أفكار وآراء

دروس من تجارب إصلاح

02 أغسطس 2017
02 أغسطس 2017

مصباح قطب -

عقد المركز الثقافي الهندي بالقاهرة منذ أيام حلقة نقاشية حول الدروس المستفادة من تجربتي الإصلاح الاقتصادي في البلدين. حضر الندوة السفير الهندي بالقاهرة “سانجاى باتشاريا” وتحدث فيها المفكر الدكتور عبد المنعم سعيد والدكتور أحمد الصفتي أستاذ الاقتصاد المساعد بجامعة القاهرة، وشخصيتان هنديتان من ذوي الاهتمام، وقد دعيت الى الندوة للتعقيب، ولأهمية المداولات التي تمت ان انقل للقراء بعض العبر من تجربتي البلدين وبصفة خاصة ما ينفع منها بلادنا العربية.

برزت في البداية أهمية التعرف على الإطار الدولي الذي تجري فيه عملية الإصلاح واللغة التي يتحدث بها الزمن الذي تجري فيه الإصلاحات وكيفية التجاوب مع كل ذلك وبما يحقق اعلى منافع وطنية من الإصلاح وجنبا الى جنب مع ذلك كان من الضروري التعرف على التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يتعين على البرنامج الإصلاحي مجابهتها داخليا ولأن مصر والهند تربطهما تحديات إصلاحية متشابهة كانت حزم الإصلاح على قدر من التشابه بغض النظر عمن كان اسبق وفاعلية النتائج هنا أو هناك .

الهند خضعت طويلا للاحتلال البريطاني وهو ذاته الذي خضعت له مصر وخرجت من عباءة الاحتلال لخوض تجربة التنمية المرتكزة علي الدولة والقطاع العام والتخطيط المركزي والسيطرة على عوامل الإنتاج والتوزيع وأيضا والتجارة الخارجية، وتلك أيضا هي تجربة مصر التي شرعت بعد رحيل آخر جندي بريطاني في توسيع دور الدولة فبدأت بتمصير الشركات الأجنبية القائمة ثم توسعت لاحقا وأممت الكثير من الشركات المصرية الخاصة. العبرة هنا أنه عند حد معين من نظام اقتصادي شمولي لا بد من التوقف وإعادة النظر.

استفاقت الهند في مطلع التسعينيات على وقع حقائق صادمة أولها ان جارتها الصين قطعت أشواطا بعيدة في التنمية الاقتصادية وفي الاقتراب من معايير المنافسة العالمية بينما تخلفت الهند في ذلك كما تراجعت فيها الإنتاجية وأصبح واضحا للحكام والخبراء أن نموذج الإنتاج للإحلال محل الواردات لم يعد مناسبا، فبدأت الهند للتو في برنامج إصلاح اقتصادي قوي فتح المجال واسعا منذ ذلك التاريخ للقطاع الخاص حتي اصبحت الشركات الهندية العالمية الخاصة ذات “البرندات “لا تقل قيمة أو شهرة عن الشركات الأمريكية والغربية عموما .

من المصادفات الغربية ان مصر أيضا بدأت عملية إصلاح اقتصادي منذ أوائل التسعينات في التاريخ نفسه الذي بدأت فيه الهند، بيد ان مصر توقفت عند الإصلاحات المالية والتقنية التي قامت بها وقتذاك مع خصخصة قدر من الشركات العامة لكنها لم تنجز إصلاحات تذكر على صعيد دعم الهيكل الاقتصادي الحقيقي وزيادة تنافسية البلاد .نؤكد هنا أهمية سلامة البداية ووجود رؤية طويلة المدى والاستمرارية فالإصلاح عملية لا تنتهي واقعيا.

جاءت الموجة الثانية للإصلاح في الهند على يد رئيس الوزراء الحالي “ مودي” الذي اطلق عدة برامج لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر وفتح باب الاستثمار بنسب وشروط مختلفة في قطاعات كانت مغلقة بوجه الأجانب مثل الدفاع والسكك الحديدية والميديا كما أسس منظومة جديدة لحوافز الاستثمار وقام بتعديلات ضريبية مثيرة وبمزيد من تحرير أسعار بعض السلع والخدمات المتبقية جنبا الى جنب مع شن حملة ضارية ضد الفساد كان احد اهم مظاهرها هو إعلانه سحب القطع الكبير من العملة الموجودة حاليا وإبدالها بعملات جديدة حتى يجبر مكتنزي الأموال والفاسدين علي إظهار ما في جعبتهم فضلا عن توضيح مصادرها .

في الجانب المقابل نجد ان مصر حاولت في الموجة الثانية من الإصلاح والتي بدأت منذ 30 يونيو 2014 تدارك ما فاتها ولتقترب كثيرا مما قامت به الهند في سنوات التسعينيات الأولى وكانت اكثر الخطوات راديكالية في هذا المسار تحرير سعر الصرف بشكل كامل وتحرير أسعار الوقود الى حد بعيد بحيث باتت اقرب بكثير الى أسعار التكلفة كما أسست مصر قانونا جديدا للاستثمار واتخذت إجراءات جديدة لدعم المنتج المحلي وتحفيز الصادرات والاستثمار الأجنبي المباشر وعمل تطوير جذري للبنية التحتية وبصفة خاصة في الموانئ والطرق والكهرباء عند هذا الحد من الأهمية ان نشير الى ان الهند تعد من أوائل دول العالم في مجال جذب الاستثمار الأجنبي المباشر وتحسنت مراكزها كثيرا علي مؤشر أداء الأعمال (دوينج بزنس ) وبدرجة اقل على مؤشر الشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد وهناك معالم براقة على طريق الإنجاز الهندي العبقري متمثلة في التفوق الساحق في إطلاق المركبات الفضائية على كل القوى الكبرى في هذا المجال والتقدم الكبير في مجال إنتاج البرمجيات بحيث ان نحو 60%من صادرات العالم عبر “ الاوت سورسينج “ تأتي من الهند . من جانب مصر فهناك تقدم بشكل دائم في صناعة التعهيد ولديها مشروع طموح لجعل منطقة قناة السويس واحدة من اهم المناطق اللوجستية في العالم واصبح وضعها في مؤشرات مختلفة يتحسن بيد ان مصر والهند معا يحتلان مراتب متأخرة للغاية علي مؤشرات التنمية البشرية فبالرغم من تفوق الهند في التعليم إلا ان مرتبتها كمصر متأخرة في معظم ما يخص البشر من مؤشرات (مسكن وعلاج وتعليم ومياه نقية وصرف صحي وكهرباء إلخ).

اكد المتحدثون من الجانبين على أهمية عنصر التوقيت في الإصلاحات وأهمية بناء المؤسسات والتشاور المجتمعي الواسع حول الخطوات الإصلاحية وتوضيح الرؤية المستقبلية لجميع أطياف الشعب وعدالة توزيع الأعباء الناجمة عن الإصلاحات ومن المؤكد أن الهند أكبر ديمقراطية في العالم كما يقال وبها يسار قوي سواء على المستوى المركزي أو المحلي ويستطيع ان يشارك بوعي في توجيه الإصلاحات أو بالأحرى يضغط كي تكون الإصلاحات في صالح الأغلبية العظمى في الشعب وليست لخدمة أقلية أو مستثمرين أجانب.

في مصر أيضا نقاشات لا تنقطع حول الإصلاح والى أي حد تنبع من إرادة وطنية وتحقق العدالة؟ والى أي حد أيضا تستجيب لشروط صندوق النقد الدولي؟ لكن البلدين عموما يتفقان في أنهما أصبحا يقفان بقوة ضد الشعبوية وهي أمر مختلف عن الشعبية أي ضد الأفكار غير الناضجة والتي يتم ترويجها مداهمة للفقراء أكثر مما هي تعبير عن وجود طموحات بديلة وتضر أي مسار للإصلاح .

كان تعليقي في ثلاث نقاط : الأولى: ان على كلا البلدين ان يلاحظ ان وصفة الليبرالية الجديدة المتضمنة تحرير الاقتصاد وتحرير الأسعار وإلغاء الدعم وتحرير التجارة الخارجية وضبط الموازنة العامة وتحرير سعر الصرف ورقابة شبكات للحماية الاجتماعية (وليس للعدالة الاجتماعية) كل ذلك اصبح معروفا لكل الدول ويأخذ بها الجميع تقريبا ربما ما عدا كوبا وكوريا الشمالية، وبالتالي سيأتي وقت يتوقف فيه اثر تقديم حوافز مهما كانت للأجانب كمستثمرين وعليه أرى ان يفكرا من الآن في الإنتاج لإشباع المواطنين المحليين وفقا للمعايير العالمية ودون تعويل كبير على الصادرات. والجانب الثاني انه لا يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادي دون إصلاح عمراني وهناك مشكلة بالفعل كما شاهدت في الهند وكما عايشت في مصر في هذا الجانب لذلك لا بد من فلسفة عمرانية جديدة تنسجم مع الحداثة وتستجيب لمعطيات الموروث العمراني الجبار للبلدين. وأخيرا لا يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادي دون الحديث عن المنظور المستقبلي لمزيج الطاقة وأعلم أن لدى الهند برنامجا طموحا للغاية لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية ولدى مصر برنامج متواضع لكن البلدين يمكنهما بالتعاون معا أن ينجزا الكثير في هذا المضمار المهم لهما وللبشرية .

ان طاقة جديدة رخيصة نظيفة وكافية ستكون بمثابة ميلاد جديد للبشرية وقيمها وتطلعاتها، وأحرى بالهند ومصر كأعرق حضارتين، أن تلعبا دورا رياديا في هذه الناحية.

[email protected]