية الـ«مائة» عام، سؤال نطرحه على أنفسنا كمراقبين للمشهد الإنساني، ويقينا نعجز عن الإجابة عليه بالدقة المتناهية لأننا لا نعلم بما يضمه الغيب من أجندات في حياة الشعوب، وما تسعى إليه الآمال والطموحات عند هذا الإنسان، ولكن ما يمكن التأكيد عليه أن الوسيلة الإعلامية ستظل هي الفاعل الأكبر في كل الأنشطة الإنسانية، وستظل الوسيلة التي تتحمل الأعباء الناتجة عن التكاليف الباهظة والناتجة عن توظيفها في مختلف المجالات، وسيظل الخبر هو الخبر من حيث التركيب الفني له، والذي يحرص عليه الأكاديميون في تدريسهم لطلبة الصحافة والإعلام، ولكن ستكون له مسارات مختلف كثيرة ومتشعبة، وذلك اعتمادا على الأهداف التي يسعى الى تحقيقها المرسل، سواء هذا المرسل مؤسسة تخضع لقوانين وأنظمة، أو كان هذا المرسل فردا يخضع لأمزجته، وما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء.