المنوعات

40 عاما من أجل كتابة قصة قصيرة

28 يوليو 2017
28 يوليو 2017

القاهرة - حسن عوض:-

في الحياة الثقافية المصرية هناك صداقات كبيرة نتاج تقارب جيلي، أو فني، أو سياسي، ومن بين هذه الصداقات الكبرى ما يجمع الروائي محمود الورداني بالفنان التشكيلي عادل السيوي.

يزيح الفنان التشكيلي المصري الأبرز عادل السيوي الستار عن حكاية منسية جمعته بالورداني أثناء مظاهرات الخبز. اندلعت مظاهرات شعبية ضد الغلاء، على مدار يومي 18 و19 يناير 77، في كثير من المدن المصرية. خرج الأهالي ليقولوا «لا» لمشروع ميزانية يرفع أسعار كثير من السلع الأساسية، وأضرموا النيران في كل شيء يقابلهم، وبالطبع تصدت الدولة لهذه المظاهرات ووصفها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات بأنها «انتفاضة الحرامية».

كان عادل السيوي في اليوم الأول «18 يناير 77» يغلق على نفسه باب حجرته في منزله بضاحية المنيل، حيث كان في الصف النهائي من دراسته بكلية الطب. يقول: «لم أشاهد التلفزيون. لم أستمع إلى الراديو. لم أقابل الأصدقاء. عزلت نفسي تماماً في ذلك اليوم. أنا أتذكر التاريخ جيدا لأنه كان يوم الامتحان الأخير، وقد اتخذت قراراً بأنني لن أعود إلى الامتحانات طيلة عمري، كنت قد شعرت بالزهق وكانت لديَّ رغبة كاملة في التحرر».

كان الامتحان في مستشفى قصر العيني القريب من «المنيل». وكان سيُقام في ساعة مبكرة. يضحك السيوي: «لا أعلم لماذا يمتحنوننا بعد الفجر مباشرة». خرج عادل قبل شروق الشمس مقرراً أن يقطع المسافة إلى المستشفى القريب سيرا، ولكنه فوجئ بأرصفة الشوارع متهشمة، والشارع مليء بالأحجار، كأن المشهد لوحة لحطام بعد معركة بين عمالقة، وفوجئ في هذا الوقت المبكر بأن محمود الورداني يسير من الناحية الأخرى للشارع. ناداه، فانتبه محمود، وعبر أحدهم الشارع إلى الآخر، وسأل عادل: «إلى أين تذهب في هذا التوقيت؟!» فقال محمود: «إلى مدرسة أحمد ماهر». كان محمود يعمل بهذه المدرسة حسب ما قاله السيوي الذي ركل حجراً بقدمه في هذه اللحظة. تبادلا كلمات وهمهمات، محمود تحدث بسرعة عما جرى بالأمس في الشوارع وفهم عادل سر تكسير الأرصفة، والفنان التشكيلي تحدث عن امتحانه وضرورة أن يتحرك بسرعة على أمل في لقاء قريب.

كان الامتحان عبارة عن كشف طبي على مريض حقيقي. شخص يوفره المستشفى، وكان لا بد أن يضع له الطالب خمسة أو عشرة جنيهات تحت «الوسادة». المريض يرفع الوسادة وإذا وجد المبلغ فإنه يتعامل ببساطة ويستفيض في شكواه للطالب، بالأدق يساعده مساعدة كبيرة، ثم يأتي الأستاذ ليسأل الطالب عما فعله، ويمنحه درجة الامتحان. غير أن عادل واجهته مشكلة ضخمة، حيث اكتشف أنه خرج من المنزل بدون مال، وكانت عودته مستحيلة. نظر المريض أسفل الوسادة ولم يجد شيئاً، وهكذا قرر أن يصعِّب الأمور على السيوي الذي سأله: «بماذا تشعر؟»، فقال: «بذهْوَلَة في بطني». كان مصطلح «الذَّهْوَلة» غريباً، وليس موجوداً في القاموس الطبي، بل إنه ليس موجوداً في اللغة من الأساس، وسأله السيوي باستنكار عظيم: «ماذا؟!»، فكرر المريض نفس الإجابة. فهم السيوي الأمر، وكان عليه أن يتعامل مع المسألة، غير أنه في تلك اللحظة دخل ممرض إلى العنبر وصاح بذعر: «الناس يحرقون سيارات الأطباء في الأسفل». هرول جميع «الأساتذة الأطباء» ليروا ما جرى لسياراتهم، وبقي أستاذ واحد هو الدكتور محمد حجازي الذي كان شجاعاً للغاية، وجمع الطلاب حوله وبدأ يتحدث باندهاش عما يفعله الناس في انتفاضتهم: «لا أعرف لماذا لا يفرقون بين الأطراف المختلفة؟ ما الذي فعله لهم الأطباء ليحرقوا سياراتهم؟ إنهم يأتون إلى هنا ويحصلون على كشف وأدوية مجانية ورعاية عظيمة فلماذا يفعلون ذلك؟ هذا جنون». يعلق السيوي: «كان ممتازاً في ردة فعله». المهم.. جاء أستاذ عادل بعد قليل وسأله عما فعله مع المريض على استعجال، وعادل بدأ في تأليف قصة تخصه، وسأله الأستاذ عن الأدوية التي صرفها للمريض، وهكذا.. حتى منحه التقييم، ليخرج إلى الشارع متنفساً الحرية التي يطمح فيها أخيراً.

لم تنته القصة إلى هنا، وامتدت فصولها حوالي 40 عاماً. كان لدى السيوي دائماً سؤالان كبيران. ما السر في رباطة جأش الدكتور محمد حجازي، ولماذا لم يهرول مثل زملائه إلى الأسفل؟ وما الذي كان محمود الورداني يفعله في هذا التوقيت المبكر للغاية بالمنيل؟ حصل السيوي على إجابة سريعة عن سؤاله الأول من الدكتور محمد أبو الغار أستاذه في «الطب» وصديقه الحالي، غير أن محمود ماطله طويلاً في إجابة السؤال الثاني.

قال أبو الغار للسيوي: «تسأل لماذا لم يهرول حجازي مثل الباقين؟ الأمر بسيط للغاية. حجازي هو الوحيد الذي لم يكن يمتلك سيارة في ذلك التوقيت!». ينفجر السيوي ضاحكاً وهو يحكي. أما محمود فبدأ يصيب عادل بحالة من القلق لأنه سأله على مدار سنوات أكثر من مرة: «ماذا كنت تفعل يا محمود في المنيل في هذا التوقيت؟»، ومحمود أجابه في جميع المرات، ومنها مرة في عيد ميلاده الستين: «المنيل؟ أنت قابلتني في المنيل 19 يناير 77؟ هذا لم يحدث على الإطلاق». بدأ السيوي يفكر: ربما يكون الأمر من قبيل التهيؤات نظراً لأنه كان مضغوطاً في الامتحانات وقتها، ولم ينم جيداً، وربما صور له عقله المشوش مقابلة الورداني، الذي بدأ يبالغ في إجاباته بمرور الوقت، حتى أنه قال له باستنكار مرة: «هل ستخبرني بهذه القصة العجيبة كلما رأيت وجهي؟! أنا لم أقابلك في المنيل!»، ولكن السيوي لم يقتنع وظلت حالة الارتياب تسيطر عليه حتى أيام مضت قابل خلالها الورداني وعاد ليسأله نفس سؤال الأعوام الأربعين الماضية، وقرر محمود أخيراً أن يفك طلاسم اللغز مبتسماً: «حسنٌ.. سأخبرك. كانت معي أموال تخص حزب العمال، وكان مطلوباً مني توصيلها بدون أن يعرف أحد من المحيطين بي سواء أقاربي أو أصدقائي. مجرد مقابلتي لك كان أمراً خطراً، ولم يكن عليَّ أن أخبرك، ولكن تحت إلحاحك ها أنا أخبرك»، ثم انفجرا سوياً في الضحك.

أربعون عاماً مرت والورداني ينفذ تعليمات الحزب السري، والسيوي يعيش بعقل يتصور أنه يخدعه، والقصة تكتمل على مهل.