أفكار وآراء

روسيا والعقوبات الأمريكية الجديدة

02 أغسطس 2017
02 أغسطس 2017

عبد العزيز محمود -

قرر الكونجرس أن فرض عقوبات جديدة على روسيا مهم في هذه المرحلة من الفوضى التي يمر بها النظام العالمي الجديد، لحماية المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية العالمية لأمريكا.

بعد قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بطرد أكثر من 700 من أعضاء البعثة الأمريكية في روسيا ردا على تشريع أصدره الكونجرس الأمريكي الأسبوع الماضي بفرض عقوبات جديدة على بلاده تتعرض العلاقات بين البلدين لانتكاسة جديدة.

بوتين أمهل أعضاء البعثة الأمريكية غير المرغوب فيهم حتى أول سبتمبر المقبل لمغادرة روسيا، وأمر بوضع مبنيين تابعين للسفارة الأمريكية في موسكو تحت التحفظ، فيما بدا أنه رسالة روسية بأن موسكو لن تقف صامتة أمام أي عقوبات أمريكية جديدة.

كان واضحا أن صبر بوتين قد نفد، بعد أن أدرك أخيرا أن العلاقات الروسية الأمريكية لن تتغير إلى الأفضل، وأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في وضع لا يسمح له - على عكس ما كان متوقعا من جانب موسكو- بتطوير تلك العلاقات.

ومع إعلان البيت الأبيض أن ترامب سوف يعتمد العقوبات التي أقرها الكونجرس ضد روسيا، ردا على تدخلها في الانتخابات الأمريكية، وموقفها في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وسوريا، تكشف أن موسكو لم يعد بإمكانها الرهان لفترة أطول على الرئيس الأمريكي.

وهكذا جاء رد الفعل الروسي سريعا هذه المرة، واستهدف الرد على التشريع الذي أصدره الكونجرس، وأيضا الثأر من قرار سابق لإدارة أوباما بطرد ٣٥ دبلوماسيا روسيا بعد اتهامهم بالتجسس، ووضع مبنيين تابعين للبعثة الدبلوماسية الروسية في نيويورك وميرلاند تحت التحفظ.

يبدو أن موسكو تشعر بخيبة أمل كبيرة اتجاه عجز الرئيس ترامب عن فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، تستهدف إلغاء العقوبات والمضي نحو الأمام، لكن ترامب لم يعد في وضع يسمح له بحرية الحركة، في ظل التحقيقات الجارية حول التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الأمريكية، والعلاقات المحتملة بين مسؤولين في إدارته وبين روسيا.

وكان واضحا أيضا أن موسكو تشعر بمدى فداحة العقوبات الجديدة، التي تستهدف قطاعات الصناعة والطاقة والاستخبارات والتعدين والسكك الحديدية، وتهدد بتفاقم خسائر الاقتصاد الروسي، التي تجاوزت أكثر من مائة مليار دولار خلال الثلاث سنوات الماضية.

يذكر أن العقوبات الاقتصادية على روسيا فرضت لأول مرة في إبريل عام 2014 من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا ردا على قرار روسيا بضم شبه جزيرة القرم، ودعم المتمردين في شرق أوكرانيا، والتدخل العسكري لاحقا في سوريا.

ورغم حماس الأوروبيين في البداية لتلك العقوبات، إلا أنهم يشككون حاليا في جدواها، بعد أن ألحقت بهم خسائر اقتصادية تجاوزت مائة مليار يورو، وهددت خططهم الرامية لتنويع مصادر الطاقة، ولم تنجح في إجبار موسكو على تغيير مواقفها في أوكرانيا.

وهي وجهة نظر يتبناها أيضا الرئيس ترامب الذي يرى أن العقوبات الاقتصادية لن تحقق شيئا، بل على العكس سوف تلحق أضرارا بالعلاقات التجارية بين واشنطن وموسكو، وسوف تكون أشبه بالعقوبات الاقتصادية ضد إيران والتي استغرقت ثلاثة عقود قبل عقد صفقة مع طهران بخصوص برنامجها النووي.

وهكذا فالأفضل من وجهة نظره التلويح لموسكو برفع العقوبات مقابل تعديل الأخيرة لمواقفها في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وسوريا في أسرع وقت ممكن.

لكن المشاعر الدافئة التي يبديها ترامب تجاه موسكو، وانتقاداته السابقة لحلف شمال الأطلسي تثير قلقا داخل الكونجرس، الذي يشعر جانب من أعضائه بأن المصالح التجارية الشخصية لترامب مع روسيا قد تتعارض مع اعتبارات الأمن القومي الأمريكي.

ولعل هذا هو ما دفع الجمهوريين والديمقراطيين في مجلسي الشيوخ والنواب للموافقة الساحقة على التشريع الأخير، ليس فقط بهدف فرض عقوبات جديدة على روسيا، وإنما لشل يد الرئيس الأمريكي عن إبداء أي مرونة تجاه تلك القضية.

وكان هذا متوقعا، فأعضاء الكونجرس يرون أن ترامب لا يبادلهم نفس التصور بأن روسيا تشكل خطرا على المصالح الأمريكية في الداخل والخارج، كما أنه لا يشاطر المجتمع الاستخباراتي الأمريكي تقييمه بأن الحكومة الروسية تدخلت في الانتخابات الأمريكية الأخيرة ضد منافسته هيلاري كلينتون.

وهذا ما يفسر الموقف الصارم للكونجرس في تعامله مع هذه القضية، إذ يرى أن رفع العقوبات أو تخفيفها عن روسيا سوف يكون بمثابة ضوء أخضر، يتيح لها أن تفعل ما تشاء وقتما تشاء دون أن تخشي أية عواقب.

كما أن رفع العقوبات سوف يتم التعامل معه من جانب الكرملين على أنه دليل جديد على ضعف أمريكا ورغبتها في الانعزال عن العالم مما يشجع روسيا على المضي قدما في ترسيخ نفوذها في مناطق جديدة من أوروبا وبالتالي تهديد الأمن القومي الأمريكي.

الأخطر من هذا أن التساهل مع روسيا سوف يكون بمثابة رسالة لأوكرانيا وكل حلفاء الولايات المتحدة بأن الأخيرة لم تعد شريكا يمكن الاعتماد عليه.

وهكذا قرر الكونجرس أن فرض عقوبات جديدة على روسيا مهم في هذه المرحلة من الفوضى التي يمر بها النظام العالمي الجديد، لحماية المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية العالمية لأمريكا.

وأيضا لردع موسكو عن التفكير بعد ضم شبه جزيرة القرم في أن تتحرك للضغط بشكل أكبر على كل من جورجيا ومولدافيا وبولندا وجمهوريات البلطيق.

المشكلة أن الرهان الأمريكي على أن العقوبات الاقتصادية سوف تشكل ورقة ضغط، لإجبار موسكو على تغيير مواقفها لم يتحقق، رغم ما سببته العقوبات من أزمة مالية وركود وتراجع في النمو واحتياطي النقد الأجنبي.

وفي ظل التقاطعات بين المصالح الروسية والأمريكية، باتت روسيا تشكل تحديا للسياسة الخارجية الأمريكية، ومع تباين وجهات النظر بين الكونجرس وبين الرئيس حول كيفية التعامل مع القضية، تبدو الأزمة مرشحة لمزيد من التدهور.

ومع غياب الرغبة أمريكية روسية في معالجة القضايا العالقة بالحوار، يبدو أن تدهور العلاقات بينهما سوف ينعكس بالسلب على سباق التسلح والأمن الأوروبي ومستقبل أوكرانيا والوضع في سوريا والشرق الأوسط.