الملف السياسي

الدروس المستفادة من مواجهة الأقصى

31 يوليو 2017
31 يوليو 2017

أ.د. حسني نصر -

إن المقاومة بكل صورها الإيجابية منها والسلبية هي الوسيلة الوحيدة التي تفهمها إسرائيل جيدا وتخشاها، وهي ما يجب أن يعول عليه الفلسطينيون في المقام الأول في مواجهة الاحتلال.

من حق الفلسطينيين أن يفرحوا ويحتفلوا بانتصار، حتى وان كان انتصارا مؤقتا، طال انتظاره على سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن أجبروها بصمودهم أمام بوابات المسجد الأقصى الشريف الخميس الماضي على فتح أبواب أولى القبلتين وثالث الحرمين، وإزالة البوابات الإلكترونية والكاميرات الذكية التي كانت قد نصبتها في مداخل الحرم المقدسي على مدى الأسبوعين الماضيين. ورغم الانتصار الذي حققه المقدسيون الذين رابطوا على مدار أيام الأزمة أمام المسجد الأقصى حتى تحقق لهم النصر ودخلوا من أبوابه مكبرين ومهللين، فانه يمكن القول إن المواجهة حول الأقصى لم تنته بعد وربما لن تنتهي في ظل استمرار المطامع الإسرائيلية في الحرم القدسي والتواجد العسكري المكثف حوله، وهو ما يزيد احتمالات تجدد المواجهات. ومع ذلك فإن الأزمة الأخيرة كانت ذاخرة بالدروس المستفادة، التي يجب أن نضعها نصب أعيننا، حتى نستطيع مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية القادمة التي تبدو حتمية.

يمكن تلخيص الدروس الأربعة التي يمكن الخروج بها من مواجهة الأقصى، في عبارة جامعة تقول إن هذه المواجهة كانت محنة ومنحة في نفس الوقت، إذ أنها نجحت في إعادة القضية الفلسطينية برمتها إلى الواجهة الدولية مرة أخرى، بعد أن غابت أو كادت عن أجندة الاهتمامات الدولية والإقليمية، وأن لغة المقاومة ستبقى إلى أن يتم التوصل إلى حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية خيارا رئيسيا قادر على كبح جماح الصلف الإسرائيلي، وأن الوقت قد حان لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، كما أن الموقف العربي والإسلامي ما زال مهما وفاعلا إذا أحسن استغلاله والتعبير عنه، وإنه بدون إعلام عربي قوي ما كان لإسرائيل أن تتراجع عن إجراءاتها الإجرامية في المسجد الأقصى.

في تفصيل هذه الدروس يمكن القول إن الدرس الأول المستفاد هو أن الصراع حول الأقصى والاعتداء على حقوق الفلسطينيين فيه، يبقى مثله مثل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، جزءا لا يتجزأ من الصراع الأكبر على الأرض والسيادة، وما لم يتم التوصل إلى حل عادل ودائم لهذا الصراع يعيد الحقوق إلى أصحابها وفقا للقرارات الأممية والاتفاقات الثنائية التي وقعتها إسرائيل منذ أكثر من ربع قرن، فإن مثل هذه المواجهات سوف تستمر بشكل أو بأخر وسيدفع فيها جميع أطرافها بما في ذلك الإسرائيليين نصيبهم من كلفتها البشرية والمادية. نعلم أن هناك خططا إسرائيلية لتغيير الوضع القائم في القدس خاصة فيما يتعلق بالمسجد الأقصى وأنها تستغل الحوادث الفردية لدعم هذه الخطط وفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين، ولكن التراجع في المواجهة الأخيرة يؤكد حقيقة مهمة للإسرائيليين وهي أنهم رغم ما يمتلكون من قوة لا يمكن أن يغيروا الوضع القائم في الأقصى المبارك، وسيكون عليهم أن يفكروا كثيرا قبل أن يقدموا على خطوات مماثلة تثير عليها الغضب الفلسطيني والإسلامي والعالمي. وقد أعادت مواجهة الأقصى القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعد أن كادت أن تنسى خاصة في ظل الأزمات الإقليمية والحروب المشتعلة في أكثر من مكان.

الدرس الثاني هو أن المقاومة بكل صورها الإيجابية منها والسلبية هي الوسيلة الوحيدة التي تفهمها إسرائيل جيدا وتخشاها، وهي ما يجب أن يعول عليه الفلسطينيون في المقام الأول في مواجهة الاحتلال. فإسرائيل من خلال التجارب الطويلة لا ترضخ ولا تنصاع لضغوط دولية إلا في ظل وجود مقاومة فلسطينية واعية قادرة على إيلامها. وقد ضرب المقدسيون المثل على تنظيم نوع جديد من المقاومة يجمع بين حكمة شيوخ الأقصى الشريف الذين رفضوا دخول الأقصى من البوابات الإسرائيلية الإلكترونية وبين استجابة المقدسيين شيوخا ونساء وشبابا لهذا الموقف، وبين استجابة السلطة الوطنية الفلسطينية وإعلانها وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل والتزامها بموقف شعبها الرافض لنزع حقهم في السيادة على الأقصى. والواقع أن موقف حكومة الرئيس محمود عباس في أزمة الأقصى أعاد هذه الحكومة لشعبها وأكد قدرتها على اتخاذ مواقف قوية وقت الشدة. وهنا من الضروري تثمين التصريح المهم الذي أدلى به الرئيس عباس وتأكيده رفض تركيب البوابات الإلكترونية على بوابات المسجد الأقصى وان السيادة على المسجد من حق الفلسطينيين وحدهم، وقوله: «نحن من يجب أن يراقب ونحن من يجب أن يقف على أبواب الأقصى». هذا التناغم في الموقف الفلسطيني الذي عززه موقف حركة المقاومة الإسلامية «حماس» كان له أبلغ الأثر في إجبار حكومة نتانياهو على التراجع وإزالة البوابات الإلكترونية. لقد كشفت المواجهة عن القدرة الهائلة التي يمتلكها أصحاب الأرض والحق في فرض إرادتهم ومواجهة الترسانة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة، وإجبارها على التراجع وهو الدرس الذي يجب أن يدفعنا إلى ضرورة التمييز وإزالة الخلط بين مفهومي مقاومة المحتل وبين الإرهاب، وهو الخلط الذي تروج له إسرائيل منذ فترة طويلة.

الدرس الثالث يتعلق بالموقف العربي والإسلامي من المواجهة الأخيرة في الأقصى. صحيح أن إعلان المواقف تأخر كثيرا ولم يتبلور بعضها إلا بعد تراجع الحكومة الإسرائيلية بالفعل عن إجراءاتها، ومع ذلك فإن الأمر يبدو مختلفا في هذه المواجهة. في كل مرة كان يتعرض فيها المسجد الأقصى الشريف للاعتداءات الإسرائيلية كانت الأمة العربية والإسلامية تصحو من سباتها العميق لتمارس هوايتها في الشجب والتنديد وربما التظاهر المحدود في شوارع بعض المدن، وبعد أن ينجح المقدسيون في استعادة السيطرة على الحرم وطرد قطعان المستوطنين اليهود من على أبوابه، تعود الأمة إلى فضيلتها المتوارثة في النوم العميق لحين معاودة إسرائيل استفزازاتها مرة أخرى. هذه المرة واجهت الحكومة الإسرائيلية المعتدية ضغوطا هادئة وربما غير معلنة من جانب دول ومنظمات إسلامية وعربية عديدة أكدت جميعها على مطلب رئيس واحد وهو إعادة الأوضاع في محيط الأقصى الشريف إلى ما كانت عليه قبل اندلاع المواجهة الأخيرة. ورغم الانتقادات التي وجهها نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي لدول ومنظمات عربية فان الأمانة تقتضي الإشارة إلى أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بادرت في اليوم الأول للمواجهة إلى إدانة واستنكار إغلاق المسجد الأقصى أمام المصلين ومنعهم من أداء صلاة الجمعة، وأكدت ضرورة وقف محاولات تغيير الوضع التاريخي القائم للمسجد الذي أكدته قرارات الشرعية الدولية، ثم انتظرت الجامعة أسبوعين تقريبا لتعقد اجتماعا طارئا الخميس الماضي على مستوى وزراء الخارجية انتهى إلى مطالبة إسرائيل «بعدم إغلاق المسجد الأقصى مجددًا، وإلزامها بوقف سياساتها واعتداءاتها على مدينة القدس».

الدرس الرابع والأخير أن علينا أن نحافظ على وسائل الإعلام العربية ذات الطابع العالمي التي لعبت دورا كبيرا في كشف الممارسات الإسرائيلية في محيط الأقصى المبارك، ونقلت إلى العالم وباحترافية كبيرة ما قامت به القوات الإسرائيلية من اعتداءات على المصلين والمرابطين، وشكلت رأيا عاما عربيا وعالميا مساندا للحقوق الفلسطينية في الأقصى الشريف. ورغم الانتقادات التي يوجهها البعض لهذه الوسائل ، فإن دورها في القضايا العربية المصيرية مثل القضية الفلسطينية يبقى مهما ومطلوبا، وهو ما يدفعنا إلى الحفاظ عليها، حتى وان اختلفنا مع بعضها، كمنصة تصل بقضايانا العادلة إلى العالم كله.