أفكار وآراء

التطبيع مع موسكو.. لماذا يتعثر من جانب واشنطن؟

05 أغسطس 2017
05 أغسطس 2017

د.عبد العاطى محمد -

أثار قرار الكونجرس الأمريكي بتوسيع العقوبات على روسيا تساؤلات عديدة حول الأسباب الحقيقية التي دفعت الغالبية الساحقة لأعضاء الكونجرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لاتخاذ هذا الموقف، وما إذا كانت الإدارة الأمريكية الحالية تدير فعلا السياسة الخارجية الأمريكية، أم أنها أصبحت مقيدة بمواقف هيئات وقوى سياسية وإعلامية نافذة داخل الولايات المتحدة، وما هو تأثير ذلك على علاقات واشنطن الخارجية؟.

لم يمثل القرار مفاجأة للمتابعين لمسار العلاقات الأمريكية الروسية منذ أواخر عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. فالمعروف أن العلاقات دخلت منعطف الخلافات الحادة خصوصا بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم التي كانت ضمن أراضي أوكرانيا، وعلى إثر ذلك تتالت موجات العقوبات الاقتصادية من جانب واشنطن ضد موسكو وانضم إلى هذا الموقف الاتحاد الأوروبي أيضا ولكن بدرجات أقل حدة. وكانت موسكو تأمل أن يتغير الموقف بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض نظرا لما أبداه خلال حملته الانتخابية من رغبة في التقارب معها. ولكن التطبيع بين الجانبين لم يتحقق، بل اتجه من سيء إلى أسوأ برغم كل ما اتسم به مشهد العلاقات من تقارب في الظاهر.

اتخذ الكونجرس قراره بتوسيع العقوبات بأغلبية 419 مؤيدا مقابل 3 اعترضوا، مع منح الكونجرس سلطات تمنع الرئيس الأمريكي من تخفيف هذه العقوبات لو أراد استخدام حقه في الاعتراض على القرار (الفيتو)، وهو تطور له مغزاه العميق حيث يشير إلى أن الكونجرس لم يعد يثق في رؤى ومواقف الرئيس ترامب على الصعيد الخارجي ويريد كبح جماح مواقفه المفاجئة والمتقلبة. وردا على ذلك أعربت موسكو عن استيائها الشديد من القرار واعتبرته عقبة جديدة في محاولات تطبيع العلاقات، وقررت تقليص عدد الدبلوماسيين الأمريكيين الموجودين على الأراضي الروسية في السفارة والقنصليات. ومع أن القرار الروسي يأتي في إطار المعاملة بالمثل أي ردا على طرد واشنطن في ديسمبر الماضي 35 دبلوماسيا روسيا على خلفية الاتهام بتدخل موسكو في الانتخابات الأمريكية، إلا أنه كان من الممكن عدم اتخاذه لو أن الأمور سارت على نحو مشجع ولو أن الكونجرس لم يتخذ هذا القرار القاسي والمؤلم في حق موسكو. كما توالت ردود الأفعال العالمية في اتجاه انتقاد القرار، حيث رفضته ألمانيا استنادا لما رأت فيه مساسا بمصالحها الاقتصادية، وانتقدته بكين استنادا إلى رفضها لمبدأ التصرف أحادي الجانب ولكونه يستبعد لغة الحوار والتوافق.

المتابعون للمشهد الأمريكي الروسي انقسموا إلى فريقين في تفسير التعثر الذي أصاب جهود التطبيع بين البلدين، فهناك فريق يرجعه إلى الصراع القائم بين السلطتين التنفيذية ممثلة في البيت الأبيض والتشريعية ممثلة في الكونجرس حول صناعة السياسات الأمريكية على المستويين الداخلي والخارجي، وفريق آخر يرجعه إلى حالة الارتباك والانقسام القائمة على صعيد العلاقات الدولية بوجه عام التي جعلت مواقف الدول تتوزع بين ملفات عدة بعضها له ظروفه وسبل تطويره للأفضل والبعض الآخر عسير على الحل ويظل عامل صراع في العلاقات لمزيد من الوقت، وفي هذه الحالة لا يجري الربط بين كل الملفات كما هو متوقع ومعتاد وإنما يتم التعامل مع كل ملف على حدة. ورغم التباين في الرؤيتين إلا أن هناك قاسما مشتركا بينهما هو أن الأوضاع الداخلية المتسمة بالاضطراب وعدم الاستقرار تلقي بتأثيرها الواضح على رسم السياسات الخارجية، حيث تجعلها تتسم بنفس السمات أي التقلب وعدم اليقين.

وكلا التفسيرين صحيح وله وجاهته وإن كان تفسير الفريق الأول يبدو أكثر إقناعا. فمما لا شك فيه أن هناك معركة واضحة للعيان تماما بين الرئيس ترامب والكونجرس برغم أنه يمتلك فيه أغلبية جمهورية، وظهر ذلك في عدة مناسبات منها عرقلة مشروعه لإلغاء نظام الرعاية الصحية الذي وضعه أوباما، وفتح تحقيقات موسعة حول تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية وغيرهما من القضايا التي جعلت حصيلة إنجازات الرجل محدودة للغاية على عكس الشعار الذي رفعه خلال الانتخابات بإعادة أمريكا قوية.

ومن الطبيعي أن تكون هناك خلافات بين الرئيس والكونجرس، فهكذا كان حال العلاقة على مدى العقود الماضية، ولكن المشكلة في حالة ترامب هي في قلق الكونجرس بصفته صاحب السلطة التشريعية من مواقف ترامب المفاجئة والمتقلبة، وكان من اللافت في هذا الإطار وجود الأعضاء المعنيين بكل ما يتعلق بالأمن القومى الأمريكي وراء تحدي سلطة ترامب وتوصيل رسالة إليه مؤداها أنه لا يستطيع أن يمضي قدما في وضع السياسة الخارجية الأمريكية بعيدا عن الكونجرس.

وسواء كان الكونجرس على صواب أو خطأ في ذلك، فإن النتيجة هي أن هناك صراعا داخلىا أو صراع أجنحة يشمل مكونات السلطة واللوبيات السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة، فرض نفسه لصالح تقييد تحركات ترامب الخارجية، وكانت العلاقات مع روسيا هي المناسبة المثلى لتطبيق هذا الموقف من جانب الكونجرس. لقد غطى الاحتقان حيال شخص الرئيس في ذاته أحيانا على أية اعتبارات أخرى حتى لو اتسمت بالوجاهة، حيث رأى خصومه في الداخل الأمريكي أنه يخرج عن الثوابت المعتادة في التقاليد الأمريكية السياسية بمن فيهم الجمهوريون الذين من المفترض أن يقفوا الى جانبه دائما حفاظا على التقاليد الحزبية. ويبدو أن الكثيرين من أعضاء الكونجرس حسبوا جيدا وبشكل مبكر مواقفهم قبل الانتخابات النصفية للكونجرس بعد أقل من عامين، بما يعني أن قرار التصعيد مع موسكو جاء بفعل حسابات صراعات الأجنحة الداخلية وحرص ممثلي الحزبين الكبيرين على الحفاظ على مقاعدهم مستقبلا أو حسمها لصالح الديمقراطيين.

تفسير الفريق الثاني لأسباب التعثر في تطبيع العلاقات الأمريكية الروسية لا يقل وجاهة وأهمية، حيث يضع المشكلة في نطاق أوسع يتعلق بالتضارب القائم في المصالح الذي ضرب بنية العلاقات الدولية منذ أواخر عهد أوباما وإلى الآن وذلك على خلفية التأثيرات السلبية للعولمة على صعيد العلاقات الاقتصادية وصعود الصراعات القومية والانفصالية وتحدي الإرهاب وتعقد مساراته، وهو ما أدى إلى تعزيز الاتجاهات إلى الانغلاق على الداخل والقلق على المصالح الوطنية. وليس من المبالغة القول بأن الدول الغربية، وكذلك الدول الصاعدة، باتت تواجه هي بدورها صراعات أجنحة بين الانفتاح والانغلاق على الخارج وسط ترجيح لكفة الانغلاق. في هذه الحالة فإن السائد هو إدارة الخلافات والصراعات بمبدأ «التحكم في الصراعات عند حدها الأدنى»، وهنا تلعب مسألة العقوبات دورا مهما بوصفها آلية لتحقيق التغيير في مواقف الخصوم دون الوصول بالصراع إلى الطابع المسلح. وفي الوقت نفسه تتم تجزئة الملفات الشائكة في العلاقات بين الخصوم وفصلها عن بعضها البعض لتقليل الخسائر من ناحية والتمكن من حل بعضها كلما أمكن ذلك.

الحالة مع روسيا مثال على هذا التوجه، فقرار الكونجرس بتوسيع العقوبات لا يقف فقط عند الاعتبارات السياسية كالخلاف حول ما جرى في أوكرانيا أو صراعات النفوذ في منطقة ساخنة ومهمة مثل الشرق الأوسط أو الموقف من كوريا الشمالية وتهديداتها الأمنية للولايات المتحدة، وإنما له جوانبه الاقتصادية حيث تسعى الولايات المتحدة لتعديل مسار الاقتصاد العالمي لصالحها خصوصا في مجالي الطاقة والتصدير الصناعي. تريد أن تكون بديلا للغاز الروسي الذي تعيش عليه أوروبا كلها وبديلا لألمانيا في التصدير الصناعي، وهنا فإن فرض عقوبات على من يتعاملون مع الروس في الغاز من جانب الشركات الألمانية والأوروبية عموما يضر مؤكدا بالاقتصاد الألماني الذي يتزعم الاقتصاد الأوروبي عموما.

وعملا بقاعدة إدارة الصراعات عند حدها الأدنى وفصل الملفات عن بعضها البعض، ليس هناك ما يؤشر على أن التعثر قي تطبيع العلاقات يمكن أن يتحول إلى انسداد في العلاقات ولا في التحول إلى مواجهة مسلحة، بل على العكس من ذلك يمكن المضي في التعاون الثنائي في ملفات مثل الملف السوري وملف مواجهة الإرهاب. وفي الوقت نفسه فإن روسيا تراهن على أن آلية العقوبات الاقتصادية ثبت أنها غير كافية لتغيير مواقف الخصوم حيث غالبا ما تكون هناك بدائل لها، وحالة عدم تأثر إيران مثلا بالعقوبات التي فرضت عليها في الماضي القريب دليل على هشاشة اللجوء إلى مثل هذه الآلية. ومن الواضح أن روسيا تدرك جيدا أهمية علاقاتها الاقتصادية مع أوروبا التي تعد الحليف الأول للولايات المتحدة، وأن أوروبا لن تقبل تفعيل هذه الآلية تحت أي ظرف من الظروف. ما جرى وسيجري في المستقبل القريب هو انعكاس للأزمات الداخلية على رسم السياسات الخارجية، تلك الأزمات التي باتت تضرب الدول الكبرى ولم تعد حكرا على غيرهم، والمتضرر الأكبر هو الشعوب.